حينما يكون “وليتلطف” منهج حياة

قال تعالى على لسان أهل الكهف بعد أن بعثهم الله من نومهم وأرادوا إرسال أحدهم ليأتيهم بما يعتاشون منه: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} (الكهف: 19-20)

“وليتلطف” هذه الكلمة تحتاج إلى طول تأمل للوقوف على بعض أسرارها ومعانيها، ولمعرفة ما فيها من توجيهات وإرشادات حياتية ودعوية.

فالتلطف في اللغة يحمل معاني عدة، وجميعها مقصود في هذه الآية؛ فمن معانيه:

لُطْفُ الشيء: رقته واستحسانه وخفته على النفس، أو احتجابه وخفاؤه.

وعند البخاري من حديث عائشة –رضى الله عنها– قالت حين قال لها أهل الإفك ما قالوا: “ويريبني في وجعي أني لا أرى من النبي –صلى الله عليه وسلم – اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض

واللطف هنا معناه: الرقة والحنان والرفق.

والآية التي نحن بصددها تتحدث عن فتية أهل الكهف، وهؤلاء الفتية هم رمز من رموز الإيمان الراسخ، والثبات على الحق والعقيدة في مواجهة نظام لا يعرف إلا الظلم والبطش والتنكيل بمعارضيه، ومجتمع رضي بالذل والهوان واستمرأ الخنوع!!

والقصة مع ما فيها من دروس وعبر وعظات فقد استوقفني فيها هذا الفتح الذي أفاء الله به على هؤلاء الفتية، فالحكمة هي العنوان المسيطر على حركة هؤلاء الشباب الذين ملأ الإيمان جوانحهم، وهذه الحكمة لم تفارقهم في أي مرحلة من مراحل الصراع مع الباطل، فهي ملازمة لهم من بداية القصة حتى منتهاها!

ومع أن طبيعة المرحلة العمرية لهؤلاء الفتية، وخصائصهم الجسدية والنفسية تجعل من المتوقع صدور بعض الشدة، أو القوة والعنف، أو بعض الحدة في مواجهة الباطل إلا أن هذا لم يحدث قط، بل تجلى الله -سبحانه وتعالى- عليهم؛ ففتح لهم بابا من الحكمة في مجابهة الباطل {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا}.

والحكمة كما يقول الإمام ابن القيم: “هي فعل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي.

فمنذ البداية وهؤلاء الشباب يتحركون حركة واعية، من غير تخبط، ولا طيش، ونظرهم الثاقب لم يقف عند إدراك الواقع وفهمه فحسب، بل تجاوز ذلك إلى إدراك المآلات {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِم}.

وإدراكهم لهذا المآل واستشرافهم المستقبل اقتضى التعامل مع خصومهم والمتربصين بهم بلطف؛ فانخراطهم في المجتمع ضرورة حياتية، حتى وإن سكنوا الكهوف وأووا إلى أعالي الجبال!

والتلطف هنا المقصود به: الرفق واللين في التعامل مع المجتمع بيعا، وشراء، ونصحا، وتوجيها؛ فلا فظاظة في القول، ولا تقطيب للوجه ولا عبوس، بل القول اللين وبسطة الوجه، وحسن الخلق.

والتلطف أيضا معناه: الحركة في سرية وخفاء، وترقب وحذر، وليست حركة رعناء؛ وذلك لتفويت الفرصة على المتربصين؛ فالعيون لا يغمض لها جفن في تتبع حركة الموحدين؛ فلا بد إذن من حساب الخطوات والكلمات، حتى تذهب جهود المتربصين سدى.

بين التلطف والخضوع

واللطف بينه وبين والخضوع، والخنوع، والردة العقدية والأخلاقية شعرة؛ فالتلطف لا يعني مداهنة الباطل، ولا يعني التصفيق للظالم، ولا يعني التخلي عن شيء من المبادئ والثوابت، ولكن معناه تجنب أي مواجهة تكون نتيجتها البطش والتنكيل بأهل الحق، بل إنه متى تبين الطريقان واختلف المنهجان ففي هذه الحالة لا مجال للالتقاء، ولا المشاركة؛ بل وجب الفرار بالعقيدة، والفرار هنا فرار إلى الله.

وأنقل هذا الكلام الرائع الماتع للفقيه المجاهد العز بن عبد السلام؛ حيث يقول: “ويجوز التغرير بالنفوس والأعضاء في كل قتال واجب لتحصيل مصالحه، وكذلك التغرير بالنفوس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند أئمة الجور، لما فيه من إعزاز الدين ونصر رب العالمين، وقد جعله صلى الله عليه وسلم أفضل الجهاد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”؛ فإن علم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن أمره ونهيه لا يُجديان ولا يفيدان شيئا، أو غلب على ظنه، سقط الوجوب؛ لأنه وسيلة ويبقى الاستحباب، والوسائل تسقط بسقوط المقاصد، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يدخل إلى المسجد الحرام وفيه الأنصاب والأوثان ولم يكن ينكر ذلك كلما رآه، وكذلك لم يكن كلما رأى المشركين ينكر عليهم، وكذلك كان السلف لا ينكرون على الفسقة والظلمة فسوقهم وظلمهم وفجورهم، كلما رأوهم، مع علمهم أنه لا يجدي إنكارهم، وقد يكون من الفسقة من إذا قيل له: اتق الله؛ أخذته العزة بالإثم، فيزداد فسوقا إلى فسوقه، وفجورا إلى فجوره” انتهى.

ومن اللطائف الجميلة أن “وليتلطف” توسطت كلمات القرآن، فما قبلها من كلام الله مساوٍ لما بعدها، وفي هذا إشارة ضمنية من اللطيف الخبير إلى أن المنهج الوسطي الذي تعبدنا الله به، ويريدنا أن نكون عليه، بل جعله من أهم سمات هذه الأمة، هذا المنهج يتلخص في كلمة واحدة هي “وليتلطف.

ختاما أقول: عندما يستعر الباطل، وتنتفخ أوداج الظالم وينتفش، فالنظر الشرعي يوجب على أصحاب الحق تجنب مواجهته، وتفويت الفرصة عليه في النيل من المؤمنين، وإضعاف شوكة أهل الحق، ورافعي راية الدين، فيجب التحلي بالحكمة والصبر، حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو أحكم الحاكمين، خاصة أن العصر الحديث أفرز وسائل شتى تعين على تبليغ دعوة الله عبر نوافذ متعددة، وبطرق مختلفة، بل إن تنوع هذه الوسائل وكثرتها وسهولتها، جعلت من المستحيل تكميم الأفواه، وإخماد صوت أصحاب الحق؛ فما الداعي إذن لمواجهة تكون عاقبتها شفاء صدور الظالمين؟!

ما أحوجنا إلى أن نجعل التلطف -ليس شعار مرحلة فحسب- بل منهج حياة!!

* عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

Exit mobile version