حوار مع المفكر الإسلامي أبو الحسن الندوي يرحمه الله (الجزء الأول)

الأستاذ أبو الحسن الندوي، مفكر من أعظم مفكري الإسلام في العصر الحديث، أجرت معه “المجتمع” حواراً شاملاً بتاريخ 16/ 2/ 1999، ونشرته في العدد (1338)، وقف فيه على أمراض المجتمعات الإسلامية، ووصف لها الدواء، ولأهمية هذا الحوار نعيد نشره؛ عسى أن تصحو الأمة وتقود ولا تركن للواقع.

رجل من أعظم مفكري الإسلام في العصر الراهن، هذا هو أبو الحسن الندوي، ثقافته أعطت للأجيال روحاً كبرى، تعيد قراءة أحداث الماضي وتصوغ رؤى الحاضر أملاً يتجدد، بالوعي الهادئ، أن تصحو تلك الأمة وتقود ولا تركن للواقع. في كل مؤلف لأبي الحسن توجد فكرة تتربى عليها الأجيال، ويقدم بالعربية والأردية ولغات الغرب زاداً.. وينادي كل الخلق ممن أسلم وجهه لله: أنت القائد قد خسر العالم بذهابك، هيا عد لتقود العالم.. كان كتابه «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» إعادة لبناء الشخصية الإسلامية عن طريق قراءة التاريخ بعيون مؤمنة.

المؤثرون في هذا العالم، والمنهج في الدعوة والفكر، وقضايا التربية الإسلامية في العصر الحاضر، ومشكلات الفكر ورسالة الإنسانية وحكايتها وقضايا التغيير، والإسلاميون والحكم والتجربة الهندية لدى السرهندي، وقضايا السلام والديانة الضلالية لـ”إسرائيل”، وغير ذلك كـانت محـاور هذا الحوار مع فضيلة الشيخ أبي الحسن الذي تحمَّل كثيراً في سبيله، وتم في غير جلسة في آخر زيارة له للدوحة، وقد فـاز مؤخـراً بجـائزة الشخصية الإسلامية لعام 1419هـ، التي تمنح في دبي على هامش المسابقة الدولية للقرآن الكريم.

لكل مسيرة علمية، مثل مسيرة سماحتكم، وقفات تنبض أمام الجيل المعاصر ترى من هم الأساتذة الذين تركوا آثاراً قوية في شخصيتكم؟

– أستاذي الأول الذي تعلمت منه اللغة العربية وآدابها هو الشيخ خليل بن محمد الحسين اليماني، وكان صاحب ملكة راسخة، وصاحب ذوق، بل أصبح الذوق العربي الأدبي عنده ذائقة. فإذا ارتقى الذوق أصبح ذائقة يتذوق منه الإنسان، كما يتذوق من طعام شهي، فكان من أقوى المعلمين: يمثل الأدب العربي أنه شيء حي نامٍ موجود ومرئي.. كان من أنجح المدرسين وأنا أدين له في ثقافتي العربية. ثم استفدت من العلامة د. سيد تقي الدين هلالي المراكشي، جاء عندنا، وتعين أستاذاً في ندوة العلماء، ومكث سنين، وأشار علينا بمطالعـة كتب ما كنا نعرفها من قبل، وهو رجل يعتبر حجة في تسهيل الكلمات، كان أمير البيان الأمير شكيب أرسلان والعلامة السيد رشيد رضا مع ما لهما من مكانتهما، إذا اختلفا في كلمة: هل هي كلمة عربية أصيلة أم هي دخيلة تحاكما للشيخ تقي هلالي.. وجاء هذا مصرَّحاً في كتاب الأمير شكيب أرسلان «السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة» وفي حواشيه: رجعنا في هذه الكلمة إلى د. تقي هلالي.. فحكم بكذا.

في مجال الدعوة والفكر، من هم الأساتذة الذين أثروا في مسيرتك ورؤيتك الدعوية؟

– أكثر من تأثرت به هو إمام الدعوة إلى الله الشيخ محمد إلياس الكندهلوي «ابنه محمد يوسف الكندهلوي هو صاحب كتاب حياة الصحابة»، كأن هذا الرجل مأمور من الله، لا أقول عن طريق الرسالة أو الوحي، ولكنه كان مقيضاً لهذا الأمر، وقد استولت عليه هذه الفكرة حتى ذاب فيها ودعا إلى الاتصال بالشعب اتصالاً مباشراً وتوجيه الدعوة إليه ولفت نظره، واستقطابه إلى رسالة الله تبارك وتعالى والعمل بالإسلام وبشريعته وبأحكامه، وانتشرت هذه الدعوة لا في الهند فقط، ولكن في القارة الآسيوية ثم انتقلت إلى أوروبا وأمريكا، ولا تزال هذه الدعوة قائمة، وهي من أكثر الدعوات تأثيراً وإنتاجاً.

