الأزمات.. وإعادة اكتشاف الذات

 

تتشابه حياة البشر مع مراحل تطور الدول، فتتعرض لأزمات قد تعصف بالبعض وتجعلهم يتراجعون، لكن قد يصمد غيرهم ويتماسكون وينجحون باجتياز الأزمات الصعبة ويكسبون منها، وحتى نتمكن من اصطياد جوائز الأزمات وحرمانها من النيل منا علينا تذكر التالي:

الأزمة فرصة، وصدق القائل: شر يريده عدو يصير خيراً بإذن الله، فالقولان رائعان ويشكلان قاعدة نفسية وعملية للتعامل مع الأزمات؛ فهي فرصة لإعادة اكتشاف الذات ورؤية مكامن القوة للفرح بها ولتوطينها بأعمارنا والاعتراف لأنفسنا بنقاط ضعفنا؛ ولا يخلو إنسان ولا دولة منها، ونرفض التسليم لها وزرع العجز أمامها ولا جلد الذات بسببها ولا نسمح لها بالسيطرة علينا.

الخوف المحسوب لا يردع صاحبه بل يوقظه للإعداد المتقن لأسباب القوة وأدوات الانتصار

الأزمة فرصة وليست تحدياً أو مسألة حياة أو موت؛ فمن يفكر أنها تحدٍّ يستنفر كل قواه النفسية والعصبية وينهك نفسه قبل بدء المعركة، كالدولة التي تضع جيوشها بحالة التأهب القصوى عند أي أزمة مع دولة؛ فتُجهد الجيوش وتضعف الحالة المعنوية؛ ولو بعد حين.

نرفض التساهل أو عدم الاستعداد الجيد، والمطلوب هو التحكم في الخوف الطبيعي عند مواجهة الأزمات، ومنع تحوله لرعب يشل الإرادة ويضعف التفكير ويقود للهزيمة.

الخوف المحسوب لا يردع صاحبه، بل يوقظه ويحفزه للإعداد المتقن والمتمهل لأسباب القوة وأدوات الانتصار، ويطرد ما يضعف النفس، وعلينا التركيز على أسباب الأزمة ومنبعها وليس نتائجها؛ فلا نكون كمن يتفرغ لإطفاء آثار الحريق ويترك مكان انبعاث النار مشتعلاً! فعند إطفاء الحريق يجب الثبات والتأني بالحركة واستخدام المواد المناسبة، وهو ما يجب على الإنسان والدولة فعله.

ننبه إلى أهمية امتلاك روح معنوية جيدة وعدم المبالغة برفع التوقعات من النفس أو من الشعب أثناء الأزمة، وتجنب المبالغة بالتفاؤل مما يزرع الإحباط بالنفوس عند تأخر النصر الباهر والسريع، ولا انتصار حقيقياً يحدث سريعاً وبلا أثمان، وهو ما يجب تذكره؛ فالدول التي تبشر بذلك تخسر ثقة شعوبها ويصعب استردادها، وكذلك الإنسان الذي يخذل نفسه بانتظار نصر عاجل.

نود الفرح والاحتفال، بلا مبالغة، بأي انفراجة ولو كانت بسيطة لتدعيم النفس وعدم الاكتفاء بها، واليقين بأن من يصبر يفز في النهاية، والصلابة والشجاعة لا تعنيان عدم التألم، بل رفض التفكير في الاستسلام، وضرورة أخذ استراحة محارب أثناء الصراع وعدم الانتظار حتى ينتهي، فالاستراحة ضرورية لتجديد الطاقات وفلترة الخطط والتخلص مما ثبت عدم فعاليتها وعدم التشبث بها واختيار غيرها بعد التأكد من جودتها.

