تصميم برنامج قرآني لدرس العقيدة والناشئة (6)

 

الدرس الأول: الانفتاح على الأدلة المخالفة (5)

محاججة القرآن للدهريين

 

    كما ذكرنا من قبل أن من خصائص ردود القرآن، أنه يعتمد على: البساطة والوضوح، والاحتكام إلى العقل النظري، والتجربة والمشاهدة، والتاريخ. والبحث الميداني المتعمق عبر العلم وعبر التاريخ أثبت موقف ونفي المواقف الأخرى. وبنفس المنهجية حاجج القرآن طائفة “الدهريين” كالتالي:

       إن الاعتقاد يقوم على اليقين والتثبت – كما ذكرنا من قبل- سواء كان إيمانًا أم كفرًا، فلا يقوم اعتقاد على ظن، وإلا فهو يقوم على أساس واهٍ لا يلبث أن ينتقل إلى من طرف إلى طرف النقيض، أو يقف موقفًا وسطًا لا يليق بمكانة الاعتقاد ولا قيمه، والظن حالة من التردي النفسي في الاعتقاد ونلحظ ذلك في موقف الدهريين في مسألة الله والبعث والنشور.

   لم يثبت الدهريون أقوالهم أو يدعموها بالتاريخ أو العلم النظري أو التجريبي، لكنهم احتكموا إلى الظن، وكان ردهم على قضية الألوهية والبعث والنشور) إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ( [الجاثية: 32].) مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ( [الجاثية:32]. هم لا يستيقنون الألوهية ولا البعث ولا النشور، ولا يستيقنوا كذلك المبدأ المادي للكون الذي زعموا به، فلا يقين يملكونه حول ما ينكروه أو يؤيدوه. ووصف القرآن ذلك بقوله ) مَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ( [الجاثية:24].

      إن الاحتمالات بأسرها -لدى هؤلاء قائمة- فالذي قالوه بإنكار الله وإنكار البعث وإنكار الحشر، احتمال قائم، وضده – أي وجو الله والبعث والحشر- قائم أيضًا، فإنهم لم يذكروا شبهة قوية ولا ضعيفة في أن هذا الاحتمال الثاني باطل.. ولكنهم انحازوا للاحتمال الأول وجزموا به وأصروا عليه من غير حجة ولا بينة. فثبت أنه ليس علم ولا جزم ولا يقين في صحة القول الذي اختاروه بسبب الميل والقلب من غير موجب[1].

    رد ثان للقرآن على قول الدهريين أن الدهر هو الذي يحييهم ويميتهم – نظرية التوالد والفناء الذاتي- وأنه لا أحد يجمعهم أو يبعثهم بعد الموت نظرًا لصعوبة ذلك واستحالته.

    إن الحقيقة الثابتة لدى العقل السوي أن إيجاد الشيء من العدم أصعب من إعادة إيجاده بعد الخلق والفناء، لهذا كان قولهم يفتقد إلى منطق العقل السوي، باستحالة جمعهم مرة أخرى وبعثهم )مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(.

  إن هذا الذي ضرب ذلك المثل نسي خلقه الأول من نطفة وعلقة ثم خلق أعضاء وحواس ثم نطق وعقل (مكمن التكريم الإلهي)، إن استبعادهم للخلق مرة أخرى والبعث والنشور أمر أقرب للهزل إذ هم لم يستبعدوا الخلق من العدم (الذي هم عليه). “فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن محل الحياة أصلًا!”.

وهذا تعليل منطقي فمن بدأ الخلق قادر على إعادته مرة أخرى، فمن أوجد الشيء من العدم يملك القدرة على إيجاده بعد أن يفنى حتى وإن تفرقت أجزاؤه في الأرض.

    منهجية أخرى لرد القرآن على الدهريين منكري البعث والنشور، تقوم تلك المنهجية على تنوع فكرة الخلق، وما ينطوي عليه ذلك الخلق من تفرد عجيب، والمثال هنا الشجر الأخضر الذي يقطر منه الماء، والذي يحتوي على حرارة سارية فيه، يستخدمها الإنسان حينما يريد الحرارة من ذلك الشجر الأخضر، وهو أمر على المستوى العقلي مستبعد، ولكنه في إبداع الخلق موجود وحاضر. فكيف يستبعد أولئك الحياة والجمع مرة أخرى.