يمكن أن ننتقل الآن إلى منهج دار العلوم وندوة العلماء أي منهج سماحة الشيخ أبى الحسن الندوي في الدعوة والفكر فنسأل عن فلسفته وبنائه؟

– إن منهج ندوة العلماء هو الجمع بين القديم الصالح والجديد النافع، والاعتقاد بأن المناهج التعليمية ليست مناهج جامدة متحجرة واقـفة عند حد، بل هي خاضعة لتأثيرات العصر ولحاجات العصـر، تلبي حـاجـة العصر، وتبلِّغ رسالة الإسلام، وتنشر الدين بين الجيل الجديد على المبدأ الذي يؤثر عن سيدنا الإمام علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ «كلموا الناس على قدر عقولهم، أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله»، فقد تأسست ندوة العلماء على مبدأ إقناع الجيل الجديد باللغة التي يفهمها ويسيغها، وبالدلائل والمواد العلمية التي تقنع وتبث اليقين بأن الإسلام هو الدين الخالد وأن الإسلام صالح للقيادة في كل عصر.

ولأن المدارس العربية الدينية خصوصاً في شبه القارة الهندية كانت قد أصبحت جامدة، متمسكة بالمناهج الدراسية الأولى تمسكاً شديداً، عضت عليها بالنواجذ! كأنها مبدأ شرعي، لذا فإن المؤسسين لندوة العلماء هم الذين واجهوا الإرساليات النصرانية وواجهوا المتخرجين في الجامعات العصرية، فعرفوا أن نفسيتهم قد تغيرت، وأن أساليب فكرهم وأساليب مناهج قبولهم قد تغيرت بتأثير التعليم العصري، والآداب العصرية، وبتأثير كتب المستشرقين.. فلابد من الجمع بين القديم والجديد.. الأصل هو القديم ولكن التعبير عنه ومعاودة إفهامه والإقناع به يجب أن يكون ملائماً لعقلية الجيل الجديد ولمستواه.

برغم الخيرية التي تنبع منها مناهج العمل الدعوي والفكري الإسلامي، فإن هناك اختلافاً بين هذه المناهج، فمنهجكم في ندوة العلماء يختلف عـن منهج الأستاذ أبي الأعلى المودودي في حركة التغيير وفقه الدعوة.. هـل يمكن لنا أن نتبين ذلك؟

– ليس هناك اختلاف مبدئي، إنما هو اختلاف في الأسلوب، وفي التقديم والتأخير، وفي الترجيح.. فإن الأستاذ المودودي يتغلب على أسلوبه الدعوي الجانب السياسي، فهو يفسر الإسلام تفسيراً سياسياً، وكان هذا شيئاً طبيعياً لا نلومه عليه، ولكن يجب أن يكون تفهيم الدين الإسلامي كدين خالد صالح لكل جيل، وصالح لكل فترة زمنية، ولكل مجتمع، ولكل عصر.. يجب أن تتحكم فيه الأصول الدينية: الإيمان بالله والإيمان بالآخرة، والاجتهاد في إرضاء الله تبارك وتعالى والعمل بسنة رسوله ص، يجب أن يكون هذا هو الأساس.. أما بسط الحكم، أما إقامة حكومة إسلامية، فهذا يأتي في الدور الثاني.. ولي كتاب يشرح هذا كله عنوانه: «التفسير السياسي للإسلام» كتب أصلاً باللغة العربية.. استلفت فيه النظر إلى أنه لا ينبغي أن يكون تفسير الإسلام خاضعاً لمصطلحات سياسية، ولأهداف سياسية فقط، لأنه كتاب محكم ثابت، خالد، عام للبشرية، والأساس فيه إرضاء الله تبارك وتعالى، وتنفيذ أحكامه والعمل بها والعمل بأحكام رسوله ص ويأتي في نتيجة ذلك الحكم والقوة السياسية، فليس الحكم والقوة السياسية هو الهدف الأول والأساس، بل الهدف الأول والأساس: طاعة الله تبارك وتعالى وطاعة رسوله.

ولكن مهمة الأمة الإسلامية وطلائعها -وهي التمكين لدين الله في الأرض وإقامة الحكم الإسلامي- قد تتأخر طبقاً لهذا المفهوم التربوي؟!

