النصيحة لمن تجب لهم النصيحة

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”، وبالمناصحة تكون لنا الخيرية (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران: 110)، ومن ضرورة محبتنا للعاملين في الحقل الإسلامي أن نصدقهم في عظيم ما نحن فيه، وعظيم ما نحتاج إليه، فمحنة كهذه التي مرت بالكويت، بل بالعالم أجمع لا يمكن أن يعقبها هدوء وراحة، وإنما يعقبها جهد وجهاد وتعب ونصب من أجل بناء دعوي إسلامي وفق أطر محددة واضحة المعالم بنية المنهج تستفيد من المحنة وهي تستشرف المستقبل بتحقيق بدايات الإصلاح والتي فيها:

أ- واجب على كل حال: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”: إن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عام يمارسه الجميع وعلى الجميع، وذلك من أجل ألا تنزل اللعنة قال الله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ) (المائدة: 78)، فالوقفة الجادة في منظومة العمل واجبة من أجل تصحيح المسار وحتى لا تتكرر المأساة ويكثر الخبث وتحق السنة الكونية فأم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها تسأل النبي صلى الله عليه وسلم: “أنهلك وفينا الصالحون؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم إذا كثر الخبث”، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل “أتوشك القرى أن تخرب وهي عامرة؟ فيقول: نعم إذا علا فجارها على أبرارها” وهكذا قرية الدعوة إذا كثر فيها الخبث السياسي والمصلحي والفكري وأصبح من به مس من الهوى هو الذي يسمع له وتقدم له مكبرات الصوت، ويعتلي الصوت الفاجر ليختفي وينزوي صوت الحق والدليل، ويستمر هذا الأمر من غير أن يأخذ أمير القرية على يد من فجر بقلمه وصوته وفكره وأضل الناس على علم، حينذاك تغرق القرية بمن فيها ويعتلي الموج ويحدث الطوفان كما قال صلى الله عليه وسلم: “فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً” والقرية مهددة بالغرق ولن يخرجها إلا الله سبحانه بالآلات الربانية: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران: 110)، وتحقق إخراج الخيرية يستدعي محاسبة تَعَودها النشءُ الإسلامي حين كان يأوي إلى فراشة ليرى ما هي أعمال الخير التي قام بها وأعمال الشر التي انزلق فيها، وتربية المحاسبة هذه آتت أكلها في إيجاد أفراد ربانيين على المستوى الفردي والقاعدي فهل تجرؤ المؤسسات القيادية أن تقف وقفة محاسبة لتنال بعد ذلك لذة انتصار الحق وتصحيح المسار متجاوزة كلام الناس وهمهمات أصحاب القرية متمثلة بقول القائل:

من راقب الناس مات هماً                  وفاز باللذة الجسور

ولها بعد ذلك أن تعالج مؤسساتها إذا رأت فيها خللا أما بالطريقة الغربية كما فعل وزير المواصلات الياباني حين سقطت طائرة تابعة للخطوط الجوية اليابانية بأن قدم استقالته، أو على طريقة النظام العراقي التي سبحت بحمده وجهاده بعض فصائل الحركة الإسلامية، الطريقة التي مارسها رئيس وزراء العراق السابق عبد المحسن السعدون حين أطلق على نفسه الرصاص وانتحر، وإن كانت هذه وتلك لا تنفع، فلتكن على الطريقة العمرية “لو أن بلغة في العراق عثرت لخفت أن يسألني الله لِمَ لم أسوِّ لها الأرض؟”.

وفي أزمة الخليج لم يبق شيء إلا وتعثر وانكب على وجهه فهل سنحصل على نفسٍ عمرية في قرية الدعوة اللهم آمين؟

ب- التعامل مع الله أولاً: بين العلماء رحمهم الله منهج في التعامل مع الفتيا فقالوا: “لا يكن همك تخليص المسائل ولكن تخليص نفسك” بهذا المنهج لينجو الداعي من ذئاب الحياة كما قال صلى الله عليه وسلم: ” ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه” فمن هذا الحديث يتضح أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه وهذا هو الواقع الذي عبر عنه كل من نصر الظالم على ظلمه ونسى أبسط البديهيات والتي تقرر أن ليس في العالم العربي والإسلامي نظام كرس العلمانية في شعبه مثل النظام البعثي في العراق، فأسئلة بسيطة تجيب عن مصداق ما ذكرناه:

– هل تستطيع فتيات العراق أن تخرج كما خرجت سبعمائة وخمسين ألف فتاه تطالب بالحجاب في الجزائر؟

– هل تستطيع مجموعة من شباب أي مسجد في العراق إن وجدوا بجمع تبرعات لإخوانهم في الجهاد الأفغاني؟

– هل تستطيع أي مجموعة شبابية تدعو إلى الله بتكوين تحرك دعوي فقط من غير أن تتعرض لحكم الإعدام؟

كل هذه أسئلة تجيب عنها بالإيجاب في أي دولة عربية أو إسلامية أما في العراق فالإجابة بالنفي!! ومع ذلك تسمع ممن ينتمي إلى قبيلة الدعوة يقولون: (من حفر الباطن إلى الدمام اضرب اضرب يا صدام)، ونسى هؤلاء (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27)، وكذلك (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة: 81)، فأصحاب القبيلة من الدعاة الرسميين قبل احتلال الكويت اعتقدوا أن النصر الذي يأتيهم على يد طاغية العراق الذي ذبح إخوانهم من العراقيين والأكراد وجعل من العراق سجناً كبيراً وساحة يعلق فيها الدعاة على أعواد المشانق، هذا النموذج من النظام اعتقد به خلق من الدعاة ممن كانوا يدرسوننا في المساجد وقت الشباب، وقالوا بأن صدام ينبت الإسلام في أرض العرب فأنكر عليهم الفرع الآخر من الدعاة وجعلوه سقوطاً عقدياً ومصلحياً، وتمر الأيام ويتغير المقتول والمنهوب من كونه كردياً أو عراقياً إلى كونه كويتياً ويسقط الفريق الآخر تحت حجة المصلحة العامة كما سقط الفريق السابق تحت حجة دفع الضرر الأكبر.

