بصدمة كبيرة، تلقَّت جماهير وقواعد الحالة الإسلامية والثورية في المغرب والعالم العربي خبر الخسارة الكبيرة لحزب العدالة والتنمية في المغرب لانتخابات المجلس النيابي، وكانت ردود الفعل أيضاً صادمة في تقييمها للحدث ولفشل الحزب في تصدر المشهد الانتخابي ليصبح في ذيل القائمة الانتخابية، حيث احتفظ الحزب فقط بـ13 مقعداً من أصل 125 فاز بها في انتخابات 2016م.
فقد جاءت ردود الفعل بشكل غاضب على أداء الحزب ونتائجه، حيث كان في نظر الكثيرين نموذجاً للحزب الإسلامي السياسي الذي استطاع أن ينجح بالبقاء في السلطة لدورتين متتاليتين منذ بدء حالة التغيير في ثورات “الربيع العربي” عام 2011م، واعتُبر الحزب حينها حالة مميزة في التعامل مع نموذج السلطة المنقوصة في الحكم.
علماً بأنه سبقها نتائج الغرف المهنية التي جرت الشهر الماضي في المغرب، حيث تصدّرها حزب التجمع الوطني للأحرار، وتلاه حزب الأصالة والمعاصرة، وأيضاً حل فيها حزب العدالة والتنمية ثامناً، بما أكد مؤشرات أولية لحالة الحزب الشعبية في أوساط جماهير الشعب المغربي.
لقد كانت ردود الفعل شديدة وغاضبة، وأحياناً متشفية بأسلوب غير معهود(!) وذهب البعض إلى الاستنتاج بنهاية الحزب، والبعض بالغ إلى حد الاتهام بخيانة أمانة الثورة والتغيير، وأن الحزب أصبح جسراً لتمرير خطايا النظام، وسلماً لتمرير أجندة السلطة، بل ذهب البعض بعيداً ليؤكد أن العمل السياسي إن لم تحمه قوة، فهو إلى زوال، وتضييع لأوقات العاملين، في حين أن بعض الشامتين أكد أن الحزب لم يستمع إلى تحذيراتهم بعدم استلام سلطة منقوصة وهو يجني اليوم ثمار توافقه مع المخزن.
ومن جانب آخر، فإن بعض المنتقدين اتجه نحو التبرير محاولاً تفسير أسباب خسارة حزب العدالة لهذه الانتخابات، ملقين باللوم على الأطراف الخارجية، وتخطيط قوى الثورة المضادة، والتزوير والضغط على الناخبين، ومرشحي الحزب، وشراء ذمم الناخبين، واستعجل هؤلاء جميعاً عدم توفر المعلومات والبيانات والتحليلات الحقيقية لأسباب التراجع في شعبية ونتائج الحزب بالانتخابات.
قلة هي تلك التحليلات والمقالات التي حاولت تفسير هذا الفشل الذريع بشكل موضوعي ومنصف، فبالرغم من الإنجازات الخاصة بالخدمات التي أنجزها الحزب خلال السنوات الماضية، فإن ذلك لن يعذر الحزب عن هذا الفشل الذريع، فمن إنجازات حكومة العدالة في السنوات الأخيرة على سبيل المثال لا الحصر:
– تشييد 5 سدود في السنة عوضاً عن اثنين في السابق.
– أصبح طلبة التكوين المهني يحصلون على منح مالية مقابل عدم حصولهم على أي منحة أساساً في السابق.
– أصبح ذوو الاحتياجات الخاصة يلتحقون بمباريات التوظيف مقابل لا شيء في السابق.
– أنشئت 40 مؤسسة جامعية في 5 سنوات، و21 مخطط لها في أفق عام 2023م.
– زاد عدد المؤسسات المدرسية المنشأة ليصل إلى 180 مؤسسة في السنة، مقابل 70 فقط في السابق.
– تم بناء 4 مستشفيات جامعية مقابل 4 في أكثر من 50 عاماً.
– أصبح المغرب أول مصدِّر للسيارات في أفريقيا.
– فاق المعدل السنوي لمناصب الشغل في القطاع العمومي 42 ألفاً و466، مقابل 17 ألفاً و860 في الفترة ما قبل عام 2011م.