– إذا تأخر قليلاً، لا ضير، لكنه يكون أثبت وأرسخ، إن كل شيء يأتي في وقته يكون راسخاً وثابتاً، فلابد للتهيؤ لأمر «التمكين لدين الله» من الانقياد لله تبارك وتعالى وامتثال أوامره، وتفضيل أوامره وما ثبت من الكتاب والسنة على المبادئ الأصلية، وغير ذلك.

هل يمكن اعتبار هذا المنهج هو الأقرب لمنهج جماعة الإخوان المسلمين التي تأخذ بالتربية الإسلامية للأمة كمنهج للتغيير؟

– نعم.. عندنا تقدير قديم لهم، لا أقول إننا متفقون مائة في المائة، ولكنني أقدر كبير التقدير أني عرفت الإخوان المسلمين، ولي مقدمة لكتاب الإمام حسن البنا «مذكرات الدعوة والداعية»، وفاتني أن أقابل مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا، ولكنني قابلت زملاءه وتلاميذه في مصر، وعشت معهم مدة، وفي ضوء ما درسته وما علمته كتبت كتابي «أريد أن أتحدث إلى الإخوان»، ففيه بعض ملاحظات، مع احترام وتقدير وتصديق وإعجاب.. لكنها ملاحظات.. ملاحظات أخ لإخوانه، ورفيق من رفقتهم.

هناك جـماعة التبليغ والدعـوة وقـد انطلـقت مـن الـهند كيـف تـرون المنهج والوسيلة؟

– هذا عمل مشكور جداً، وإن كان يجب أن يكون فيه بعض من السعة والإلمام بنفسية الشباب والمثقفين الجدد، ومراعاة فهمهم وتقديرهم، ومراعاة أساليب تفكيرهم، في نطاق العمل لديهم محدود وهو الاعتقاد الصحيح والعمل بالفرائض، أما تثقيف العقول وتهيئة الشباب والجيل الجديد للتأثير في المتعلمين المثقفين وفي القادة فهذا قد يُغفل عندهم.

في مجال الدعوة إلى الله تجتهد الأمة، وتبرز جماعات، كل جماعة تختط منهجاً للتغيير الإسلامي.. ترى ما منهج التغيير الأمثل في رؤيتكم؟

– هو إنشاء الجيل الجديد على الفهم للدين فهماً صحيحاً أصيلاً وواسعاً، وملائماً لهذا العصر، يكون البدء بالتثقيف العقلي، وبإنشاء العقلية والنفسية الإسلامية، لا نغفل العوامل المستوردة من الخارج والزاحفة من أوروبا التي تؤثر الآن يجب ألا نتغافل عنها بل نعيرها شيئاً من العناية، ونعتقد أنها هي التي تصوغ الآن العقول والشباب والقيادات كذلك.

قدمتم منذ عشرات السنين صورة رائدة للتربية الإسلامية، وفي ضوء تغير العصر: كيف ترون ملامح التربية الإسلامية الآن: هل مازالت تسير في إطار التلقي المباشر أم أن لها صورة أخرى؟

– هناك مؤثرات في التربية مثل أن يكون التلميذ على صلة بأستاذه كأن يسافر معه ويقضي معه أياماً، ويرى كيف يحافظ على إيمانه وواجباته.. لا تكون الصلة بين التلميذ والأستاذ صلة كتاب فقط وتدريس فقط، بل كما كان في الزمن القديم، أكثر نفعاً وأجدى أن يكون التلاميذ على صلة دائمة ومباشرة بأساتذتهم، يقضون معهم أوقاتاً ويسافرون معهم يخدمونهم يرونهم كيف يصلون، وكيف يقرؤون القرآن، وكيف تكون آثار القراءة وآثار العبادة والعلم عليهم.

هل يمكن أن يكون ذلك في المدارس النظامية الآن؟

– يمكن أن يتم ذلك إذا كان هناك شيء من الاجتهاد والذكاء.. يجب ألا تكون صلة التلميذ بأستاذه محصورة ومحدودة في المدرسة.. يجب أن تكون هذه الصلة أوسع مما هي الآن.

