الثابت والمتغير

 

في هذه الحلقة، يواصل الشيخ جاسم بن مهلهل الياسين حديثه حول الثابت والمتغير، فقد كانت هناك وما زالت ثوابت قبل المحنة وبعدها، منها أن النظام البعثي قائم على هدم الإسلام، كما أن القدس والمسجد الأقصى لهما القدسية في كتاب الله تعالى، وأن قتال اليهود قادم لا محالة كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الحق يعرف به بالكتاب والسُّنة وفحول العلماء وليس بالرجال، وأن مراقبة الشرع نهايتها موصلة إلى الخير والفلاح، وأن الرسالة الإسلامية تحمل صفة العالمية، تبدأ الدعوة من الأقربين إلى القطر إلى العرب إلى الإنذار العام للعالمين، ويحدد الشيخ في نهاية المطاف مع الثوابت أن هذا الدين سينتصر، وأن راية التوحيد ستعتلي شاء من شاء وكره من كره.. وإلى الاستراحة الثالثة: ثابت ومتغير.

الأمر الثابت قد يكون متغيراً في نفس الوقت الذي يكون فيه ثابتاً فيقال كما في لسان العرب: ثبت فلان في المكان يثبت ثبوتاً، فهو ثابت إذا أقام به، وعلى هذا يكون الإنسان متحركاً في المقام الذي يثبت فيه، فالداعية ثابت ملتزم بثوابت الدعوة والتي منها أن العمل الجماعي من أبجديات العمل الإسلامي، وأن كدر الجماعة ولا صفاء الفرد، وأن بوابة العمل الجماعي لا يحرسها رجال غلاظ بل ضوابط الدين من الكتاب والسنة، وهذه الثوابت لا تمنعه من أن يتحرك بكل مجالات العمل الإسلامي وفق الأشكال والصور التي تحقق الأحسن في العمل لنصرة هذا الدين، ولهذا نرى أن أهل اللغة يقولون: “غَيّرَه حولّه وبدّله فكأنه جعل غير ما كان”، فكلمة “كأنه” تعطي ظلالاً أن التغير إنما هو في الشكل وليس في المضمون، وأنه في الصورة لا في الحقيقة.

ومسار الدعوة ويومياتها خاضع لأصول ثابتة جاء بها الكتاب والسُّنة وإجماع المسلمين، وهو بعد ذلك يرفض القعود والجمود، كما يرفض التعصب للمواقف الفكرية والسياسات المنهجية والأشكال التنظيمية والأعراف الحركية لأنها من صنع البشر واجتهاداتهم، وأصحابها بين الأجر والأجرين، الذي يجب أن يتعصب له إن جاز التعبير، فهو “توخي الحق والعمل على تحقيقه في واقع الحياة”، فتفكير البشر واجتهاداتهم تعتبر وسائل لعمل التفكير إلى الأحسن في واقع المجتمعات، وهذه لا تعني أنها صالحة لأن تؤدي الغرض الذي وضعت له في كل الظروف والأزمنة.

ثوابت قبل محنة الكويت وبعدها في فهمنا:

الأمر الأول: أن النظام البعثي قائم على هدم الإسلام وبناء عقيدته من وحي النصارى واليهود، وعلى هذا فالنصر لا يأتي على يديه والعز ليس من طريقه لأنه من الثابت (إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس: 81)، (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27).  

الأمر الثاني: أن القدس والمسجد الأقصى آية في كتاب الله (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الإسراء: 1)، فالتفريط فيه ليس من حق أحد، كما ليس من حق أحد أن يتنازل عن قوله تـعالى: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: 36)، فقتال اليهود قادم وسنن الله متحققة وحديث النبي صلى الله عليه وسلم حق واقع: “لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود” (رواه مسلم)، فالمسجد الأقصى ليس سلعة للمزايدات السياسية والخطابات الحماسية فما ضيعه ومكن اليهود منه إلا الخطابات والمزايدات من يومنا هذا في التسعينيات، وما زالت قضيته يستفيد منها الجميع إلا أصحابها، وأصحابها هم من كانوا على ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

الأمر الثالث: الحق لا يعرف بالرجال، فهذا الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول لمن سأله عن الحق في موقعة الجمل: “وايم الله إنك لملبوس عليك أيعرف الحق بالرجل اعرف الحق تعرق أهله”، والحق يعرف عندما يستنار بالكتاب والسُّنة وأقوال الفحول من علماء الأمة المخلصين، والمسلم واقف عند النص، فالإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه يفتي سائله فيقول السائل: وأنت يا إمام ما قولك؟ فيقول الإمام: ويحك أترى في وسطي زناراً، أقول: قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقول: ما رأيك؟!

