تصميم برنامج قرآني لدرس العقيدة والناشئة (7)

الدرس الأول: الانفتاح على الأدلة المخالفة (6)

التجسيد والبنوة وادعاء الألوهية

     يناقش هذ الدرس موقفين جديدين للمخالفين مبدأ التوحيد في مسألة الألوهية، الموقف الأول للفئة التي زعمت بألوهية بعض البشر وتحديدًا بعض الأنبياء، أو زعمت بنوتها لله تعالى سواء بطريق مباشر أو غير مباشر. وهذا الموقف انحراف عن مسارين: الأول مسار النبوة التي اتبعها أجدادهم وأسلافهم، والمسار الثاني: انحراف عن جادة العقل في التفكير السليم والمنطق الجاد. وفي كل فإن هذه من صور الشرك ولكن فضلنا أن نفصل لها في الدرس نظرًا لخصوصيتها في أنهم كانوا وآباؤهم أتباع أنبياء. أما الموقف الثاني فيتعلق بادعاء بعض البشر الألوهية، ونسبة ربوبية الناس لهم، وإنكار ألوهية وربوبية الله تعالى.

الموقف الأول

التجسيد والبنوة

المحتوى القرآني:

سجل القرآن موقف المجسدة ومدعي البنوة في المواضع التالية:

فكرة التجسيد والبنوة

اختلفت الروايات حول قول اليهود النصارى والنصارى عزير ابن الله والمسيح ابن الله، وأنهم أبناء الله وأحباؤه يذكر الرازي “.. أن اليهود لما زعموا أن عزيرًا ابن الله والنصارى زعموا أن المسيح ابن الله، ثم زعموا أن عزيرًا والمسيح كانا منهم، صار ذلك قولهم نحن أبناء الله”.

قال ابن عباس:

أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا جماعة من اليهود إلى الإسلام وخوفهم بعقاب الله تعالى فقالوا: كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه، فهذه الرواية وقعت من تلك الطائفة. وأما قول النصارى فإنهم يتلون في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم: أذهب إلى أبي وأبيكم. فهذا قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه. وجملة: إن اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلًا على سائر الخلق بسبب أسلافهم الأفاضل من الأنبياء حتى انتهوا في تعظيم أنفسهم إلى أن قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه[1].

مخاطر فكرة التجسيد والبنوة:

    إن فكرة التجسيد وادعاء البنوة – كما مذهب الشرك- تمثل خطورة متعددة الجوانب على مبدأ التوحيد ومتطلباته في المشيئة الإلهية، إن فكرة (الله) في المبدأ تقوم على التنزيه الكامل لله، والتنزيه يعني في أبسط معانيه عدم الاحتياج إلى آخرين، والاكتفاء بذاته، ويلجأ إليه الآخرون لسد احتياجاتهم وهو معنى (الصمد). ومن التنزيه أيضا ألا يلد أو يولد، لأن من يولد يموت، ومن يموت يورث، وهذا تشويه وحرف لفكرة الألوهية برمتها. ومن التنزيه كذلك أنه لا يشبه بأحد، ولا يشبه به أحد لأنه تعالى جل وعلا ليس كمثله شيء.

يدحض القرآن فكرة التجسيد بهذا القول: كانا يأكلان الطعام، وهو إشارة إلى السيدة مريم والمسيح عليهما السلام، ويبين فساد هذه الفكرة من الوجوه التالية[2]:

  الأول: أن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن، وكل من كان كذلك كان مخلوقًا لا إلهًا.

 الثاني: أنهما – المسيح وأمه عليهما السلام- كانا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة. والإله هو الذي يكون غنيًا عن جميع الأشياء، فكيف يعقل أن يكون إلها.

الثالث: أن الإله هو القادر على الخلق والإيجاد، فلو كان إلهًا لفدر على دفع ألم الجوع والعطش عن نفسه بغير الطعام والشراب. فلما لم يقدر على دفع الضرر عن نفسه فكيف يعقل أن يكون إلهًا للعالمين.

