أنا وهو.. شاكر ذلك الشامخ

 

التراث العربي الإسلامي حافلٌ بأسماء عظيمة، سواء في الأزمان الغابرة، أم في الأعصر الحديثة. ولقد التقيت كثيرًا من المحدثين كفاحًا، فبلغت مع بعضهم حدود المعرفة أو كدت، ولم أجاوز مع بعضهم حدود الخطف، على أن المعرفة والخطف في بابة التأثير ليسا مرتهنين بتكرار ولا طول زمن؛ فقد يكون للقيا مرة ما ليس للقى تعدَّدت، ولا للقى امتدت ورحبت، ورحم الله الشاعر القديم الذي وصل إلى غاية المدى، فقدَّم الأذن على العين “والأذن تعشق قبل العين أحيانًا”.

وأنا مع الشيخ محمود شاكر -برَّد الله ضريحه، وجعله في أعلى عليين- لست ابن بُرْد البصير، الذي أحبَّ بأذنيه، ولم ير بعينيه، فقد رأيته بعيني، وسمعته بأذني. 

ليست “الشين” في اسمه، وفي “الشامخ” هي التي جعلتني أربط بينهما في العنوان، وإن رأيت في ذلك جمالًا استحسنته، بيد أنَّ الأمر أعمق من ذلك وأخطر؛ إنَّه في تلك العلاقة الوثيقة التي لا تنفك ولا تقبل الانفكاك بينه وبين الشموخ؛ فأنا لا أعرف -وأحسب أنَّ كثيرين معي- أحدًا في القرن الماضي يتمثَّل فيه شموخ العربية وشموخ التراث، والانتماء لهما، كما تمثَّل فيه. الشيخ محمود شاكر وحده هو الذي وصل بالاعتزاز بالعربية والتراث إلى أبعد مدى، ودفع ودافع عنهما، كما لم يدفع ويدافع عنهما أحد في قرنه على الأقل.

لن أدَّعي -كما يفعل كثيرون- أنِّي تلمذت له، ولن أقول: إنِّي كنت جليسه، وأدلِّل على هذا وذاك بنشر صورة لي معه، ومع مريديه؛ لتأكيد الدعوى؛ فأنا لم ألقه سوى ثلاث مرات: مرة في أوائل ثمانينيات القرن الماضي بمقَرِّ معهد المخطوطات العربية في الكويت، وكنت يومها في مطالع عشرينيات عمري، ومرة في منتصف التسعينيات، في بيته العامر بمصر الجديدة، برفقة الدكتور عدنان درويش مدير إدارة التراث القديم في وزارة الثقافة السورية ومحقِّق كليات الكفوي، وتاريخ ابن قاضي شهبة وغيرهما. ومرة في جامعة الدول العربية قبيل وفاته، المرتان الأوليان كان فيهما بعض كلام، والأخيرة كانت رؤية صامتة.

شاكر يسكن قلوب الكثيرين ممن رأوه وممَّن لم يروه أصلاً ممَّن يحبونه وينتمون مثله إلى التراث وممَّن يبغضونه ويخالفونه

وأحسب أن ظلال هذه اللقى المعدودة السريعة -إضافة إلى قيمة الرجل في ذاته وفيما قدَّمه من خدمات جليلة للتراث- بما تحيل عليه من تقصير مني، وشعور -ربما- بالتأنيب، وراء رغبتي في كتابة هذه الكليمات؛ لعلِّي أكفِّر عمَّا فات من جهة، وأتلذَّذ بافتراض تلمذة ونحن نعيش اليوم عصر العالم الافتراضي من جهة أخرى.

يسكن شاكر قلوب الكثيرين ممن رأوه، وممَّن لم يروه أصلاً، ممَّن يحبونه وينتمون مثله إلى التراث، وممَّن يبغضونه، ويخالفونه في الرؤية والمذهب والطريقة، لكنَّهم لا يملكون إلَّا أن يعترفوا له ويدينوا بالأستاذية والعلم وإن ألبسوا ولبّسوا الحق بالباطل، وضمَّنوا المديح الظاهر غمزًا باطنًا وطعنًا خفيًّا.

بين الرغبة والرهبة

في الكويت حيث اللقاء الأول سيطر هاجس الهيبة. شاب في أوائل العشرين ممتلئ قلبه حبًّا للغته ولتراثه ولرموزهما، غير أن الشيخ شُهر في الوقت نفسه بقسوة لسان، ولذلك تذبذب الشاب بين الرغب والرهب، ثم إن الرغب غلب فسلّم، وما مكث إلا قليلاً خوفًا من جهل معلومة أو خطأ لغة.