– إنشاء أكبر ممر تحت أرضي على المستوى القارة “نفق الموحدين”.
– أنشئت 12 مدينة للمهن والكفاءات بالمغرب.
– أنشئت أكبر المسارح على المستوى الأفريقي (المسرح الكبير بالدار البيضاء، ومسرح الرباط).
– بدأ الطريق السريع يشق طريقه في صحراء المغرب والأشغال تسير بوتيرة سريعة.
– إلغاء معاشات البرلمانيين، وتمت تصفية صندوقها بعد رفض دعمه.
– مدن كبرى بالمغرب عرفت طفرة نوعية على مستوى البنية التحتية الأساسية.
– لأول مرة أصبح في المغرب العمل بنظام تدوير النفايات وليس جمعها.
– عدد الأرامل والمطلقات اللاتي استفدن من دعم مباشر فاق كل التوقعات.
– الفتيات اللاتي يَلِجْن المدارس في العالم القروي تجاوز 85%، مقابل 35% في السابق.
– عدد الأطفال الذين استفادوا من برنامج “تيسير” فاق مليوني طفل.
– إنشاء أكبر محطة لتصفية مياه البحر في شمال أفريقيا والشرق الأوسط (بمدينة أيت باها بإقليم أشتوكة)، وأخرى مخطط أن تنطلق الأشغال بها بمدينة الدار البيضاء ستعد من بين الأكبر في العالم.
إلا أن ذلك لم يشفع للحزب؛ إذ يعتقد الكثيرون أن أخطاء كبرى مسحت تلك الإنجازات جماهيرياً، وقد وضعت تلك الأخطاء الكبرى تحت المسارات التالية:
الأول: مسار الأخطاء المتعلقة بالهوية الثقافية للحزب، وذلك بموافقة الحزب على إقرار قانون «فرنسة» التعليم.
الثاني: مسار الأخطاء الخاصة بالثوابت الفكرية للحركة الإسلامية بالموافقة على «مسار التطبيع» وتوقيع رئيس الحزب على اتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني.
الثالث: مسار الأخطاء المتعلقة بالحياة الأخلاقية بإقرار قانون «القنب الهندي»، وما سيترتب عليه من تأثير أخلاقي خطير على الشعب.
الرابع: مسار الأخطاء في مسار المستوى المعيشي والخدمي للناس كرفع سن التقاعد، ونظام المعلمين المتعاقدين، ورفع الدعم عن المحروقات الذي استغل من خصوم انتخابية لتجذير فشل الحزب في إدارة هذه الملفات.
لقد أدى تتابع وتراكم هذه الأخطاء إلى رسم صورة ذهنية جديدة عند الناخبين والشعب المغربي بأن الحزب فقد هويته الدينية، وحتى صلابته المدنية، وانعكس ذلك أيضاً على قواعد الحزب وقياداته الأخرى إحباطاً وخلافاً في الانسجام والتفاهم الداخلي، وعلى أسلوب تبرير قيادتها الحالة السياسية والمدنية في الحكومة.
وبالتالي، فإن الحزب واجه خصوماً ذوي إمكانات هائلة من الدعم الإعلامي والمالي والسياسي بما ساهم في إفشال مهمة قياديي الحزب في الحكومة، وأدى إلى بروز معارضة في الحزب بقيادات وازنة من الداخل غير متوافقة مع الأداء الحكومي لرجالها.
بلا شك أن هذه حالة طبيعية تصيب كل الأحزاب التي تباشر إدارة الشأن السياسي والحكومي وهي ترصّد خصومها والتخطيط والعمل على إفشال خططها، عدا أيضاً تواجه تلك الأحزاب معارضة داخلية على أسلوب ونهج إدارة الموقف والمشهد السياسي والحكومي.
لكن، هل هذا فعلاً يؤدي إلى هذه النتيجة المدوية من الفشل والتراجع إلى درجة أنه لا يحق لحزب العدالة أن يشكّل معارضة بنوابه الـ13 الذين نجحوا في هذه الانتخابات.
