تابع: أصحاب الرؤى الشركية (2)
ما زلنا في الدرس الأول المعنون بالانفتاح على الأدلة المخالفة – في تصميم برنامج قرآني لدرس العقيدة للنشء والشباب، تناولنا في الحلقة السابقة موقف القرآن من أصحاب الرؤى الشركية، وتسجيله لأقوالهم وأدلتهم –حتى مع تهافتها الذاتي- وصور شركهم المتعددة.
نستكمل في هذه الحلقة موقف القرآن من أصحاب الرؤى الشركية، ونحلل معرفيًا وفكريًا مبرراتهم وأقوالهم وميزان هذه الحجج في معيار العقل والخبرة الإنسانية، كما نستعرض محاججة القرآن للمشركين ومنهجية القرآن في تلك المحاججة.
تحليل فكري لحجج ومبررات أصحاب الرؤى الشركية
نلاحظ من خلال استقراء مواقف المشركين في القرآن، وحججهم التي ذكروها للأنبياء والرسل -لتبرير موقفهم الشركي ورفضهم لدعوة التوحيد ومبدأه- أن تلك الحجج تتمحور في ثلاثة مواقف نوردها فيما يلي:
التقليد: أي تقليد الآباء والأجداد في شركهم بالله، وعبادتهم الأصنام والأوثان وغير ذلك من صور المعبودات التي اتخذها المشركون على مر التاريخ، حيث ادعى المشركون أنهم ورثوا الشرك من آبائهم وأجدادهم، وسجل القرآن قولهم هذا في الآيات الآتية:
(قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) [الأنبياء: 53].
(قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ) [الشعراء: 74].
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) [لقمان: 21].
(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) [الزخرف: 22].
الوساطة أو الزلفى:
زعم المشركون أنهم أشركوا بالله بعض المعبودات كي يتقربون بها إلى تعالى، وسجل القرآن هذه الأقوال فيما يلي:
(مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ) [الزمر: 3]
(فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً) [الأحقاف: 28].
في هذه الحجة ذكر المشركين أنهم يعبدون الأصنام والأوثان وغير ذلك سبيلاً للشفاعة والقرب من الله تعالى.
قال قتادة -الآية [الزمر: 3]– كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم؟ ومن خلق السماوات والأرض، وأنزل من السماء ماء؟ قالوا الله، فيقال لهم ما معنى عبادتكم الأصنام؟ قالوا ليقربونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي: جواب هذا الكلام في الأحقاف (فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً) [الأحقاف: 28][1]. القدر والمشيئة: الموقف الثالث ذكر المشركون فيه أن القدر والمشيئة الإلهية هما سبب شركهم بالله [الزخرف: 20]. وإن كان هذا القول على سبيل السخرية والاستهزاء، ولكننا نثبته هنا من باب التسجيل القرآني لأقوال المشركين ومزاعمهم.
تعليق على حجج المشركين
إن حجج المشركين لا ترقى من حيث النظر العام إلى مرحلة “البرهان” أي اليقين القاطع الذي طلبه القرآن منهم، وذلك –في نظرنا- لما يلي:
الافتقار إلى البيان العقلي السليم الذي يقوم على طرح مقدمات سليمة يصل من خلالها إلى النتائج المطلوبة.
اعتماد التقليد “الأعمى” نهجًا في بناء العقيدة. وهذا يمكن أن نسميه “سجن التبعية” “كهف العقل”، وهذه كلها تحرم الإنسان من الحكم السليم والتفكير الحر الراشد.
الاستهانة بملكات الإنسان وقدراته العقلية والحسية حين الادتهان والتعلل بالقدر والمشيئة.
بقاء المشركين (عقلاً) في مرحلة الطفولة الفكرية، التي تعتمد على الآخرين في تقليد السابقين في الحكم على الأشياء والقضايا المهمة.
تحكم الهوى والتحيز في أمر العقيدة وذلك بإتباع الآباء أو الأجداد، أو تحكم المصلحة بإتباع السادة والكبراء.
محاججة القرآن للمشركين وبناء درس العقيدة
كان القرآن جادًا في محاججة المشركين -رغم تهاوي مزاعمهم- حيث يرسم القرآنُ للإنسان –مطلقًا- طريقًا يبسًا لبناء أحكامه –عامة– وفي مجال الاعتقاد بصفة خاصة، ونلحظ ذلك فيما يلي:
بيان تضليل المشركين لأنفسهم: حيث سجل القرآن ردوده على مزاعم المشركين ودوافعهم ومبرراتهم للشرك في الآيات التالية:
في قول المشركين (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) [الأنبياء: 53]. كان رد لقرآن (قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [الأنبياء: 54].