كان مدير المعهد يومها د. خالد عبد الكريم جمعة -رحمه الله- وهو من تلاميذه، ويحسب الشاب أنَّه قد دعاه لزيارة المعهد الذي كان في أول المرحلة التي استضافته فيها الكويت، ولقد بقي الشيخ في المعهد نحو أسبوع، يجلس على أحد الكراسي في غرفة المدير وبين يديه كتاب أو أوراق يقلِّبها. وما زال الشاب يذكر أنَّ المدير طلب منه -وكان أمين المكتبة ومسؤولًا عن مجلة المعهد المحكَّمة- أن يأتي بالبحوث التي تقرَّر أن تنشر في العدد المقبل، ويعرضها على الشيخ، فوجد نفسه مرة أخرى في مأزق الرغب والرهب، وبعد تردُّد ما كان أمامه من سبيل سوى حمل البحوث والنزول بها من الدور الخامس إلى الرابع حيث الشيخ، طرق الباب ودخل وهو يسترق النظر إلى الشيخ، كانت خشيته منه أكبر من خشيته من المدير. ورآه ينظر في البحوث، فإمَّا رضي عن بحث -وقليلًا ما يكون- وضعه على جنب، وإمَّا غضب عليه -وكثيرًا ما يكون- ألقى به، وقد تميَّز من الغيظ، وكأنَّه يرميه. رسخت هذه الصورة في عقله وفي قلبه لم تفارقه، وكأنَّها كانت أمس.

في اللقاء الثاني (مصر) كان السيد الرغبة، وإن لم تخلُ الرغبة من الرهبة القديمة، على الرغم من أن بين اللقاءين عقدًا من الزمان، والحق أن حضوره كان حضور الشاهد، الحوار والحديث في جُلِّه بين الشيخ وعدنان درويش، غير أن الصورة التي لم تغادره حتى اليوم، صورة الوداع فقد خرج الشيخ لوداعنا، وفي لحظة العناق كان السقوط، يومها شعر بأنَّ رحيل الرجل قد اقترب.

أما في اللقاء الثالث (مصر أيضًا) فلم يكن إلا النظر من بعيد والمصافحة، ذلك أنَّ المحفل كان عامًّا، لا يتسع لأكثر من السلام، ولا مجال فيه لحديث.

الفجيعة في شاكر فهي أعظم إذ هي متصلة بتراث الأمة وأصالة فكرها وحراسة حدودها وهويتها الحضارية

ما وراء اللقى

هي ثلاث لُقى، يمكن وصفها بأنَّها ظاهرية وقشرية، غير أن الخير كله كان في ما وراءها، فقد اقتربت منه، بل عرفته في مقدمة كتاب المتنبي الخالدة “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”، وفي “نمط صعب ونمط مخيف”، وفي “أباطيل وأسمار” وفي مقالاته التي نُشِرت في مجلة الرسالة وغيرها، والتي جمعها في ما بعد عادل سليمان جمال في “جمهرة مقالات محمود شاكر” كما خبرت علو كعبه في الدقة والضبط في تحقيقه “جامع البيان في تأويل القرآن” للطبري، وفي “طبقات فحول الشعراء” لابن سلام الجمحي، وغيرهما، كما عرفته في تلاميذه، وعاينت مكانته العظيمة في قلوبهم وعقولهم، ومنهم عبد الله يوسف الغنيم، وعبد الله محارب (الكويت) ومحمود الطناحي، وعبد الحميد بسيوني، ومحمد جمال صقر (مصر)، وعبد الله عسيلان (السعودية)… وغيرهم.

رَحل الشيخ عن عالمنا عام 1997 من القرن الماضي؛ فكان فقده كفقد قيس بن عاصم المنقري الذي قيل فيه البيت الذائع:

فما كان قيس هُلْكُه هُلْكُ واحد *** ولكنه بنيان قوم تهدَّما

بيد أنَّ الفجيعة في قيس كانت فجيعة في خسارة السيادة والعقل والجود والحِلْم والحكمة، أمَّا الفجيعة في شاكر فهي أعظم، إذ هي متصلة بتراث الأمة، وأصالة فكرها، وحراسة حدودها، وهويتها الحضارية، حتى إني لأزعم، غير مبالغ ولا شاط أنَّ أحدًا في القرن العشرين لم يترك أثرًا كذاك الذي تركه شاكر، وأنا أقصد -بالطبع- في بابة التراث تحديدًا.

فهل يجود علينا الزمان بشاكر آخر في القرن الحادي والعشرين؟

 ليس ذلك على الله تعالى بعزيز.

 

 

 

 

______________________________

(*) مدير المشروعات في دار المخطوطات بإسطنبول، مدير معهد المخطوطات العربية بالقاهرة (سابقًا)، مدير معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة (سابقًا).

Exit mobile version