هذا يدعونا إلى التريث في إصدار الأحكام السريعة والعامة، ونحاول تحليل الحدث والمشهد بشكل أكثر عمقاً ونضجاً، هناك مجموعة من المحددات التي يجب تحريرها للوصول إلى نتائج الوضع الراهن الذي يحرر لنا على أي أساس بنيت القرارات السياسية للحزب لتستوعب الواقع السياسي وإكراهاته:
أولاً: المحدد التاريخي السياسي: وهو ما حدد صيغة السلطة السياسية تاريخياً في المغرب، إذ إن التعاقد الاجتماعي لإدارة الحياة السياسية في المغرب قد بدأ مبكراً منذ عدة قرون (1667م)، حيث حكمتها سلالة العلويين تعاقدية مع ارتفاع وعلو وتراجع وتقدم في مسار تاريخي مضطرب إلى استقلال المغرب عام 1956م وفي عهد الملك محمد الخامس أصبح النظام الملكي التعاقدي هو نموذج النظام السياسي الحاكم في المغرب، وبعد وفاته توج الدستور الأول عام 1962م الملكية الدستورية وذلك في عهد الملك الحسن الثاني الذي توفي عام 1999م ليأتي العهد الجديد (محمد السادس) الذي تم في عهده تعديل الدستور ليصبح الحكم ملكياً برلمانياً في عام 2011م الذي أتى بعد مسيرات حركة 20 فبراير الشبابية التي طالبت بالعيش بمغرب حر ديمقراطي.
من جهة أخرى، فإن دستور عام 2011م كان مرناً ويحمل التأويل إما في اتجاه تعزيز السلطوية أو في اتجاه تدعيم الديمقراطيات، وذلك حسب ميزان القوى القائم في كل مرحلة سياسية.
ويتكوَّن دستور عام 2011م من 180 فصلاً نص على مبدأ فصل السلطات وربط المسؤولية بالمحاسبة ووسع نسبياً صلاحيات للحكومة ورئيسها، فضلاً عن مؤسسات حكومية أخرى تعنى بمحاربة الفساد ومراقبة المنافسة والوساطة بين المواطنين والمؤسسات الحكومية.
إلا أن حكومة العدالة التنمية استلمت الحكومة والسلطة منقوصة، حيث ظل تعيين المناصب السيادية والخارجية والشؤون الدينية تحت سلطة الملك، وأصبح هامش التحرك السياسي والقرار الحكومي مقيداً بشكل كبير.
واعتبر منتقدو «السلطة المطلقة للحكم الملكي» كحركة العدل الإحسان، أو الحركات الشبابية المعارضة التي طالبت بأن يكون للشعب المساحة الأكبر من السلطة، وأن حزب العدالة والتنمية في خياراته للموافقة على السلطة المقيدة قد نسف جهود الثورة الشبابية والشعبية إبان تحركات عام 2011م وضيع الفرصة التاريخية للتغيير في سيادة السلطة الكلية للحكم لحساب الشعب.
وهي مساحة اجتهادية يختلف فيها الفريقان المؤيد والمعارض.
فقد كان اجتهاد حزب العدالة باختيار مبدأ «ديمقراطية من خلال الاستقرار» هو البوصلة في السلطة المقيدة، لكن أثبت هذا المنطق وفق نظر المعارضين فشله في النتائج وانعكاساتها على حالة العدالة والتنمية والحريات الحقيقية.
ومن هنا نستنتج أن خيار تقدير الموقف من طرف حزب العدالة والتنمية لم يكن ناجحاً للوصول إلى أهداف التغيير المنشود من قبل الحركات الشبابية في مطالبتها للتغيير عام 2011م، وإن كان مبرر العدالة والتنمية أن الحصول على السلطة الكاملة سيؤدي إلى نقيض الاستقرار، وهو محل نظر واجتهاد تختلف عليه الأطراف السياسية والشعبية كلٌّ من زاويته التقديرية.
ومما لا شك فيه أنه كان لهذا المحدد تأثير بالغ في مستوى إنجازات حزب العدالة وفشله في مواجهة الفساد وتغوّل الدولة العميقة في المجتمع المغربي.
