رواية “حربوب”.. قصة فتية آمنوا بربهم في عصرنا

 

واحدة من روايات أدب السجون في تونس، وهي تؤرخ لحقبة تاريخية مظلمة، وبنسبة 100% من الموضوعية حيث غابت عن الرواية الخيال وإن لم يغب عنها الأدب وجمال الأسلوب والتمكن من اللغة.

بطل رواية “حربوب” شاب من الجنوب التونسي، كان مقبلاً على الحياة مستبشراً، ولكنه مدرك لأوجاع الفقر والحاجة التي تلف عائلته كثيرة العدد، وأتراح الناس في قريته الصغيرة الرابضة في أقاص بعيدة من الجنوب (التونسي) المنسي الواقع على تخوم القنوط وجور المكان وانحصار القدرة على الفعل، وقد تطاول على أهله ليل الاستبداد والقهر. 

في سنوات شبابه الأولى وعندما كان طالباً في الثانوية، تعرف بطل الرواية محمد رمضان على فتية آمنوا بربهم في عصرنا، وأعجب بأخلاقهم وعلاقتهم الجيدة بدينهم فانخرط معهم، وأحب دينه، وعاهد الله تعالى على أن يمضي في طريقه، وتدرج في طلب العلم، وصدق في عزمه حتى أصبح إماماً لأقرانه يتقدمهم في الصلاة، ويلقي عليهم الخطب والدروس.  

وهكذا بدأ محمد رمضان يعي حيثيات العمل السياسي ومداخله القصية، فلا يتردد في الاستجابة للمشاركة في الأنشطة الثقافية، رغم حساسية المرحلة التي تشهد تحولاً من النظام البورقيبي إلى نظام السابع من نوفمبر؛ “انقلاب ناعم نعومة الأفاعي المتكاثرة في القرية”.

في تلك السنة، نجح رمضان بتفوق ووجه إلى شعبة الآداب، وفي عالمه الجديد تواصل مع من يقاسمونه هموم الوطن والأمة.

يتحدث الكاتب عن أوجه ذلك التواصل وطبائع تلك العلاقة الأخوية، ليس بين التونسيين فحسب، بل بين التونسيين والليبيين حيث تنشط جميع الفعاليات السياسية التابعة للنظامين الحاكمين والوافد الإسلامي الجديد.

يصوّر د. محمد التومي، في روايته، نماذج من ذلك الصراع السياسي، بين الشباب الإسلامي الأعزل سوى من حلم مستعد للتضحية من أجله، وخصومه وأعدائه المدججين بالأسلحة، والمكتنزين بالمال، والمتحصنين بالنفوذ والسلطة. 

لم ينس الكاتب أن يروي تفاصيل من الحياة اليومية لأهل القرية، أفراحهم وأتراحهم، وأشواقهم، وماضيهم، ووضعهم الاجتماعي والاقتصادي في بيئة شبه صحراوية أو هي كذلك، بل وألعاب الأطفال؛ “يحضرون حمير القرية ويجعلون من عصي المكانس سيوفاً، ويذكر وقائع تجعل القارئ يهوي من الضحك، وذلك قبل أن يمضي به إلى وقائع أخرى تجعل الولدان شيباً”.

“علا فجأة صخب واشتد وكانت الأصوات داخل السور تنادي بعض الأسماء وتسب الأم والعرض والدين وتلعن الزمن والأمكنة والإخوان المسلمين”.

ولأن رمضان تمكن من الإفلات من جلاوزة النظام الحاكم آنذاك، فقد عذّبوا إخوانه لأنهم لا يعرفون مكان اختبائه، وأين ذهب عندما تمكن من الهرب بين أزيز الرصاص، لكنه نال 3 سنوات سجناً في حكم غيابي، فقرر الرحيل إلى ليبيا، ولكنه كان كالمستجير بالنار من الرمضاء، فقد وصلت “اللجان الثورية” أخباره وموقفه من ليبيا القذافي؛ “الكلاب الضالة تسرح في كل مكان وقد بلغ التطواف إلى نالوت معقل اللجان الثورية.. هذا الفتى الماثل أمامكم من تنظيم الإخوان المسلمين”.

كان ذلك كافياً بأن يجلبوا له أحد الجلادين ليتحدث عن دولته؛ “أنا بوجمعة الأقرع أنا من أعدم ساسي زكري، وقتلت معه في هذا المكان أربعين من الكلاب الضالة”.

سلسلة من أشكال التعذيب منها الإيهام بالغرق في سطل من القاذورات والتعليق في شكل دجاجة والتعذيب بالكهرباء بتفاصيل التفاصيل وحوارات أشبه بمسرحيات الممثل الواحد (ألوان مانشو).

ينجو رمضان من التعذيب على يد لجان القذافي “الثورية” برجل من مليشيات القذافي غيّر رأيه وأصبح يساعد ضحاياه كلما وجد إلى ذلك سبيلاً يهربه إلى تونس، لتبدأ فصول جديدة من الرواية والتعذيب والصراع مع الاستبداد بالصبر الثبات.

ينقل التومي وهو يتحدث عن سجن “بوسليم” في ليبيا الذي نقل إليه بطل الرواية محمد رمضان قبل تهريبه إلى تونس مجدداً، ودخوله سجن “حربوب” مقولة للكاتب عبدالرحمن منيف يصف فيها السجن: “السجن ليس فقط الجدران الأربعة وليس الجلاد أو التعذيب فقط، إنه بالدرجة الأولى خوف الإنسان ورعبه، حتى قبل أن يدخل السجن، وهذا بالضبط ما يريده الجلاد وما يجعل الإنسان سجيناً دائماً”، أو مقولة الروائي مصطفى خليفة: “في السجن سيتساوى لديك الموت والحياة، وفي لحظات يصبح الموت أمنية”. 

تتميز رواية محمد التومي عن سجن “حربوب” بأسلوب الرحلات أو الرحالة، إذ لا يكتفي بالسرد بل يورد الحوارات ويصف شخصياته وصفاً دقيقاً كأن القارئ ينظر إليهم، كما يصف الطريق ووسيلة النقل وحديث الناس، وقصصهم وأساطيرهم وجدهم وهزلهم وطباعهم وأوضاعهم الاجتماعية والطبغرافية كما لو كان المرء يشاهد شريطاً وثائقياً وليس قراءة لرواية محبّرة.

Exit mobile version