جـ- اليقين بالله يقي المصارع: بقدر ما يكون اليقين عند الأفراد وعند الجماعات يكون الاطمئنان وتكون الاستقامة ومن ثم النجاة.

واليقين ما هو في مفهوم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “اليقين ألا تُرضي الناس بسخط الله، ولا تحسد أحداً على رزق الله، ولا تلوم أحداً على ما لم يؤتك الله، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهة كاره فإن الله بقسطه جعل الروح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط”.

وهذا اليقين هو الذي جعل هوداً عليه السلام يستقيم على المنهج ولا تحصل له حالات الاهتزاز التي تصاحب الضعف البشري فقالها بوضوح لقومه: (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ {54} مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ {55} إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (هود)، وصاحب اليقين لا يخاف الدوائر، وذلك يصيب الحق، قال يزيد بن عبد الله بن موهوب، من قضاة العدل: “من أحب المال والشرف وخاف الدوائر لم يعدل فيها” بهذا الضعف واجهت بعض مجاميع الدعاة النازلة التي ألمت بالكويت والخليج حيث استطالوا الطريق فتعسفوا الخطأ ففي منظارهم البشري وجدوا أن ثورة الحجارة لم تحرك الهيئات والمنظمات الدولية والإنسانية في اتجاه الضغط على اليهود، بل استمروا في طغيانهم ووحوشيتهم واستمر العالم في دعمهم فالمهاجر اليهودي من الاتحاد السوفياتي يقوي البنية البشرية والدولار الأمريكي يعزز الجانب الاقتصادي والعسكري، وفي أفغانستان حيث كان يُظن أن سترفرف راية النصر بعد الانسحاب الروسي ولكن لم يحدث ذلك وبدأت الفتن الداخلية تعصف والمنادون لتحكيم الشريعة وأصبح الأمر شعاراً يتمتع به الناس فترة ثم تسحق الشعوب المنادية به، ومن وصل إلى سدة الحكم من الإسلاميين تغيرت وجهته من التعامل العقدي إلى التعامل السياسي المصلحي، في هذا الجو من الإحباط الخارجي ومع ما يصاحبه من ضعف داخلي ونزغ بشري وآخر شيطاني، هذا كله مع ضعف باليقين سبب لهم الوهن الذي جعلهم يتعلقون بالوهم ليزحف عليهم تصحر الهوى ليتحقق السقوط، بهذه البساطة والسطحية كان سقوط آلهة العجوة التي رفعت بخيوط العنكبوت!

رحم الله إخواننا الذين استجابوا لتهريج الساقطين ناسين أنهم كانوا في عملهم الصحيح يركنون إلى ركن شديد وأن واجبهم في الدعوة التبليغ وفق منهج الله (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۚ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) (غافر: 77).

رحم الله إخواننا نسو أن الضوء قد يكون من مصباح منير وقد يكون من نار محرقة يقع فيها من لا يستقيم على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذا الأمر كان التصوير النبوي “إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمونها”.

د- من يسير على الجهاد لا يستوحش الطريق، قال الفضيل بن عياض: “لا تستوحش طريق الهدى لقلة أهلها”، الحق والتزام أهله به أمر في غاية الصعوبة ويزداد معاناة إذا كان الأمر معلقاً بالآخرين، فالإمام أحمد رضي الله عنه تحمل ما لم تتحمله الجبال، لاستشعاره بالمسؤولية فكان يقول وهو ينظر إلى أهل بغداد: “أَأُهلك هؤلاء وأنجو بنفسي”، ويقول: “كنت أصلي بأهل السجن وأنا مقيد”، وهكذا أهل الحق لا يستوحشون قلة السالكين معهم، فكل محاسب يحسب ما يؤديه اجتهاده في إنكار المنكر، والناس في دائرة النجاة ما داموا في فلك الإنكار – باليد واللسان و القلب – ولكن هلك من رضي وتابع كما قال علي رضي الله عنه: “إنما يجمع الناس الرضا والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب”، وأهل الرباط عودتهم حياتهم في زمن المحن دروساً منها التأني في اتخاذ قراراتهم فهم بفضل الله يستطيعون أن يقولون نعم أو لا ويتحملون مسؤولية الكلمة؛ لأنها نتجت بروية ودراسة، لا من عاطفة ومصلحة، وهذه الدقة التي أكرمهم الله بها هي عنوان رجولة عندهم يعرفها الرجال من أهل قرية الدعوة، فهم لا يمارون ولا يجاملون في كلمة الحق، يقولون ويتحملون الكلمة بكامل تبعاتها كسيرة أسلافهم، ومناصحة كهذه متكاملة مع أخواتها الأخريات التي ذكرها الفضيل حين قال: “لم يدرك عندنا من أدرك بكثرة صيام ولا صلاة إنما أدرك بسخاء الأنفس وسلامة الصدر والنصح للأمة”.

وهذا هو المنهج في النصح يصل بصاحبه إلى ما قاله الإمام البخاري: “المادح والذام عندي سواء”.

Exit mobile version