المحدد الثاني: نظرية العمل السياسي التي تبناها حزب العدالة والتنمية «الإصلاح من داخل النظام السياسي»، وهي تختلف تماماً عن نظرية التغيير بالقوة أو الثورة.
فنظريات التغيير تتعدد إلى ثلاثة نماذج:
النموذج الأول: التغيير من داخل النظام، وهو أن تتفاعل مع طبيعة النظام السياسي، وتستخدم أدواته ومقرراته القانونية والشرعية، وتعمل تحت سقفه وتتعامل بالهامش المتاح من داخله.
وقد نجحت تنظيمات سياسية عديدة في إحداث التغيير المنشود نحو الإصلاح الدائم والتغيير لموازين العدالة والحريات والتنمية، وكانت تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا مثالاً معبراً عن نظرية التغيير من الداخل، وكذلك تجربة الرئيس مهاتير محمد في إحداث نهضة حضارية في ماليزيا.
النموذج الثاني: التغيير من خارج النظام؛ حيث يتم تغيير النظام بالقوة عبر حروب التحرير أو الثورات أو الانقلابات، ويعتبر انتصار “طالبان” في حربها ضد الولايات المتحدة ضمن هذا النوع من التغيير، وكذلك نموذج “حماس” كحركة تحرر وطني في مواجهة الكيان الصهيوني، ويعتبر تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) أيضاً نوعاً من أنواع التغيير لمثل هذا النموذج.
النموذج الثالث: هو نموذج فرْض نظام سياسي وتهيئته كنظام بديل؛ كما فرضت الولايات المتحدة النظام السياسي الجديد على العراق عام 2003م بعد غزوه، والنظام الأفغاني المدني عام 2001م.
وعليه، فإن حزب العدالة والتنمية المغربي يتبنى النموذج الأول، وهو العمل السياسي وفق نظرية الإصلاح السياسي من داخل النظام الذي يتشكّل من خلال الأدوات الناعمة والتفاهمات الدستورية والتحالفات السياسية والتعامل مع منطق السلطة الموزعة، والسلطة المقيدة والناقصة، ومحاولة التحرك وفق الهوامش المتاحة.
هذه النظرية في العمل السياسي تجعل أي منظومة سياسية هشة وضعيفة أمام إمكانات الطرف الآخر من السلطة وغير متكافئة معه سياسياً وقانونياً وإعلامياً ومالياً والتعامل بها يتم وفق المصالح والمفاسد منحازاً لإكراهات الأقوى والسلطة الأعلى في سبيل تحقيق مصالح قليلة أو درء مفاسد كبيرة.
فحزب العدالة والتنمية ليس حزباً ثورياً أو قوة تحريرية، لذلك فالحزب يستخدم إمكاناته المتاحة في بحر من الصراع السياسي مع قوى خشنة وناعمة متواجدة في السلطة والمجتمع.
لذلك، فإن التغيير محسوب، والأثر محدود، والزمن جزء من العلاج، وكلما كانت رياح السلطة الأقوى تهب نحو القوة ذات السلطة الأقل الميل نحو التعامل وفق مبدأ الإكراهات بما فيها التنازلات عن مساحات من الهوامش السياسية والأخلاقية وبما تصطدم مع ثوابت ومقررات الحزب الفكرية والشرعية أحياناً.
المحدد الثالث: الانضواء تحت مفهوم الدولة الوطنية القُطرية على حساب فكر الاستخلاف الإسلامي:
لقد واجه المسلمون بعد سقوط الخلافة الإسلامية عالماً جديداً، تم تشكيله منذ عدة قرون سبقته، ليشكّل نظاماً عالمياً جديداً تماسك وتداخل ليؤسس قواعد وتشريعات عولمية في السياسة والاقتصاد والقانون والتجارة ومناحي الحياة، وتأسس على أساس الدول القومية والوطنية والقُطرية، ومع بدء الاحتلال الغربي للدول الإسلامية والعربية، ومنذ معاهدة “سايكس بيكو” عام 1916م، انشطرت الدول العربية ورُسمت إلى دول قُطرية تشكّلت لها هويتها الخاصة ونظامها السياسي الخاص والمرتبط ارتباطاً كلياً مع النظام العالمي الجديد.