وفي محنة الكويت كان الظلم واضحاً، واستباحة الحرمات بينة، والمسألة لا تحتاج إلى دليل، والنصوص المحرمة لهذا لا تخفى على عامة المسلمين، علاوة على علمائهم، كما كان واضحاً أن موالاة النصارى أمر مخالف للعقيدة، وثابت مع هذا أن الاستعانة بالكافر لا علاقة لها بأمر الموالاة، فهي من أمور الفقه المختلف فيها، لا من أمور العقيدة المتفق عليها، مع هذا كله نرى جمعاً كبيراً من المسلمين قد حاد عن الجادة لأنه قال كسالفه: أيعقل أن يجتمع هذا الحشد من الدعاة على باطل.

الأمر الرابع: مراقبة الشر قبل البشر؛ مراقبة البشر تعني التردد وفقدان الفوز، ومراقبة الشرع نهايتها الفوز بالدنيا والآخرة.

قال الشاعر:

من راقب الناس مات هماً                  وفاز باللذة الجسور

فالتردد دليل العجز، قال أبو مسلم الدينوري: والعاجز في تردد وتثني حائر لا يأتمر رشداً لا يطيع مرشداً، والعجز في القيادة خطير، والقائد الذي لا يقر في الوقت المناسب، من الممكن أن يكون عالماً كبيراً ولكن لا يكون قائداً ناجحاً، والضياع الذي مُنيت به بعض الحركات الشعبية إنما كان بتتبعها ما تطلبه الجماهير لا ما يطلبه الشرع، فكانت الرقصات الجنونية والصرخات الهستيرية على أشلاء الأبرياء من الشعب الكويتي نتيجة للنظر لمتطلبات البشر قبل النظر لمتطلبات الشرع.

الأمر الخامس: عالمية الدعوة؛ إن عالمية الرسالة الإسلامية لا يختلف عليها اثنان فهو نص واضح في كتاب الله تعالى وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما أنه مما لا تنتطح فيه عنزان أن عالمية الرسالة الخاتمة تم تحقيقها عبر مراحل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فنرى أن التدرج في الخطاب من قوله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214)، إلى خطاب مكة وما حولها ثم المدينة المنورة ومن فيها ثم العرب كافة إلى الإنذار العام للعالمين، وهذه المرحلية في التطبيق لم تكن تعارض التأهيل في أول الدعوة أن هذه الرسالة عامة للإنس والجن كما في الخطاب القرآني: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء: 1)، وقوله تعالى: (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92)، كما أن النص القرآني جعل المسلمين يعيشون في إطار العالمية مع تحركهم لم يكن يتعدى حدود الجزيرة، ومعاناتهم ما كانت تتجاوز شِعب أبي طالب، ومع هذا كان القرآن يتحدث لهم عن الصراع على الساحة العالمية بين فارس المجوسية الكافرة والروم الكتابية في قوله تعالى: (الم {1} غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {3} فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ {5}‏) (الروم).

الأمر السادس: إن هذا الدين سينتصر وراية التوحيد ستعتلي؛ مع الاشتداد الذي تتعرض له الأمة الإسلامية ومع وجود الاحباطات الكثيرة، إلا أن البشارات من الله أكثر وآية الله أصدق (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة: 21)، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم فيه الأمل: “تكونُ النُّبُوَّةُ فيكم ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ تعالى، ثم تكونُ خلافةٌ على مِنهاجِ النُّبُوَّةِ ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ تعالى، ثم تكونُ مُلْكًا عاضًّا، فتكونُ ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ تعالى، ثم تكونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فيكونُ ما شاء اللهُ أن يكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ تعالى، ثم تكونُ خلافةً على مِنهاجِ نُبُوَّةٍ، ثم سكت”.

والمتطلع إلى واقع الأمة الإسلامية وتاريخها يرى أنها تتحقق سنة الله فيها بالسقوط، ويأتي البديل من مكان لا يتوقع، فعندما بدأت إرهاصات السقوط للدولة الأموية جاء البديل من وسط فارس لتقوم الدولة العباسية، وعندما بدأ الانهيار فيها جاء البديل من هضبة الأناضول فكانت الدولة العثمانية، وهكذا رياح التغيير عندما تأتي بقدر الله لا يردها أحد، فقد تأتي من الولايات الإسلامية المنفصلة عن الاتحاد السوفييتي، كما أنها قد تأتي من أمريكا، فالغيب لا يعلمه إلا الله، ونحن نعرف أن هذا الدين سينتصر وعندنا الأمل بعد توفيق الله تعالى ثم بالعمل.

متغيرات دائرة في اجتهادات البشر ودوران الزمان

هناك أصول ثابتة لا مجال لأن تتغير بتغير الزمان والمكان، هناك أمور أخرى يلحقها التغيير فقد تكون صحيحة في وقت وغير مناسبة في آخر وقد تكون صائبة في حين وغير مناسبة في آخر، وهذا هو الإمام الشافعي ألف الرسالة مرتين بحسب زمانه ومكانه مع التزامه بمصدر التشريع الكتاب والسنة، فيقول الفخر الرازي في كتاب مناقب الشافعي: “اعلم أن الشافعي رضي الله عنه صنف كتاب الرسالة ببغداد، ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب الرسالة، وفي كل واحد منهما علم كثير”.