في الماضي كان الأبوان يُنصِّران أو يُمجِّسان أو يُهوِّدان أو يُسلِّمان الأبناء، أما اليوم فربما كان لمؤثرات أخرى مثل التلفاز وغيره دور يقارب دور الأبوين.. كيف يمكن أن يقابل الجيل الجديد هذه التربية الجديدة؟

– يجب أن يكون الأساتذة في المدارس مؤثرين ومختارين، وعارفين بنفسية الشباب ونفسية الصغار، وحريصين على سبك الجيل الجديد وصوغه صوغاً إسلامياً، فلا يعتمد فقط على الشهادات التي ينالها هؤلاء الأساتذة من الجامعات، بل يُلاحظ مدى اتصالهم بالدين اتصالاً عملياً، ومدى اقتناعهم بمبادئ الدين وأهدافه.. ويكون عندهم شيء من الامتحان العملي في عملهم بالسنة، في أخلاقهم.. ويكون عندهم شيء من الزهد في حطام الدنيا، كما كان في السلف، حيث كان الأساتذة هم القدوة، وكانوا هم المثل الأعلى للسلوك وللإيمان، وللعلم وللدراسة كذلك.

أما الآن فقد أصبح اتصال الأستاذ بالتلميذ، في الجامعة ضيقاً، محصوراً في ساعات الدراسة.

“خسر العالم كثيراً بانحطاط المسلمين”، وما طرحتموه في كتابكم الأشهر الذي تربَّت عليه أجيال عدة غير خاف على أحد، كيف ترون -بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على كتابكم- خسارة العالم بانحطاط المسلمين؟

– في الحقيقة هناك فكرة مسيطرة على المثقفين جميعاً وهي أن المسلمين هم ممثلون فقط، هناك مسرحية تتم من غير استشارة المسلمين أو معرفة آرائهم واتجاهاتهم، مسرحية عالمية، يلعب فيها المسلمون دورهم كممثلين (ACTOR).

ولكني غيَّرت هذه الفكرة، وغيَّرت التاريخ.. ولعلي كان لي بعض السبق في هذا بعون الله تعالى، بأن المسلمين ليسوا (ACTOR)، بل هم FACTOR) هم العاملون وهم الذين يصوغون المسرحية، ويستطيعون صياغة المسرحية العالمية كلها، ولا يمثلون فيها كقطع الشطرنج مثلاً، بل المسلمون كانوا يصوغون الأحداث، كانوا صاغة ولم يكونوا مصوغين.. يجب أن يكون المسلمون هكذا.. ولما أفلت زمام القيادة من المسلمين أصبح العالم منفلتاً، وأصبحت الأمم والشعوب دواب من غير راع.

العملية التي قام بها هذا الكتاب ونجح فيها ـ وعذراً في ذلك ـ هي أنها غيَّرت مركز المسلم من كونه ممثلاً مقلداً تابعاً محكوماً عليه مأموراً، إلى كونه صائغاً عاملاً وسابكاً ومغيراً للمصير، ومبشراً لجيل جديد.. فلما كان المسلمون هم القادة للعالم البشري ولرجال البشرية، كان العالم يسير في طريق سوي، ولما عُزِل المسلمون عن قيادتهم العالمية أصبحت الأمم كالدواب السائمة.

لا لمفهوم المؤامرة!

في هذا النظر التاريخي المهم: ما رؤيتكم في المفهوم القائل: إن المسلمين تفرض عليهم المؤامرات وبالتالي يفسر عجزهم الحالي بأنه نتاج ما يحاك لهم من مؤامرات، دون محاولة تفسير الأمر على نحو آخر بأن تفهم الأمة أن الحرية لا تمنح، وإنما يتم الحصول عليها ويبذل في سبيلها الجهد؟

– الحقيقة أن المسلمين مصابون بمركب النقص، وبنتائج الانسحاب والانهزام: فالآن أصبحوا يرحبون بكونهم يتمتعون بشيء من الحرية، من غير أن يكون لهم تأثير عالمي في سبك الحياة وصياغتها، وفي صياغة المستقبل كذلك.. فالواجب الأول والكبير هو أن يُرفع تفكير المسلمين ومستواهم العقلي من كونهم تلاميذ وأتباعاً وسائبة إلى كونهم قادة.

في كيفية وصول هذا المفهوم: المسلمون بين تفكيرين: تفكير ينظر للأمر على أن هناك مؤامرة عالمية ولن يستطيعوا الانفلات منها، يعللون بذلك قصورهم في النواحي العلمية كافة، ولكن تفكيراً آخر يرى أن الارتكان للمؤامرة التي تحاك يعطل العمل ويجب على المسلمين أن يحصلوا على حقهم في القيادة والعمل بجهدهم وزادهم؟

– أنا أوافق على هذا المفهوم الأخير، ولا أوافق على تفكير المؤامرة.

الأسبوع القادم: أفضل وصول الإيمان إلى أصحاب الكراسي على وصول أصحاب الإيمان إلى الكراسي.

Exit mobile version