    الْخلقُ هو التقدير المستقيم، والْخَلاَّقُ صاحب القدرة الكاملة، ويستخدمان في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء. وهنا يوجه القرآن المنكرين لله والنشور، بأن فكرة الخلق التي ينسبها الله لنفسه لا يشابهه أحد فيها ولا يناظره أحد في تلك القدرة. ومن ثم فمن الخطأ العقلي قياس الشاهد على الغائب هنا. فقدرة الله (الخالق) لا تساويها قدرة البشر (المخلوق) فليراجعوا قياسهم على نموذج العقل المهتدي. حيث إن ضرب المثل بمساواة قدرة الخالق (لهذا الكون) بالقدرة البشرية المخلوقة أمر لا يتناسب مع منطق العقل ومنطق الفطرة. ويضرب القرآن المثل بخلق السماوات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس ) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( [غافر:57].

      غفل المنكرون في مسألة القدرة في البعث والنشور عن أحوالهم اليومية في النوم واليقظة، فينامون كما الموتى، ويستيقظون أحياء، ولم يدركوا كيف يتم ذلك ولا كنهه، ولكن الله تعالى أخبرهم أن ذلك آية كاشفة ملازمة لهم في الحياة الدنيا ) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتي لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ( [الزمر:42]. هذا دليل يعتمد على البداهة العقلية والتأمل الذاتي في الحياة الفردية.

إن ردود القرآن ومحاجاته للدهريين – وغيرهم- تقوم على مبادئ رئيسة أهمها أصالة الفطرة في مقابل أصالة الحس الذي يعتمد عليه هؤلاء – بشكل غير علمي أو منطقي- حيث يقررون أنه لا وجود لأي شيء ما لم يخضع للحس أي ما لم تتم مشاهدته رغم أن يعتقدون في أشياء لا يرونها: كالنار السارية في الشجر الأخضر، والروح الساكنة في الإنسان والتي إذا خرجت توقف الجسد (المرئي) عن الحركة، وانفصال الروح عن الجسد أثناء النوم وعودتها عند اليقظة.

   إن أصالة الحس عند الدهريين أوقعتهم في خطأ معرفي ومنهجي، وهو أن الإدراك الحسي هو الوسيلة الوحيدة للمعرفة، وهذا خطأ بين، فالإدراك العقلي ثابت من خلال عمليات الاستنباط، والاستدلال بنوعيه المباشر وغير المباشر، وكذلك أصالة الفطرة، والبداهة والوضوح في اعتبار أن لكل حادث موجب، والإنسان – والخلق جملة- حادث، لابد له من موجب قادر إلى إحداثه. هذا الموجِب هو الخالق الذي أرسل بلطفه الرسل والكتب للناس.

   إن الإدراك الحسي هو أحد وسائل المعرفة الإنسانية، والتي يكتسب منها المعرفة المتعلقة بالعالم المادي المحيط به وفي حدود ومساحات وتأهل ذلك الإدراك، حيث أن لكل عضو حسي مجال لإدراكه، وكذلك مساحة لهذا الإدراك فليس أيضًا الإدراك مطلقًا:

مثال:

    وهكذا فالإدراك الحسي له مجاله من ناحية، ومحدوديته من ناحية أخرى.

مثال: وجود الأشعة فوق البنفسجية، أو تحت الحمراء، أو الطاقة الكهرومغناطيسية، فإننا نعتقد في وجودها رغم أنها غير قابلة للرؤية المادية المباشرة.

    إن توقف الإنسان على المعرفة المادية فقط فإن ذلك يؤدي إلى اختلال نظام المعرفة عنده، ومن ثم فإن الإنسان لابد وأن يستخدم باقي وسائل المعرفة الأخرى، كالإدراك العقلي، ومصدر الفطرة والحدس والتاريخ وما إلى ذلك.

وهذا ما حفز القرآن إليه الإنسان، أي تنوع مصادر المعرفة وتعددها، وتشغيل العقل الاستنباطي والاستدلالي وعامل الفطرة.

    

 

[1] الفخر الرازي: مفاتيح الغيب، ج27، ص 271.

Exit mobile version