من المهم أن يعرف خصومك أن لديك مخالب تجيد استخدامها وقت اللزوم وأنك تختار اللطف بكامل إرادتك

قد يدمر الحصار الإنسان والدولة وقد يحفزهما للفوز بأفضل استفادة من الموارد الخاصة؛ وأمامنا تجارب كثيرة لبلاد سمحت للحصار بإضعافها وأخرى جعلته سبباً لاستنهاض الهمم وصنع انتصارات غير متوقعة بعد طرد فكرة الاستسلام للهزيمة.

اعرف إمكاناتك

حتى تكون الأزمة خيراً، احرص ألا تهمل باقي أدوارك ومهامك بالحياة أثناء بحثك عن حلول حتى لا تفاجأ بمشكلات جديدة ترهقك ولا تخنق نفسك عند التقصير، فأنت بشر ولديك حدود لطاقاتك التي تتأثر بالسلب مع الأزمات، وتذكر أن الدول الناجحة تواصل السعي للتقدم أثناء الأزمات ولا تحقق نفس معدل النمو عندئذ، وهذا طبيعي، ولكن يمكنها منع الانهيار.

اعرف إمكاناتك وأحسِنْ استغلالها، وفَلتِرْ علاقاتك بعد الانتهاء ولا تتعجل ذلك في أثنائها؛ فالقرارات المتعجلة تخضع للانفعال وتكون خاطئة.

إذا تعرضت للخداع فلا تنكره ولا تبرره ولا تقلل من تقديرك لنفسك بسببه؛ فلا يوجد بشر ولا دول نجت من الخداع أو من عدم دقة المعلومات التي اتخذت القرارات على ضوئها؛ واكتب لنفسك التفاصيل منعاً للنسيان.

اجعل غيرك يؤدي بعض المهام نيابة عنك لتوفر جهدك للأهم، ولا تخبر إلا أقل القليل بتفاصيل خطتك، فكلما كثر من يعرفونها كثر المثبطون.

لا تسارع بالثقة لمن يبدي التعاطف معك أو بالوعود، وتذكر أنه قد تكون كالخطاف يهدف لاستغلالك والسيطرة عليك، ولا تتسرع بقبول المساعدة، وتمهل لتعرف آثارها الجانبية، ولا تكن كالدولة التي تتعجل حل مشكلاتها بالديون فتُغرق شعبها.

تذكر أن تصفية ذهنك مهمة لإدارة أزماتك، وقد فطن الحرفيون لذلك، فقبل العودة للبيت يجلس الحرفي وحده بهدوء على مقهى يتناول كوباً من الشاي بصمت.

اهتم بمكافأة نفسك أثناء السعي لحل الأزمة وترديد كلام يسعدك سماعه من أقرب المقربين لك؛ ولا تنتظره من أحد فأنت الأهم، قله لنفسك واحترم رفضك للاستسلام ونضالك لتفوز، وفكر كفائز دائماً.

مواجهة الدور الداخلي يساعد في تحسين الوضع ويضاعف من القدرة على الانتصار على المؤثرات الخارجية

لا تضعف نفسك مهما اشتدت الأزمة، فالجهد الذي ستبذله بإرادتك لتجتازها بأقل خسائر ممكنة سيكون أقل بكثير من الجهد الذي ستضطر لبذله لمواجهة الخسائر الأكثر، وتدبر القول الرائع لـ”تشرشل”: الأمة التي تُهزم وهي تقاوم سرعان ما تنهض مجدداً، أما التي تستسلم فلن تقوم لها قائمة ثانية؛ فليكن خيارك الوحيد هو الانتصار.

تحكم بردود فعلك وتنبه، وفوّت الفرص على من يريد استفزازك أو دفعك للخطأ، ولا تكن ودوداً بأكثر مما ينبغي ولا مثالياً فتخسر؛ فالدول تلجأ أحياناً للدبلوماسية الخشنة لتحقق مكاسب، ومن المهم أن يعرف خصومك أن لديك مخالب تجيد استخدامها وقت اللزوم وأنك تختار اللطف بكامل إرادتك.