في حين أن مشكلة إعادة الخلافة الإسلامية ظلت هاجس المسلمين، وتعددت مناهج الإصلاح إلى ثلاثة:
– حركة الإحياء الديني السياسي متأثرة بروَّاد النهضة امتداداً من الأفغاني، وعبده، إلى محمد رشيد رضا الذي تأثر به الإمام حسن البنا.
ونشأت حركات تبنت نفس المنهج في الهند وباكستان وتركيا وماليزيا وإندونيسيا، وواجهت تلك الحركات معضلة الدولة القُطرية.
– وهناك منهج حركة الإصلاح الديني والمجتمعي التي كان منهاجها إصلاح المجتمع والنفس وابتعدت عن المجال السياسي كالجماعات السلفية والصوفية، إذ لم تقدم رؤية في كيفية إعادة المنظومة السياسية للمسلمين.
– الحركات الجهادية التي لم تعترف بواقع النظام العالمي الجديد، وبعضها نظر للإمارة الخاصة كحركات تحرر قُطري، مثل حركات “طالبان” و”الجهاد” و”حركة الجهاد الإريترية” وغيرها، ومنها من رأت الاتجاه المباشر للخلافة الأممية كحركات “القاعدة” و”داعش” و”الجيش الإسلامي” وغيرها.
في المنطقة العربية بشكل عام، ساد التيار الأغلب بتبنّي منهج الإصلاح السياسي عبر الدولة القُطرية، وبدأ محاولة للتكيّف مع طبيعة ونظام الدولة القُطرية، وتحول ذلك إلى جهد فكري لتطويع المفاهيم الإسلامية لتتكيف نحو مفاهيم تتناسب والدولة القُطرية «كالوطنية، وقومية الإسلام، وطاعة الحاكم، وتكييف الشريعة، وحقوق المرأة، وحقوق الإنسان، ومفهوم السلطة، وحقوق الأقليات، ومفهوم الجهاد»، والقبول بالتعددية.
وحرصت كل حركة إسلامية في بلدها على تكريس القُطرية وقبول الواقع، ولأن طبيعة الدولة المعاصرة تعمل تحت سقف نظام عالمي عولمي ليبرالي علماني، فإنه يستحيل معه قيام دولة ذات مرجعية إسلامية كنموذج بديل، وهو ما أوجد مساحة من الفجوة ما بين الفكرة والواقع.
لذا، اختلط عند جمهور الناس والذين يؤيدون الحركات الإسلامية ذات المرجعية الإسلامية على أساس أنها النموذج الذي يمكن إعادة خلافة المسلمين ومجد الإسلام وعدالته ورحمته من خلال هذه الأحزاب الإسلامية.
وظل الخطاب الإسلامي في كثير من مواقفه بعيداً عن الواقع السياسي والاجتماعي، لذا فإن حزباً كحزب العدالة والتنمية في المغرب تبنى تكييفاً خاصاً لمسألة الدولة القُطرية الوطنية والمرجعة الإسلامية، في حدود الواقع السياسي للدولة الحديثة المرتبطة بسقف النظام العالمي المتشابك في مصالحه وغاياته.
لذا، فإن الحزب واجه تحديات كبيرة في الانسجام السياسي مع خصومه أو مع الدولة الوطنية.
وتأتي مثلاً الخلافات الحدودية والجغرافية المتنازع عليها بين المغرب والجزائر وقضية قطع العلاقات بين البلدين حالة من حالات انكشاف مفاهيم المرجعية الإسلامية كأساس للتفاهم، إذ تدحضه مفاهيم الدولة القُطرية الحديثة.
وهي مسألة في غاية الحساسية للجمهور المنتمي للتيار الإسلامي في المغرب العربي ودوله، إذ تكشف حالة العجز في تأسيس قاعدة الأخوة الإيمانية المبنية على الإصلاح والتوافق بين الطرفين (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات: 9).
لذا، فالمحدد الثالث الذي يحدد المسار لمواقفه السياسية هو محاولة التكييف بين إطار المرجعية الإسلامية ومفاهيم الدولة القُطرية الوطنية الحديثة، وهو تحدٍّ له انعكاساته في الشارع الشعبي ومدى تقدم الناس له أو انفصالهم عنه.