الموقف الثاني

        ادعاء الألوهية

   الموقف الثاني والأخير -بحسب استقرائنا للقرآن الكريم- في درس الانفتاح على الأدلة المخالفة لعقيدة الألوهية في مفهومها الإسلامي -المصحح للمفاهيم السابقة- ومبدأ التوحيد متركز تلك العقيدة. هو موقف مدعي الألوهية. وهو موقف ارتبط في جانب منه على ظاهرة “الملك الإله” هذه الظاهرة التي سادت حضارات قديمة لا سيما الحضارة القديمة لكل من اليمن ومصر. وتعلقت هذه الظاهرة بما استقر في اعتقاد الناس عبر الكهان وأرباب المعابد أن الملوك من جنس مغاير لجنس البشر، وأنهم من نسل أرواح الآلهة. ومن ثم فهم ألهه كذلك.

المحتوى القرآني:

سجل القرآن موقفين للمدعين الألوهية في الموضعين التاليين:

الموقف الأول: موقف النمرود مع النبي إبراهيم عليه السلام: وفي ذلك قوله (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة:258].

    جاء هذا الادعاء في مناظرة إبراهيم -عليه السلام- مع النمرود، وهو ادعاء للنمرود – أحد الملوك وصاحب صرح بابل العظيم، وهو أول من تجبر وادعى الألوهية في الأرض-.

    طرح إبراهيم – عليه السلام- دليله حول صدق كلامه حول الله وخلقه للكون وقدرته التامة والكاملة دون شريك أو معين، فادعى النمرود أن أمر الحياة والموت تتعلق بالأسباب المادية الأرضية وتتم بصورة طبيعية، فالجماع بين الذكر والأنثى قد يفضي إلى الولد (الحياة)، وتناول السم قد تفضي إلى الموت. وأنه بمقدرته أن يفعل ذلك.

فانتقل إبراهيم عليه السلام إلى دليل متمم للخلق والقدرة فقال  (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) فلم يستطع النمرود الرد.

  إن أهم ما طرح من معنى لدحض ادعاء النمرود – الذي لم يصمد- هو الإتيان بالأحداث الكبرى التي تخرج عن نطاق البشر وعن قدرتهم، إنها بتأمل العقل المجرد غير المنحاز إلى هوى، والفطرة السوية، تحكم أنه هذه الأحداث الكبرى لابد وأن يكون لها خالق أكبر منها لا يستطيع عليها بشر مهما كان ملكه وطغيانه وقوته. وانتهى موقفه بعدم التصديق، والموت عن طريق أقل المخلوقات.

الموقف الثاني: موقف فرعون – أحد ملوك مصر القديمة- وفي ذلك قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى) [النازعات 24].

  جاء هذا الموقف بعد الآيات المادية التي طرحت من قبل موسى – عليه السلام- لشعب مصر الذين كانوا يعتقدون بألوهية فرعون (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) [الإسراء: 101]. فآمن طائفة السحرة الذين علموا وتيقنوا بصدق المعجزات وأنها ليست من السحر، وإنما هي من خالق أكبر من سحرهم، وبقي فرعون مستخفًا بقومه حتى أغرقه الله ونجاه ببدنه ليكون آية لمن بعده.

يستمر القرآن في التعقيب على هذا الموقف – ادعاء الألوهية من جانب فرعون- في لفت نظر العقل إلى الشواهد الكبرى في الوجود والتي لا تخطئها الحواس ولا العقل الاستنباطي والاستدلالي، والتي تخلص إلى نتيجة هي أنه لابد لكل هذه الشواهد الكبرى من صانع يمتلك القدرة الكاملة والتامة، والتي لا تتوفر عند البشر. قال تعالى في هذا التعقيب في تسلسل منطقي:

   بهذا ينتهي القسم الأول من تصميم البرنامج القرآني لدرس العقيدة والذي تعلق بانفتاح القرآن على الاتجاهات المخالفة لعقيدة التوحيد، وطرح حججها وأدلتها للنقاش والمحاججة والحوار والمناظرة.

 

 

 

 

 

 

 ________________________________________

[1] الفخر الرازي: مفاتيح الغيب، ج11، ص 197.

[2] الفخر الرازي: مفاتيح الغيب، ج12، ص 65.

Exit mobile version