نداء التعمير

 

في هذه الحلقة يتابع الشيخ جاسم بن مهلهل الياسين حديثه في هذه الاستراحة حيث يدعو إلى التفاؤل مع العزمة الصادقة للانتفاع من المحنة، مع استنهاض النفس بطلب العون من الله الخروج من آثار المحنة، والعمل على الوفاء لعظيم عطاء الله في تك المحنة أن ذلك المحنة، إن ذلك يدعو الإنسان الكويتي إلى تجسيد فريضة إنكار المنكر والبراءة إلى الله من كل ما يخالف شرعه، وينتقل فضيلته ليقوّم موقف الحركة الإسلامية أثناء أزمة الخليج وفق موازين شرعية إلى ثلاثة أقسام، لمتابعة هذا الموضوع لننتقل أخي القارئ إلى هذه الاستراحة.

نداء التعمير

مع الدمار الذي حل من أثر الاحتلال العراقي للكويت ومع مجموعة الإحباطات التي تعرض لها الشعب الكويتي ولا يزال، ومع انتشار صور المنكرات وعدم الوضوح في التطبيق للشريعة الإسلامية، مع هذا كله يجد المسلم نفسه في خيمة من الظلام يكاد يتعثر في حبال اليأس فيها، وإذا بنور الشرع والهدى النبوي يسطع ليبدد الظلام، ويقر الحقيقة في هذا الدين، وهي أن العمل الإسلامي في الأرض لا ينبغي أن ينقطع لحظة واحدة بسبب اليأس من النتيجة، كل المعوقات، كل الميئسات كل المستحيلات كلها تتساقط عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر”، فالمسلم ذو تصميم جاد يبحث عن الحق ويتحسسه عنوانه (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87)، وهذا الأمل جاء من الفأل الحسن الذي هو من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم: “لا عدوى ولا طيره ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة” (رواه البخاري الفتح 2/ 324)، والكلمة الحسنة تعجب النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع يا نجيح يا راشد، واليوم وسط تلك الظلمات نسمع نداءات تدل على عزمة قوية من مؤمنين ومؤمنات، صادقين وصادقات نسمع صوتاً عالياً من جميع من انتفع من محنة الكويت فاستطاع أن يقلبها إلى منحة فهي صرخة رجل واحد مجموع، كالبرق يشق كثافة السحاب لينزل المطر لترتوي الأرض فتنبت خيراً، إنها صرخة الأنبياء جميعاً (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (المؤمنون: 32)، إنها صرخة تسقط جميع أدعياء الألوهية؛ (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ) (يوسف: 40)، إنها صرخة تبحث عن الأحسن؛ (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك: 2)، الأحسن من البشر الأحسن من العمل، الأحسن من الأجر، ونحن في الاستشراف إلى الأحسن ندعو جميع إخواننا الذين كانوا معنا فتباطأ بهم السير فسبقهم القطار، أو الذين كان سعيهم سريعاً فسبقوا القطار، أو من فُتن بنفسه أو بالمجتمع أو بإخوانه الذين كان معهم، إلى هؤلاء وإلى من أوقفت المحنة دولاب سعيهم ليتفكروا في أنفسهم فيقولوا هل من سبيل لنصرة هذا الدين؟ إلى هؤلاء جميعاً نقول إن كيان حركتنا في منظورنا المستقبلي من خلال الحركة الدستورية الإسلامية سيكون مبنياً على السعة التي تبسط مجالات العمل ليجد كل مسلم ما يشغله ويرضيه في فهم سلفي قائم على الوسطية بين الاستيعاب والاستقطاب، ونحن في هذه الدعوة العريضة والحركة الدؤوبة نؤكد على استحضار النصوص القرآنية والحديثية المرهبة من الفرقة والمرغبة في الوحدة، وكذلك النظر إلى السيرة النبوية المبنية لنماذج الفتن ومواقف الاعتصام في التاريخ الإسلامي، فالدعاة أمام التحديات الكثيرة تظهر عندهم تفاهة غالب الخلافات الداخلية وعاقبة التمادي فيها إلى الفرقة، إنه في النهاية نداء ورجاء للجميع أن يركبوا معنا خوفاً من أن يغرقوا ونغرق معهم، إنه نداء خوف ومحبة فهل يجد له صدى عند أحبابنا؟