المحدد الرابع: تأثير نسق ثورات الربيع العربي على الحالة السياسية في المغرب العربي ونتائجها:
قبل عقد من الزمان (2011م) بدأت ثورات الربيع العربي في أوج تصاعدها بدءاً من تونس مروراً بمصر وليبيا والمغرب وسائر الوطن العربي، لقد أتت هذه الثورات طبيعية وعفوية كمحاولة لكسر حالة الاستبداد وطغيان سلطة طبقة فاسدة تحيط بالحكم وتنشد هذه الثورات العدالة والحرية والكرامة والتنمية.
ولأن هذه الثورات تدور في إطار نظام دولي وإقليمي مستبد متشابك في مصالحه، فإن تلك الثورات بالرغم من نجاحها في بلدان في إيجاد حكم مدني لفترة قصيرة، فإن نموذجها السياسي جوبه بقوة ورد فعل فيما سمِّي بالثورة المضادة، بعضها استخدم القوة والوحشية والتهجير والقتل والحرب المباشرة (سورية وليبيا واليمن) كنماذج، وبعضها استخدم القوة الإعلامية والمالية والضغوط السياسية، وإيقاف المساندة الاقتصادية لإفشال النموذج السياسي (تونس مثالاً)، في حين أن النموذج المغربي الذي قادته حركة 20 فبراير (2011م) الشبابية التي طالبت بالعيش بمغرب حر وديمقراطي، وطالبت هذه الحركات الشبابية بتشكيل ملكية برلمانية ووضع دستور جديد يقوم على أسس ديمقراطية، ومطالب حقوقية وشعبية أخرى، وعليه فإن حركة الشباب ساهمت بتسريع إعداد الدستور الجديد 2011، وكان لها دور في إجراء انتخابات مبكرة، دفعت حزب العدالة والتنمية لقيادة الحكومة لأول مرة في تاريخه.
وحيث إنه خلال عشر سنوات مضت بدءاً في تطويق نتائج ثورات الربيع العربي، إما بالتصفية كما في مصر، أو بالتهجير والحصار كما في سورية، أو بالتفكيك والإضعاف كما في اليمن وليبيا، أو بالعزل والتهميش والإقصاء السياسي كما في تونس، ويأتي المغرب في هذا السياق، حيث إن المطلوب هو تصفية آثار ونتائج الربيع العربي، الذي يشكِّل حزب العدالة والتنمية طرفاً سياسياً فاعلاً له، ولأن المجتمع المغربي نجح في تجاوز مرحلة الصدام بين السلطة وقوى المجتمع، فإن التصفية تكون بالإدارة الديمقراطية وباللعبة السياسية والانتخابية، فاستنفاد الطاقة السياسية من خلال الأخطاء الحكومية لحكومات حزب العدالة والتنمية في الفترتين من (2012 – 2021م)، وتضخيمها، وإعادة رسم الصورة الذهنية له أمام الجمهور بعدم قدرته على إدارة الحالة السياسية للدولة، وهذا ما تم بالطبع، الحزب أخطأ في الكثير من قراراته السياسية بحكم صعوبة تقدير الموقف السياسي، وكذلك بواسطة كل الأدوات المتاحة الشرعية وغير الشرعية (سياسياً وإعلامياً) ومالياً، ليتم إسقاط نموذجه أمام الشعب المغربي، ولكن قرار التصفية كان إستراتيجية قد تم اعتمادها وتنفيذها بقرار إقليمي ودولي ضاغط، وأيضاً برضا الطبقة المستفيدة للدولة العميقة في المغرب، وبالطبع هذا لا يعفي قيادة حزب العدالة والتنمية المغربي بأنه ساهم في مسار تهميش وإضعاف مكانته السياسية والاجتماعية بقراراته التي سبق وأشرنا إليها.
والمسار في إنهاء نتائج الربيع العربي كان من أهم المؤثرات في الكثير من قرارات حزب العدالة والتنمية باعتباره شريكاً ونموذجاً رئيساً لحالة المسار الثوري الشبابي في المغرب الذي تأتي فصوله الأخيرة على نهايته.