المتغير الأول: طرائق الدعوة وعلاقاتها:

في التعامل الدعوي اليومي الذي يعيشه المسلم يكون حرصه ابتداء على الإنجاز والتفاعل والعطاء في دائرة الإقليم الذي يتحرك فيه (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214)، “يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ثم التفت إلى فاطمة فقال: يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أغني عنك من الله شيئاً..”، مع أخذ بالاعتبار لعالمية الدعوة، وكل هذا بالطريقة والكيفية الموافقة للواقع والفرص المتاحة والأخطار المحيطة على هدي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تعصب للمواقف الفكرية أو السياسية المنهجية، أو التقيد بأي شكل من هياكل العمل، ليبقى بعد ذلك الهدف والسعي لتحقيق الدين في واقع الحياة، فالوسائل البشرية قد تكون في زمن قادرة على تغيير واقع المجتمع متوافقة مع ما وضعت له من أهداف متمشية مع سياستها، وقد يتغير الزمان والمكان فيكون من المناسب تغيير الوسيلة السابقة، وإن كان التغيير لا يؤدي إلى أكثر من تخفيف الأخطاء وتقليل الانحدار، فدعوة نصوصها القرآنية والحديثية عالمية لا بد أن تدار بطريقة تستغل الطاقات العالمية من خلال نسق في العلاقات الأفقية، لتوزيع الأعباء الرأسية في عمل شوري واسع، تتكافل فيه المساعي وتتناصر الجهود من أجل نصرة الدين، وهنا لا بد أن نذكر أن صورة العالمية عبر التاريخ الإسلامي في وقت الخلافة كانت لها صورة مختلفة، ثم بعد سقوط الخلافة وتوزع الناس في عملية الدعوة والسعي لإرجاع الحكم إلى الله في واقع البشر في هذه الأجواء اختلفت وتنوعت الصيغ لتظل جميعها في دائرة الاجتهاد المحتمل للخطأ والصواب، وليس هناك أمر ملزم للجميع ولكن ما يجب أن يكون هو أن تكون هناك نظرة جادة في فهم التوازن في الدين ليظهر هذا التوازن في صيغة جديدة للعمل الإسلامي العالمي تجمع بين الأصالة والتجديد، والأمنة والواقع، والطموح والإمكانات من أجل ألا نُفْرِط في جانب ونفرط في الآخر ولا يطغى التمحور المكاني على انطلاقة العالمية فيكون الخلل.

المتغير الثاني: في طريق انتصار هذا الدين:

إن الدعوات الإسلامية اليوم بحكم تدرجها تمر في مسيرة دعوتها في مراحل متغيرة، فتبدأ في إطار التربية الخاصة مع عيشها في معاني الشمولية في مفاهيمها وشعاراتها، فتكون هذه المرحلة ضرورية لضمان نقاء الصف، وتكون القاعدة الصلبة حيث عيشها في أول أمرها موحشة في المجتمع، وهذه المرحلة ليست أمراً ثابتا، فعند تقبل المجتمع لأطروحاتها الدعاة لا بد من مرحلة ثانية تتسم بالانفتاح الدعوي والانشراح الحركي تخرج فيه الحركة إلى المجتمع بأجهزتها فتخدم على المجتمع في إطار وظيفي تنتفع الحركة، وتنفع من خلال التعامل.

والحركة الدعوية وفي تعاملها هذا تتحمل تبعه ومعاناة إشكاليات في أوساط الدعاة تعتبر تكلفة لازمة لهذا الانفتاح في العمل، وهكذا في الأنماط والأشكال ليس هناك إلزام بصورة معينة، بل إن الأمر يتغير حتى في نفس محور العمل المحدد، فعلى سبيل المثال كانت الحركة الإسلامية في الكويت تعتمد على عملها السياسي في كل مسألة تحتاجها إلى التعبئة الطارئة حول الحوادث التي تعيشها في وقتها، أما الآن وبعد انتهاء الاحتلال فهناك سعي لأن تقيم الحركة الدستورية الإسلامية لقيام محور ولاء سياسي شعبي لتنتقل الحركة الإسلامية من كونها دعوية فقط إلى جماعة ضغط من أجل تحقيق المكاسب الإسلامية في تحكيم الشريعة الإسلامية، وهكذا طرائق عمل الدعوة تتغير بحسب ظرفي الزمان والمكان، على أن يكون هذا التغير محكوماً بأصالة هذا الدين المستقاة من الكتاب والسُّنة. 

Exit mobile version