تذكر أن الإنسان المتفاجئ نصف مهزوم، وفكر في أسوأ الاحتمالات ليس لتضعف نفسك أو لتتعامل معها كأمر سيحدث حتماً، ولكن لمنعها، وللتفكير بهدوء بكيفية تقليل إمكانية حدوثها أو تقليل خسائرها إن حدثت، لا قدر الله.

التآمر والتوقعات

تتهم بعض الدول أعداءها بأنهم يتآمرون عليها دوماً، وأنهم السبب الوحيد لكل مشكلاتها، وكذلك يلوم البعض الآخرين على كل معاناتهم، والمؤكد أن كلا الموقفين يجانب الصواب، ولا ننفي التآمر ولا مكائد الآخرين، ولكنْ هناك أسباب أخرى داخلية للأزمات للدول وللبشر، ومن يتجاهلها يضاعف المعاناة، ويعيش في دور الضحية؛ وهو أسوأ اختيار لإنسان أو دولة، بينما مواجهة الدور الداخلي يساعد في تحسين الوضع ويضاعف من القدرة على الانتصار على المؤثرات الخارجية.

لا تبالغ بتوقعاتك من أصحابك ومن أسرتك، فلن يقوموا بإيقاف حياتهم لمساعدتك، واسعد بأي دعم ولو كان معنوياً، وكن كالدولة الذكية التي تتفهم ظروف حلفائها ولا تطالبهم بما يفوق ما يرغبون بتقديمه، ولا تخسرهم فتتفهم حرصهم على مصالحهم.

واجِهْ الأزمة ولا تكن كالمريض الذي يدمن المسكّنات خوفاً من العلاج

اهتم بالقراءة الصحيحة للأزمة؛ كيف بدأت؟ ومن معك؟ ومن ضدك؟ ومتى تتوقع انتهاءها؟ وكيف تستعد بقرارات مدروسة لمواجهتها، وليس بتصرفات انفعالية؟ وتذكر القاعدة الرائعة: الأوضاع التي تفرض علينا يجب ألا تشل إرادتنا بل تدفعنا لخيارات أدق.

اشتر لنفسك هدية؛ لأنك تعتز بعمرك واخترت النضال، وتناول طعاماً تحبه وتجنب الاستنفار النفسي، وقبل النوم وفور الاستيقاظ قم بطمأنة نفسك وتهدئة عقلك، واهتم بمظهرك بالبيت وخارجه، وذكّر نفسك بانتصارات سابقة، ليس لتكتفي بها ولكن لتقوية نفسك، ولا تفكر بهزائمك إلا لمنع تكرارها.

اهتم بالامتنان يومياً لكل ما لديك، وليس ما تنتظره، وابتسم لنفسك ولا تساعد خصومك بالاستسلام للحزن، واحرص أن تنتهي الأزمة وأنت أفضل وأقوى نفسياً، وانتزع مكاسبك منها بالتعلم من أخطائك والتنبه لعيوبك لمنعها من إضعافك، لتعيش قوياً وناجحاً وسعيداً؛ فبدون السعادة ستضعف نفسك.

احصل على قدر من الترفيه يومياً، فهو ضرورة وليس رفاهية لتخفيف حدة الاحتقان، وواجه الأزمة ولا تكن كالمريض الذي يدمن المسكنات خوفاً من العلاج، ولا تفتح جبهات قتال أخرى بسوء التعامل مع زملائك وأسرتك ويكفي ما تواجهه.

لا تتعامل وكأن الأزمة موجهة لك شخصياً، فالواقع أنها ضد ما تمثله ولاختلاف المصالح، واعتز بهويتك دوماً ولا تتخل عنها إرضاء لأي أحد، كالدول التي تتنازل عن هويتها فتفقد الماضي وتضر الحاضر والمستقبل، واهتم بإعادة بناء حياتك وترميم خدوش التجربة المؤلمة.

 

 

 

 

 

_______________________

نائب رئيس تحرير “الأهرام”

Exit mobile version