أخطاء تقدير الموقف:
إذن تلك المحددات الأربعة ساهمت بشكل كبير في تشكيل القرارات السياسية لحكومة حزب العدالة والتنمية في المغرب، فقد أدت السلطة المنقوصة والمقيدة دستورياً، وطبيعة العمل بنظرية سياسية توافقية مع طبيعة الدولة القُطرية والإطار التكيفي للمرجعية الإسلامية في عملية الإصلاح، والقوة المضادة لمسار الحزب كممثل لنتائج ثورات الربيع العربي إلى أن يكون تقدير الموقف في قضايا خطيرة ومهمة حذراً ومنحازاً لاستقرار العلاقة مع السلطة الأعلى على حساب المجتمع، ومسايراً لتوجهات السلطة العليا وضغوطات المصالح الأكبر الخارجية والداخلية، محافظاً على النموذج التشاركي وربما كان تأولاً خاطئاً منه أنه مركز الاستقرار ورابط التعاون والثقة.
وكان ذلك الموقف ممثلاً في قرارات (الفرنسة والتطبيع وإباحة القنب، والانحياز لاقتصاد الدولة على حساب أرزاق ومعيشة طبقات ذات المحدودية والقصيرة وغيرها)، التي مست مساحة الهوية والأخلاق والثوابت والمصالح الرأسمالية، مما أوجد حالة واسعة من تخلي القواعد الحزبية داخلياً، وابتعاد الشركاء (القواعد المنبثقة من شركاء الحراك الثوري)، عدا عن نزوح عدد كبير من المجتمع لمصالحه المعيشية بعيداً عن التضامن مع حزب العدالة والتنمية الذي أصبح لا يمثل آمالهم أو طموحاتهم في العيش الكريم.
خروقات انتخابية:
لكن هذا لا يعني أننا نسلّم أن تلك الأسباب فقط هي مبررات الفشل الكبير لحزب العدالة والتنمية (وفق الإعلانات الرسمية للدولة)، إذ إنَّ الحالة الانتخابية وشروطها وقانونها وإدارتها، كان لها دور كبير في تنميط النتائج بتهميش نتائج حزب العدالة والتنمية ولم توفر الدولة أي بيانات رسمية وحقيقية عن الحالة الانتخابية غير بيانات وزير الداخلية، وقد نشرت بيانات الحزب وصحف في المغرب معلومات عن التزوير وشراء الأصوات واللعب بالنتائج ومنع ممثلي حزب العدالة من الحصول على محاضر فرز النتائج، مما يشكك بصحة الرواية الرسمية لحصول العدالة على 13 مقعداً، لم يعرف بعد من هم هؤلاء الفائزون، ولعل الحقيقة ستكشف مستقبلاً عن الحجم الحقيقي لعملية التزوير (وفق رواية الحزب) وفي مقابلها الحجم الحقيقي لشعبية حزب العدالة والتنمية في المغرب.
الخلاصات:
وإذاً، يمكن أن نقدم خلاصات ونصائح مقترحة للعاملين في ميدان السياسة على ضوء نتائج حزب العدالة والتنمية في المغرب كما يلي:
أولاً: إن الأحزاب التي تبنّت الإصلاح تحت سقف الدولة الوطنية لا يمكنها القفز على حقيقة أنها ستصبح جزءاً من منظومة الحكم الذي هو أساساً منضبط بالنظام الدولي وأدواته وآلياته التي بنيت خلال قرون مضت.
ثانياً: إن عمليات التغيير الثورية التي مرت على الوطن العربي منذ عام 2011م وحتى اليوم لم تستطع تغيير الإطار العام للنظام السياسي الذي بنته معاهدات سايكس بيكو واتفاقية إنشاء الأمم المتحدة تحت وصاية الدول الخمس الكبرى.
وبالرغم من أنها أوجدت عمليات تغيير في المفاهيم وتراكم خبرات التغيير التي سيبنى عليها تيار جديد تظهر ملامحه على واقع الحالة السياسية في المنطقة العربية مستقبلاً.