والضلال: العدول عن الطريق المستقيم، ويقال الضلال لكل عدول عن المنهج عمدًا كان أو سهوًا. يسيرًا كان أو كثيرًا… والإضلال ضربان: أحدهما أن يكون سببه الضلال، كأن يضل الشيء عنك، أو تحكم بضلاله. والضرب الثاني: أن يكون الإضلال سببًا للضلال، وهو أن يزين للإنسان الباطل ليضل[2].
إن الإنسان خلق مزودًا بالعقل وملكاته وأدواته الإدراكية المتعددة، والتي تمكن العقل من إدراك الحقيقة على وجهها الكامل، إلا أن عمل العقل والأدوات المرتبطة يتأثر بعوامل مضادة -كما يتأثر بعوامل مهيأة– وأهم العوامل المضادة: التقليد الذي يحول دون إدراك معرفة جديدة –غير ذلك المتوارثة– إذ تمثل المعرفة المتوارثة مجال حكم العقل، فيظل العقل سجيناً في كهف التبعية، لا يستطيع الفكاك منها إلا إذا توافرت له “عوامل مهيئة” تحفزه إلى التحرر من هذا السجن العميق الذي وضعه صاحبه فيه بإرادته وليس بإرادة أحد غيره.
دعوة القرآن للمشركين لاستعادة وعيهم بالعقل: رد القرآن على دعاو المشركين بالتقليد واتباع الآباء والأجداد باستثارة عقولهم، وحثهم على تحررهم من سلطة الآباء والأجداد، ووقوعهم في الضلال المعرفي بحبس العقل على المعارف القديمة، ومنعه من استخدام أدواته الإدراكية لتوليد معرفة جديدة مغايرة لما كان عليه الآباء والأجداد.
ففي قول المشركين: (نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) [الشعراء: 71]. وتبريرهم –كما سبق– (بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ) [الشعراء: 74].
رد القرآن لاستثارة عقولهم وتحكيم التفكير السليم والمشاهدة المباشرة: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) [الشعراء:72]، (أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) [الشعراء: 73].
تهافت دعوى “الزلفى”:
ابتدع المشركون دعوى “الزلفى” كي يبرروا انحراف فطرتهم وتعطيل عقولهم نحو مسألة “التوحيد” وإقرار الله بالعبادة وحده، وفي ذلك ابتدعوا أسطورة بنوة الملائكة لله تعالى، والتي حولوها إلى صور تماثيل يعبدونها –اللات والعزى ومناة– بادعاء أنها تشفع لهم عند الله تعالى.
بيَّن الله تعالى –وهو صاحب الأمر مطلقًا– وهو صاحب الحق في الرد على هذا الادعاء تهافت تلك الدعوى، وبيَّن أنها دعوى كاذبة قال بها الكفار: أي الجاحدين لتفرد الله بالعبادة، كحق لله تعالى، وواجب عيني على كل إنسان ذي فطرة سليمة وعقل مستقيم –الاعتراف بها والخضوع لها- فلا مشاركة لأحد معه، ولا بنوة له، وهذا أمر واضح صريح في كل الرسائل والنبوات.
الاعتبار بالعقل والمشاهدة:
استخدم القرآن في محاججته لموقف المشركين أداتين أساسيتين للمعرفة لدى الإنسان هما العقل والمشاهدة ومن ذلك:
قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء: 22] وهذه مشاهدة تؤكدها سيرة العقلاء والناس جميعًا.
ثم يطالب القرآن المشركين بالنظر في الخلق وأن يأتوه بأي أثرٍ من علم يثبتون به نصيب شركائهم في جانب من ذلك الخلق (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ۖ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الأحقاف: 4].
قال القرطبي في هذه الآية[3]:
إن هذه الآية [الأحقاف: 4] فيها بيان الأدلة بأسرها فأولها: المعقول، وهو قوله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُم..) وهو احتجاج بدليل العقل في أن الجماد –الأوثان والأصنام– لا يصح أن يُدعى من دون الله، فإنه لا يضر ولا ينفع. ولم يثبت له الكلام أو إرسال كتب أو رسل أو بينات وآيات إلى البشر.
ثم قال (ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا) فيه بيان أدلة السمع (أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ).
ثم يطرح القرآن دلائل ومشاهدات نسبها الله الواحد إلى نفسه ولم يزعم أي أحد آخر على نسبتها لنفسه – لا أوثانهم أو أصنامهم – أو معبوداتهم الأخرى. وسجل ذلك في الآيات التالية:
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ۗ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 63) [النمل].
يتبع إن شاء الله..
_________________________
[1] القرطبي: ج15، ص152.
[2] مفردات ألفاظ القرآن، ص510.
[3] القرطبي: ج16، ص122.