عند اشتداد المحنة يكون الصبر يكون الصبر والاستعانة

أُم المحن هي تلك التي حدثت في السنة الخامسة للهجرة إنها محنة كلفت أطهر النفوس سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كلفته آلاماً لا تطاق إلا بعون الله تعالى، إنها محنة حلت بعد الرجوع من غزوة بني المصطلق كانت ضحيتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها حيث تقول عن نفسها: “لا يرفأ لي دمع ولا أكتحل بنوم”، وتقول: “بكيت حتى أظن أن البكاء فالق كبدي”، إنها المحنة التي كادت تشعل نار الجاهلية بين سيد الأوس “أسيد بن الحضير وسيد الخزرج “سعد بن عبادة” إنها المحنة التي واجهتها عائشة رضي الله عنها بصبر الكبار واستعانة الصادقين، فقالت: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف: 18)، إنها بعد ذلك أُم الانتصارات حيث خرجت الأمة بعد ذلك منتصرة كاظمة لآلامها الكبار، محتفظة بوقارها، وجميل صبرها وهي بذلك تعبر عن حسن علاقتها وظنها بالله “لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله” وإحسان الظن هو الذي جعلنا في محنتنا نستشعر معية الله حيث جعلنا في محنتنا نستشعر معية الله حيث جعلنا مظلومين نترقب النصر، ولم يجعلنا ظالمين نترقب المقت والأخذ، ونستشعر بأنه من نعم الله سبحانه إن لم نُصب بما هو أكبر من المصيبة التي نحن فيها، لأن الظالم لا يبقى والديان لا يموت، والصابر لا ييأس، نعم إن البلاء مضمار يتسابق فيه الخلق فيسبق أقوام ويتأخر آخرون (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ).

الدعاء هو طلب العون من الله لجلب الخير أو دفع الشر وهو العبادة لله “أفضل العبادة الدعاء، ولا يتركه إلا عاجز “أعجز الناس من عجز عن الدعاء”، إنها قصتنا قصة المعاناة والاضطرار لسبعة أشهر كان يمتزج فيها الألم مع الدعاء ليكن الفرج من الله: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل: 62)، فكان كشف الله للسوء بقدره (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) (طه: 40)، إنها سهام الليل المجربة على الجميع فليحذر منها من كان في قبله ذرة إيمان، قال الإمام الشافعي رحمه الله:

أتهزأ بالدعاء وتزدريه                    وما تدري بما صنع الدعاء

سهام الليل لا تخفى ولكن                لها وللأمد انقضاء  

نعم إنها دموع المكلومين المتوكلين كما عبر عنها زين العابدين رحمه الله:

أدعوك ربي حزيناً هائماً قلقاً                  فارحم بكائي رب البيت والحرم

إنه الدعاء الذي جعل المظلوم ينتصر على الظالم: (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ {100} وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ) (هود)، إلى قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود: 102)، ومع هذا الكرم الرباني في تحرير أرضنا ورجوع أمننا وتهدئة روعنا، دب الوجل في قلوبنا هل نستطيع الوفاء لعظيم عطاء ربنا ونحن نستمع لحديث نبينا صلى الله عليه وسلم: “استحيوا من الله تعالى حق الحياء، من استحيا من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلا، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء”، إنه الحياء الذي نرى فيه نعم الله الكثيرة أيام الاحتلال وبعد التحرير ثم في مقابل ذلك ترى التقصير من قبل من أنعم الله عليهم بكامل نعمه، والذي يزيدنا وجلاً، إنه مع تقصيرنا فنحن لا زلنا نعيش بكنف رب حي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردها صفراً، وهكذا وبعد المحنة أصبح فينا المؤمن الذي جمع إحساناً وخشية، وكذلك بيننا المنافق الذي جمع إساءة وأمناً.

إنكار للمنكر وبراءة إلى الله

نص لا خيار لنا فيه “من رأي منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان” إنه نص السلامة كما قال صلى الله عليه وسلم: “ولكن من رضي وتابع” هذه النصوص تلقى على المسلم تبعة كما نعطيه شيئاً من الأمل، إن هو تعامل معها بصدق فواقعنا فيه حرقة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فهناك خلف للوعد وكذلك فسق ومجون مجاهر فيه، ومواضيع تنتهك فيها حرمة المسلم وينتقص فيها من عرضه، فبعد أن كنا مظلومين أصبحنا ظالمين لأنفسنا وظالمين لقيمنا ومبادئنا وإخواننا، فبعد أن كنا ننتظر الفرج والنصر أصبحنا نخاف المقت، ونحن لا يسعنا إلا أن نتمسك بنص حديث نبينا السابق، فنكره ما يُصنع من مخالفة لشريعة الله ودينه وننكر بكل وسائل الإنكار ما هو واقع من انحراف لعلنا بذلك ننجو برحمة الله وفضله.

بين التعميم والتخصيص

إن الإنصاف يقتضي عدم التعميم في الأحكام والتحكم في الإلزام، وعدم إشراك كل المسميات في حكم واحد إذا كان هناك اتفاق بالأسماء.

