الظاهرة الجمالية في الفقه الحضاري

الجمال في اللغة ضد القبح، والجمال من الصفات: ما يتعلق بالرضا واللطف، ومن مرادفات الجمال أو فروعه الحُسنُ، وتعد قضية الجمال شجرة راسخة الأصل متفرعة الأغصان، تمتد إلى الأشياء المحسوسة، ولا تقتصر عن الأشياء الملموسة، فهي زينة كل عمل، وتَتِمَّةُ كل شيء وَصَلَ واكتمل.

لقد كانت النظرة إلى الجمال المحسوس هي الغالبة قبل الإسلام، فجمال الشكل مقدم عن جمال المضمون، في حالة مادية تجد أختها وتوأمها في الوقت الحاضر؛ حيث اختُزل الجمال في الشكل والمظهر، وتُرك الأصل والجوهر، ولا نزال نرى في العالم اليوم صورَ الفتيات الحِسان على البضائع المروَّجة؛ تعبيرًا عن هذه النظرة المقيتة وفحواها، ومسار العالم المعاصر الذي اتحد في نظرته للجمال مع حال الأمم قبل الإسلام.

لقد أشرقت شمس الإسلام فأنارت معها تصحيح المفاهيم، والنظرة إلى هذه الحالات من الخطأ والصواب، فعدلت معوجَّها، وشذَّبت فائضها، وصححت مسارها، فقد أكد كلام الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن الجمال عُنصر فاعل في الحياة الدينية والاجتماعية والاقتصادية، وقدم أمثلة ونماذج عن هذا؛ إذ ذكر عن خلق الإنسان قوله عز وجل: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 4]، ومن أحسن من الله خِلقة، وانسابت الجمالية إلى غير هذا الموضع؛ فدخلت في كل خُلق حسن تريده النفس؛ كالنظر إلى متاع الدنيا؛ كقوله عز وجل عن الأنعام: ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾ [النحل: 6]، إلى ما تستبعده النفس وتكرهه؛ كالصبر الذي قال فيه عز وجل: ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ [المعارج: 5]، وقول يعقوب عليه السلام لأبنائه آسفًا: ﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18].

إذًا فالجمال في الفقه الحضاري داخل في عموم مفاصل الحياة؛ لأنه لصيق بالحُسن والإبداع، وداخل في التعامل في الرضا والخصام، ومتعدٍّ ذلك كله في الصناعات والحرف، وأعمق من هذا بتناغم الروح مع الجسد، وبالمضمون إضافة إلى الشكل.

لقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم مضامين الجمال في المجتمع الإسلامي من خلال الاهتمام بالمظهر الخارجي من ملبس وهيئة، فضلًا عن جمال روحه في التعامل مع العدو قبل الصديق، ووصاية للمسلمين بالابتعاد عن قبيح الأقوال والأفعال، فليس المؤمن بطعَّانٍ ولا لعَّانٍ، ولا فاحشٍ ولا بذيء، ولا حسود ولا حقود ولا جشِع، كما أن الاهتمام بجمال المظهر من وصاياه حين قال لأصحابه: ((أصلحوا رحالكوا، وحسنوا لباسكم؛ حتى تكونوا شامة بين الناس)).

إن من مقتضيات الجمال الزينة والتزين، التي تُضاف إلى الشيء لتجمِّله أو تعطيه منظرًا أزهى من مظهره الذي هو عليه؛ حيث تمازجت مع جوانب الحياة كافة، ولم تقتصر على جانب دون آخر، ففي جانب العبادة أمر الله أن يأخذ المسلم زينته إلى كل مسجد؛ فقال: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، بما في ذلك الملبس الجميل، والظهور الحسن، والاهتمام بالنظافة والتعطر، وما إلى ذلك من ضروب الجمال، ولكنه في الوقت نفسه أكد أن الزينة التي هي في الأصل مكملة للجمال، مضافة إليه – تعتبر أمرًا زائلًا مؤقتًا، وليس أصلًا ثابتًا كالجمال بطبيعته؛ إذ قال تعالى لنبيه موجهًا: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 28]، وهو في هذا يضع حدًّا فاصلًا بين الجمال الطبيعي والزينة المصطنعة.

إن الأمور لا تُعرف على حقيقتها حتى تُقارَن بغيرها، ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين مضمون الجمال في الفقه الحضاري الإسلامي الذي يمزج جمال الروح بالجسد، وينقب عن الجمال الداخلي فضلًا عن الجمال الخارجي، ويعطي تحذيرات على أن الجمال الخارجي إن لم يساكنه خُلق داخليٌّ يجمله ويشُدُّ من أزره هو جمال مرفوض، ومستنقع سحيق، لا يُرجَى النجاة لمن يسقط فيه، ولعل هذا ما عبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه قائلًا لأصحابه مفصحًا بالقول: ((إياكم وخضراء الدِّمَنِ، قالوا: يا رسول الله، وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء)).

إن التركيز على الصورة الظاهرة في الغرب واعتماد الأوصاف البادية للعيان كأساس للجمال أو الظاهرة الجمالية لم تأتِ من فراغ، فهي تسير في رِكاب نظرة الغرب إلى الحياة؛ تلك النظرة المادية التي أبعدت مِن حولها كلَّ أمر معنوي وأخلاقي متأصل فيها؛ لتكون فكرة مادية بحتة تتلاءم مع الواقع الغربي اليوم، وهو ما دفع الكثير من أفراد المجتمع الغربي يلجؤون إلى الشرق والمناطق النائية من الصحارى والغابات؛ للإحساس بقيمة الجمال المكتمل الذي افتقدوه في بلدانهم.

 

______________

 

المصدر: شبكة الألوكة

Exit mobile version