حقوق الجار.. بين الواقع والمأمول

إن من ينظر في واقع المسلمين اليوم يجد أن الجار يبيت بهمه جراء أذية جاره، وأصبح يخشى نصيحته وتنبيهه خوفاً من رد فعله، وخشية أن يكون الجار ممن قال الله فيهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ) (البقرة: 206)، فأصبح الجار لا يدري كيف يناصح جاره؟ وفي أي شأنٍ يناصحه؟ أيناصحه في تلصصه على عورات بيته، أم يناصحه في أكياس القمامة التي لا يضعها في مكانها، أم يناصحه في قطع السلام وعدم رده، أم يناصحه في تركه للصلاة أم يناصحه في أصوات لعب الأطفال المرتفعة التي لا تترك للآخرين فرصة للراحة، أم يناصحه في تعمده لإيذائه صباحاً ومساءً بكل أنواع الإيذاء؟

هذا هو واقع الكثير من الجيران مع بعضهم بعضاً، والإسلام براء من كل هذه التصرفات.

واقع الجيران اليوم محفوف بكثير من المتاعب

توصية الإسلام بالجار

وعندما نستعرض آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، نجد قول الله تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) (النساء: 36)، وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى هو الجار القريب، والجار الجنب هو الذي ليس له قرابة، وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قيل: الرفيق بالسفر، وقيل: الزوجة، وقيل: الصاحب مطلقا، ولعله أولى، فإنه يشمل الصاحب في الحضر والسفر ويشمل الزوجة.

فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلامه، من مساعدته على أمور دينه ودنياه، والنصح له، والوفاء معه في اليسر والعسر والمنشط والمكره، وأن يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد، وليس هناك أقوى من صحبة الجار، وكلما قرب الجدار زاد الحق وثقلت المسؤولية، فإن كان ذا قرابة كان الحق أأكد، والواجب أعظم(1).

وعن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن” قيل: من يا رسول الله؟ قال: “الذي لا يأمن جاره بوائقه” (رواه البخاري في كتاب الأدب)، وفي حديث آخر: “والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه” (رواه مسلم: كتاب الإيمان).

الإسلام لا يقر إيذاء الجار والاعتداء على حقوقه

والإسلام يهتم بحماية الجار من أذى جاره وفي الحديث السابق يبين عليه الصلاة والسلام خطورة من لا يأمن جاره بوائقه، لأن الأصل في الجار أن يأمن جاره، ولا يتصور في يوم من الأيام أن يخونه في شيء، وخيانة الجار من أخطر الأمور في المجتمع، فإذا كان الرجل يتخوف من جاره أو لا يأمن جاره فإنه لا يقر له قرار، ويعيش في قلق في كل لحظة بسبب هذا الهاجس المحزن، ولا يحس بهذا إلا من ذاق مرارة سوء الجار وابتلي بجار لا يأمن بوائقه نسأل الله السلامة والعافية(2).  

وهذه طائفة من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي فيها بالجار خيراً:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أربعٌ من السعادةِ: المرأةُ الصالحةُ، والمسكنُ الواسعُ، والجارُ الصالحُ، والمركبُ الهنيءُ”، وقال صلى الله عليه وسلم: “إن أحببتم أن يحبكم الله تعالى ورسوله فأدوا إذا ائتمنتم، واصدقوا إذا حدثتم، وأحسنوا جوار من جاوركم”، وقال صلى الله عليه وسلم: “أوصيكم بالجار”، وقال صلى الله عليه وسلم: “خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره”، وقال صلى الله عليه وسلم: “لقد أوصاني جبريل بالجار، حتى ظننت أنه يورّثه”، وقال صلى الله عليه وسلم: “ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم”، وقال صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره”، وقال صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره”، وقال صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه”، وقال صلى الله عليه وسلم: “لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جدار”، وقال صلى الله عليه وسلم: “يا نساء المسلمات، لا تحقرنّ جارة لجارتها ولو فرسن شاة”(3).

القرآن الكريم والسُّنة النبوية أمرا بالإحسان إلى الجار

أقسام الجيران

الجار على ثلاثة أقسام:

الأول: الجار المسلم القريب، وله ثلاثة حقوق: حق الإسلام (الأخوة الإسلامية) وحق الجوار، وحق القرابة (صلة الرحم).

الثاني: المسلم غير القريب، وله حقان: حق الإسلام، وحق الجوار.