ومن هذه الأسطر يمكننا أن ننصف الحركة الإسلامية في موقفها من محنة الكويت وأزمة الخليج فأي منصف يراها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

1- القسم الأول: الحركة الإسلامية في الكويت والخليج كانت رمزاً واضحاً وشمساً مشرقة وسبباً في وحدة الصف وتعجيل الفرج وتخفيف الآلام ومقارعة الظلم، ولا يقول بخلاف ذلك إلا مكابر جاحد، ينكر القمر في ليلة البدر، والشمس في واضحة النهار، فكانت لجان التكافل الاجتماعي في الكويت التي جعلت المسجد مركزاً وجموع المصلين قادة وقاعدة، وكان المنسق لهذه شباب الحركة الإسلامية في الكويت، كما أن حركة المرابطين شهد لها كل من عنده بصر وبصيرة، أما خارج الكويت فكانت هيئة الإغاثة وجموع شباب الدعوة في المملكة العربية السعودية رمزاً للعطاء والتضحية، وكل من خرج من الحدود أو عن طريق البر يعرف دورهم الرائد الذي لا ينساه إلا حاقد، أما في الخليج فشباب المساجد واللجنة الكويتية الإمارتية وجمعية الإصلاح في الإمارات والبحرين كان لهم الدور الذي ينم عن إحساسهم بالواجب الملقى عليهم تجاه إخوانهم أهل الكويت، وعلى مستوى الحركة الإسلامية الكويتية في الخارج فالدور الذي قامت به الهيئة العالمية للتضامن مع الشعب الكويتي في أوروبا وأميركا والدول العربية وفروعها المختلفة دليل واضح على عظيم مستوى العطاء.

والحركة الإسلامية في الأقطار الأخرى كان لها موقف مشرف فخطباء المساجد وعلماء الأزهر كان لهم الدور الرائد في توعية الجماهير في مصر، والجماعة الإسلامية في لبنان وأمينها العام، الأستاذ فتحي يكن والشيخ فيصل مولوي لهم دور طيب على الساحة اللبنانية، وفي السودان نرى الدكتور الحبر -مراقب الإخوان المسلمين- له مواقف مشرفة في السودان، ومؤتمر مكة ومؤتمر الجهاد في الرياض، والجماعات الإسلامية في جنوب شرق آسيا كانت تخرج المظاهرات ضد العراق مؤيدة للكويت، وهكذا كان وجه مشرق للحركة الإسلامية وعلماء المسلمين في أزمة الخليج.

2- القسم الثاني: وهم بعض الرموز المؤسسية والفردية الذين اختلط عليهم الأمر في وجود ظالم ومظلوم يجب نصرته بكل صور النصر، مع الأخذ على يد الظالم ولو مع وجود القوات الأمريكية، وضاعت عندهم قاعدة السببية التي يتحمل صاحب السبب الذي هو النظام العراقي مسؤولية الآثار المترتبة على فعله، ومع وجود هذا الاختلاط غابت الموازين والتبست المفاهيم، وانزوت قضية الحق عندهم في زاوية ضيقة فكان عدم الوضوح في نصرة الحق الذي هو بصورة أو بأخرى يكون دعماً ومساندة للظالم على ظلمه.

3- القسم الثالث: هو الذي ضاع تحت ضغط الوهم والوهن، والوهن الضعف الذي زحف عند غياب حقيقة دينية عند المسلمين “لا تحزن إن الله معنا” “ما ظنك باثنين الله ثالثهما” فمع غياب هذه الحقيقة، ومع رؤية اليهود يتمكنون يوماً بعد يوم، والهيئات الدولية تجند طاقاتهم من أجل الطفل الأفريقي الذي يموت جوعاً ولا تحرك ساكناً وعشرات الأطفال في فلسطين يقتلون وتنتهك حرماتهم، في هذا الجو من الضعف زحف الوهم الذي جعل أصحابه يعتقدون أنه قد جاء الوقت الذي يقول فيه الحجر والشجر: “يا مسلم يا عبد الله خلفي يهودي تعالى فاقتله، وظنوا القشة أنها سفينة نوح المنقذة من الغرق، وهكذا ظنوا زوراً أن النظام البعثي هو المنقذ، وعلى هذا التفصيل نكون قد اتخذنا طريق الإنصاف، فنقدم الشكر للقسم الأول ونوجه اللوم للقسم الثاني والحساب للقسم الثالث، وهدفنا في هذا أن يرجع الجميع إلى دائرة الحق المنبثق من أصول ديننا الكريم، وأن يكون هذا الحق مقدماً على الرجال والموروثات، ونحن نقول حقاً كان الأمر مهولاً والحدث جسيماً، كما أنشد ابن أمية:

دهتنا أمور تشيب الوليد               ويخذل فيها الصديق الصديق

قتال مبيد وسيف عتيد                وجوع شديد وخوف وضيق

وفي هذا الخطب ظلمنا بعض إخواننا العرب والمسلمين، فما زادنا هذا إلا ثبات على قيمنا ومبادئنا وأنشدنا ما قال ابن القشيري:

إني وهبت لظالمي ظلمي                  وعفوت ذاك على علمي

ورأيته أسدي بجهله حلمي                 لما أنار بجهله حلمي   

ما زال يظلمني وأرحمه                      حتى رثيت له من الظلم

ونريد من هذا القسم ما قاله الشاعر:

جفاء أتى جهراً لدى الناس وانبسط           وعذر أتى سراً فأكد ما فرط

Exit mobile version