ثالثاً: إن طبيعة ومنهجية التغيير في المنطقة العربية متباينة، حيث تدخل التركيبة الاجتماعية والسياسية والتاريخية والجامدة منذ عقود للحيلولة من إحداث تغيير جذري كبير.
ومن الخطأ مقارنتها بمجتمعات تختلف في طبيعة التكوين والصراع فيها وتختلف في طبيعة التشكيل التاريخي والاجتماعي.
رابعاً: ما زالت الحركات ذات المرجعية الإسلامية في المنطقة العربية ضعيفة الأدوات والآليات، وأن حجم التدافع مع الآخر غير متوازن في الإمكانيات والقدرات، إذ إن الآخر مسنود من قوة خشنة داخلية (جيش، أمن..)، وناعمة، وإسناد خارجي منسجم بالمرجعية الليبرالية والعلمانية والرأسمالية الاقتصادية.
خامساً: تظل المجتمعات العربية في نخبها وطبقاتها الشعبية يسودها ضعف في منسوب الوعي الإستراتيجي لطبيعة الصراع والتدافع.
بل وحتى طبقات المؤيدين للحل الإسلامي بدأ ينفد صبرهم من أجل الانتقال من مرحلة سياسية إلى أخرى، بحيث تتراكم الخبرات والإمكانات لمراحل تغيير جديدة.
سادساً: أيضاً تحتاج قواعد وقادة الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية إلى مزيد من التدريب والتثقيف في جوانب الوعي الإستراتيجي وتطوير القدرة على تطوير مفاهيم السياسة الشرعية لاستيعاب المتغيرات وطبيعة التعامل مع الدولة الوطنية كمرحلة ناقلة إلى أفق التغيير للدولة العادلة.
سابعاً: وما يتوجب على الجماعات والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية الانحياز إلى المكوّن الشعبي الطالب للعدالة والحريات والكرامة والتنمية.
فهو الخيار الأول الذي يجب أن تنحاز إليه قراراتها السياسية في إطار نظرية التغيير من داخل النظام، وأن مبدأ استقرار الدولة يجب أن يظل مستنداً إلى سلطة الشعب لا سلطة الحاكم فقط.
ثامناً: إن الخيار الأساسي والميداني لأي كتلة إسلامية هو خيار الهوية والثوابت والأساس الأخلاقي للقيم الإسلامية التي بيّنت غايات النشأة والتوجه، فلا تفريط بها من أجل براغماتية سياسية مرحلية ولو تم تجاوز مصالح محدودة في حينها.
وفق ذلك ننصح حزب العدالة والتنمية في المغرب اليوم على ضوء نتائجه المتواضعة التي لا تمثّل قوته الحقيقية، التي استنفدت بأخطاء سياسية في تقدير الموقف، وعدم التقيد ببعض ثوابت مرجعيتها الإسلامية، وضعف أدائه في تحقيق آمال أبناء الربيع العربي في المغرب، فإنه يجدر به أن يعيد النظر في:
– فتح حوار حقيقي في نظريته للعمل السياسي مع الكتل الوطنية والإسلامية لتحقيق مجتمع الدولة العادلة.
– تقويم اجتهاده في تقدير الموقف وحجم الأخطاء الكبيرة فيه.
– الاهتمام بالثوابت والقيم التي يجب الوفاء بها دونما تفريط، إذ إنها أمانة التاريخ والنشأة والهدف.
– توفير قيادة جديدة تستجيب لطبيعة المرحلة الجديدة وتفتح آفاقاً لإعادة تموضع الحزب من جديد في المجتمع المغربي وعدم هدر طاقات وإمكانات الشباب الحركي.
– العمل بالممكن والتعامل مع الهوامش المتاحة وتحديد الأولويات لتجسير العلاقة مع القواعد الشعبية في المجتمع المغربي.
– التحرر من وهم حماية الاستقرار وحمل الأمانة منفرداً وتحويل قضية العدالة والحريات والديمقراطية والتنمية هي مسؤولية الشعب والسلطة جميعاً.
– إعادة تماسك الحزب ومنتسبيه نحو رواية جديدة من العمل السياسي أحدها التخطيط للنجاح الانتخابي في المرحلة القادمة.