الثالث: الجار غير المسلم، وله حق واحد، وهو حق الجوار.

الرسول صلى الله عليه وسلم حذَّر من إيذاء الجار

ومما يروى في ذلك أن الإمام أبا حنيفة كان له جار يؤذيه، وفي يوم من الأيام لم يجد علامات الإيذاء التي تعود عليها، فسأل عن جاره، فقالوا: إنه في السجن، فسأل عن السبب؟ فقالوا: سجنه الوالي لأمر ما، فذهب إلى الوالي وشفع عنده بأن يطلق هذا الشخص، ولم يعلم الجار بالذي شفع له، فجاءه أمر الإطلاق من السجن، فذهب يسأل لأي شيء أطلقت؟ فقالوا: جاء جارك فلان، وشفع فيك، وعفا عنك الوالي، قال: جاري فلان!! وتذكر إيذاءه له، وكيف قابل إساءته بالإحسان، فذهب يعتذر إليه، وعاهد الله ألا يؤذيه.

حد الجوار

من هو الجار؟ ذكر البخاري في “الأدب المفرد” عن بعض السلف مرفوعاً وموقوفاً أنه إلى أربعين بيتاً، أربعين عن يمينك، وأربعين عن يسارك، وأربعين من أمامك، وأربعين من ورائك، وإذا نظرنا إلى دائرة قطرها أربعون بيتاً، فهي حد الجوار، ولو نظرنا إلى جيران آخر بيت في هذه الدائرة، لوجدنا أن كل المدينة ستدخل في الجوار، ولا يبقى في المدينة العظمى بيت إلا وله جيران إلى أربعين بيتاً، وحد الجوار يشمل المناطق، فكل منطقة مجاورة للمنطقة الأخرى لها عليها حقوق الجوار، وكذلك حد الجوار يشمل الدول والأقطار، فتدخل كل دول العالم تحت هذا الحديث، ولو أدى كل جار حق جاره، لكان العالم كله متواصلاً كخيوط الشبكة.

الجيران ثلاثة: الجار المسلم القريب وله ثلاثة حقوق.. الجار المسلم غير القريب وله حقان.. الجار غير المسلم وله حق واحد

بماذا يكرم الجار(4)؟

إذا رجعنا إلى مصالح المجتمع، نجد كل إنسان يعمل لجلب نفع له، ولدفع ضر عنه، فكل ما فيه نفع لجارك فيجب أن تبذله له ما استطعت، وكل ما فيه مضرة عليه فمن حق جارك عليك أن تدفعه عنه؛ ولهذا رأى ابن مسعود رجلاً يجري فقال له: ما لك؟ قال: أستدعي الشرط -الشرطة- قال: لماذا؟ قال: لجاري، قال: ما به؟ قال: يشرب الخمر، قال: هل نصحته؟ قال: لا، قال: ارجع فانصحه أولاً بينك وبينه، فمن حق الجار النصيحة، ومن حق الجار على جاره أن يحفظ له ماله، كما يحفظ مال نفسه، فلا تجوز إساءته في دوابه ومتاعه.

ذكر البخاري في الأدب المفرد أن امرأة جاءت إلى عائشة رضي الله عنها وقالت: إن أحدانا يطلبها زوجها فتمتنع -إما مريضة وإما متعللة- فهل عليها من شيء؟ قالت: نعم، لو دعاها زوجها وهي على رأس جبل، لكان عليها أن تجيب، وأحدثك أني كنت بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم في فراشه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً، وعندي قدح شعير، فطحنته وصنعت قرصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من عادته إذا خرج أن يقفل الباب معه، فخرج وترك الباب مفتوحاً، ودخلت داجنٌ لجارنا، ثم جاء صلى الله عليه وسلم إلى فراشه، وجئت جواره، فنهضت الداجن إلى قرص الشعير فنهضت إليها، فقال: “على رسلك يا عائشة! خذي ما أدركت من قرصك، ولا تؤذ جارك في شاته”.

 

 

 

 

_____________________________

(1) كتاب مواقف حلف فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤلف: أبو محمد خميس السعيد محمد عبد الله – صـ122.

(2) فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري: 526، د. محمد بن عبد الله إبراهيم العيدي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1423هـ.

(3) كل هذه الأحاديث وردت في كتاب صحيح الترغيب للشيخ الألباني رحمه الله.

(4) كتاب شرح الأربعين النووية، عطية سالم، جـ39، صـ10.

Exit mobile version