الأبعاد الحضارية لتكريم العلماء والمجتهدين

 

  تأتي هذه المقالة على هامش حصول الإمام حسن الشافعي (ولد 1930م) على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، ليست بحثًا في جهوده وأعماله، فهذه لها مجال آخر وتزخر بها صفحات شبكة المعلومات، لكن في محاولة للبحث في ظلالها وتداعياتها الحضارية والتي تنطلق من مبدئية التكريم للعلماء والمجتهدين، وأثر ذلك في الواقع الإسلامي وعلى الأجيال الناشئة والمشهد الفكري والثقافي العام.

 

تكريم العلماء في الذاكرة الحضارية للأمة

ارتبط الازدهار العلمي في الحضارة الإسلامية بتفعيل المبدأ القرآني {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. والذي أشاع في المجتمع الإسلامي والإنساني تقدير العلم، والسعي نحو الاكتشاف في النفس والطبيعة لخدمة الإنسان، كل الإنسان، فما أنتجه العقل المسلم في قرون الازهار قامت عليه الحضارة المعاصرة، ولم يثبت فيه إلا النفع الإنساني على إطلاقه، وحفز الإنسان إلى الهداية الربانية والإنسانية والكونية، أي معرفة الله، ومعرفة الإنسان، ومعرفة الكون.

     لم يتخلف المسلمون عن هذا التقدير، وهذا المبدأ حيث نال العلماء والمجتهدون تقديرًا كبيرًا من الخلفاء والأمراء، وكان ذلك سببًا في حفز العقل المسلم إلى فتح آفاق جديدة في العلوم والمعارف لم يسبق إليها أحد، في الطبيعيات والرياضيات والفلك والهندسة والكيمياء، ووضعوا أصولًا للعلوم ما زالت تدرس حتى اليوم في أكبر الجامعات في أوروبا، بالإضافة إلى ترجمة هذه الأصول إلى لغات مختلفة، وقدمت لها شروح مختلفة بكل الثقافات.

 

الأبعاد الحضارية

  إن مبدئية تكريم العلماء وأصحاب الجهد الفكري في الأمة، لا يتعلق بصاحب الجائزة أو العالم والباحث المكرم، وإنما يتعلق بحالة حضارية فاعلة في التربية والثقافة في الواقع الإسلامي، نحاول أن نلحظ بعضًا منها كما يلي:

إن مبدئية تكريم العلماء والمجتهدين- أيضًا- تعيد بلا شك الاعتبار المفقود في الأمة للعلم كقيمة في ذاته، وللأعلمية الفردية التي يبذل فيها الباحث جهدًا كبيرًا في طريق شاق حتى يحققها، وأن التكريم هو شهادة اجتماعية إسلامية لمستحقيها، وأن إعادة الاعتبار للعلم والأعلمية في ذات الوقت إعادة الموازين المجتمعية الإسلامية إلى نصابها المفقود، ورد الشيء إلى أصله، فالمجتمع الإسلامي ما قام، وما عرف بتلك الصفة إلا بالعلم والعلماء، والذين يناط بهما دفع المجتمع الإسلامي إلى تحقيق غايته الكبرى في الهدايات الثلاثة: الإلهية، والإنسانية، والكونية. ودون هذا الاعتبار – للعلم والأعلمية- يفقد المجتمع المسلم كل شروط شهوده وبلاغه ووسطيته.

   إن الجهد المبذول من قِبل العلماء والمجتهدين – في شتى صنوف المعرفة والعلوم- هو من باب النفع العام للناس، الذي يمكث في الأرض باعتبار أنهم يحققون الهدايات الثلاث – الإلهية والإنسانية والكونية- وأن إعلان الاحتفاء بتلك القيمة، من شأنه أن يحفز العقل المسلم العام على البحث في سبل النفع العام وإرساء قواعده في حركة الناس، بما يخفض من قيمة الباطل وأركانه، الذي يسعى لاستغلال الناس وتكريس تخلفهم عن تلك الهدايات.

يعاني عالم “القدوة” في المجتمع الإسلامي باضطراب شديد، يصل إلى درجة التضاد لأهداف وقيم الإسلام، فعولمة القيم أخلت بالقيم الحضارية للأمم والشعوب، ومن بينها قيم الأمة الإسلامية، ومن ثم يُعيد مبدأ تكريم العلماء والمجتهدين العاملين “عالم الاقتداء” للنشء والشباب إلى نصابه، أو على الأقل يطرح مجالًا لقيمة التدافع بين قيم العولمة وقيم الإسلام. فلا تنفرد قيم العولمة المضطربة والمغايرة لثقافتنا الإسلامية بالشباب والنشء.

إن مبدئية تكريم العلماء والمجتهدين في المجتمع، إعلاء لقيمة الإنصاف والعدالة، لاسيما إذا لم تخضع لأية تحيزات فكرية أو سياسية وهو ما يجب أن يكون في هذا التكريم، فكأن المكرم هو الفكرة، وأن صاحبها يكرم من أجل تلك الفكرة التي قدمها للناس، لا من أجل شخصه أو طبقته أو تحيزاته الفكرية والسياسية.

إن جهد العلماء والمفكرين يتجاوز حدود النفع الخاص سواء الفردي أو الوطني ليصل إلى النفع الإنساني والحضاري العام، كما أنه يتجاوز حدود النفع المادي الضيق إلى النفع المعنوي والفكري، وإن الاحتفاء بهذا الجهد المقدم هو إعادة بناء لمفهوم “النفع” الذي انحسر وانحصر في ظل النزعة المادية المهيمنة على حركة الإنسان المعاصر على مبدأ النفع المادي الخاص الذي يعرف بتراكم رأس المال الذي أصبح هو القيمة العليا للحضارة المعاصرة، ليكون نفعًا إنسانيًا وحضاريًا ومعنويًا.

يُحيّ مبدأ تكريم العلماء والمجتهدين قيمتي “الأمل والعمل” في واقع الأمة، في ظل موجات اليأس والتردد اللذان يمثلان الحالة النفسية العامة لشباب الأمة، حيث تبعث الجوائز والأوسمة ووجوه التكريم المختلفة “الأمل” في نفس الإنسان وتدفعه إلى مزيد من العمل الجاد، وبذل الجهد الوافر حتى يستظل بهذا المناخ الفريد من الاحتفاء والاهتمام.

 

دعوة وأمل

تتلخص هذه الدعوة في حفز القادرين في الأمة، والمستطيعين من أبنائها في تأسيس جوائز متنوعة لأعمار مختلفة تتعلق بالعمل الفكري، وليكن ذلك في كل قرية وكل مدينة وكل حي، وأن تحمل هذه الجوائز أسماء الرواد والعلماء المسلمين الذين قدموا للأمة جهودًا في مجالات العلم الإسلامي (على اختلافه وتنوعه)، وأن يكون ذلك مصدر إشعاع للعلم والمعرفة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، بحيث يتم استدعاء كل الأبعاد الحضارية المذكورة في تلك المجتمعات الظمأى لمناخ مغاير ومختلف.

  

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) باحث وأكاديمي- جامعة دمياط- مصر.

Exit mobile version