الأمـراض النفسجسـمية.. صيحـة العصـر

 

الأمراض النفسية الجسدية (Psychosomatic Medicine) تختص بعمليات تكوّن الأمراض وتطوّرها ويركز، بشكل خاص، على وحدة الجسد (Soma) والنّـَفـْس (Psyche) والتأثيرات المتبادلة بينهما، وفي موازاة التقدم الذي حققه العلم في القرن الأخير، اختلف تدريجيا المفهوم الذي يعتقد بأن للمرض مسبباً واحداً إلى مفهوم يعتقد بتعدد الأسباب التي تجتمع معاً فتسبب مرضاً معيناً.

ولخطورة هذه الأمراض وانتشارها في هذا العصر؛ نتيجة لانتشار جائحة “كورونا” تعيد مجلة “المجتمع” نشر هذا الحوار الذي أجرته الأستاذة عزة الكيلاني مع أ.د. عادل صادق، أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس عن الأمراض النفسجسمية، ونشرته المجلة في العدد (1320) بتاريخ 6/ 10/ 1998.

كثيرون تصيبهم آلام عضوية.. ويترددون على الأطباء المتخصصين للعلاج.. ويتناولون كميات من الأدوية دون جدوى، وبعد رحلة علاج طويلة لا يختفي معها الألم بل قد يزيد.. ويكون الاكتشاف المثير: فهم ليسوا مرضى، إنهم ـ فقط ـ يتوهمون المرض أو يعانون اضطرابات نفسية تنعكس على أجسادهم فتؤلمها دون أن يكون هناك أي مرض عضوي، هؤلاء ينطبق عليهم مصطلح «النفسجسميون» أو المصابون بالأمراض النفسية ذات الآثار الجسمية. فالنفس والجسد متلاحمان، يؤثر كل منهما في الآخر ـ في الصحة والمرض.. واضطرابات النفس تؤثر في الجسد واضطرابات الجسد تؤثر في النفس.

كثيرون يرفضون تقبُّل هذه الحقيقة، فمثلاً المريض الذي يعاني من القرحة وينصحه طبيبه الباطني بزيارة الطبيب النفسي يرفض ويغضب، فهو لا يرى أي علاقة بين قرحة المعدة وحالته النفسية، وبذلك يتأخر العلاج وتتدهور الحالة أو يتباطأ الشفاء، وذلك بسبب إغفال الجانب النفسي.

لذلك نحاور د. عادل صادق، أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس، عن الأمراض النفسجسمية ونقول لأسرة كل مريض يتألم من دون أن يشعر أحد بآلامه: انتبهوا.. فالمرض العضوي الذي يعاني منه مريضكم تلعب حالته النفسية دوراً أساسياً في ظهوره واستمراره وانتكاساته وتأخر شفائه.. والأمر يحتاج إلى الرعاية النفسية بجانب الرعاية العضوية.

كيف تتسبب الحالة النفسية في حدوث أمراض جسمية؟

– هناك جزء في المخ يعرف باسم الهيبوثلاموس، وهو جزء مهم جداً، حيث يتحكم في نشاط جميع الغدد الصماء، وكذلك يتحكم في الجهاز العصبي اللاإرادي الذي يغذي الأحشاء الداخلية، أو القلب والشرايين والجهاز التنفسي.

أي أن أجهزة الجسم المختلفة تتحرك بشكـل معين يتواءم مع الحالة الانفعالية، ففي حالة القلق والتحفز مثلاً يسرع القلب وتزداد ضرباته قوة، لتدفع بمزيد من الدم إلى الأوعية الدموية المغذية للعضلات، وتتسع الأوعية الدموية لتستوعب دمًا أكثر وذلك على حساب انقباض الأوعـية الـدموية المغـذية للجلد والجهاز الهضمي، وتتسع الشعب الهوائية للرئة لتتـيح لأكـبر قدر من الدم أن يتشبع بالأكسجين.

وهكذا التغيرات التي تحدث في الجلد لكي تتلاءم مع الحالة الانفعالية، فالانفعال هو ـ إن صح التعبير ـ فيروس نفسي له أعراض عضوية متعددة.

ما الأمراض الجسدية التي يمكن أن تتسبب في حدوثها الحالة النفسية للمريض؟

– الجسد يتأثر على نحو مرضي بسبب اضطرابات النفس.. أو القلق المستمر.. أو الانفعال الحاد.. أو الغضب المكتوم، فنجد أن القلق المستمر مثلاً يصاحبه ارتفاع في ضغط الدم، وزيادة في إفراز الحامض المعدي الذي يتسبب في حدوث القرحة، والأزمات الصحية المفاجئة مثل: جلطة شرايين القلب، أو شرايين المخ التي تحدث في الغالب عقب انفعالٍ حاد، وهذا الانفعال يؤدي إلى زيادة كمية الأدرينالين في الدم، مما يساعد على تجمع الصفائح الدموية والتي تتلاحق وتكوِّن الجلطة وتسد الشريان.

والانفعال الحاد يؤدي إلى ظهور مرض السكر الكامن، أو تسمم الغدة الدرقية، أو يصاحبه التهاب كل الجلد أو بعضه في صورة أرتيكاريا.

وكذلك القلق المزمن قد يصاحبه أمراض جلدية مزمنة أو سقوط الشعر، وهناك علاقة وثيقة بين قرحة المعدة وقرحة القولون والقولون العصبي بالحالة النفسية للمريض.

وقد تؤدي المعاناة النفسية إلى إصابة المريض بمرض التوهم المرضي، فيشكو من رأسه ومن يديه ويشير إلى عنقه، ثم بطنه وصدره وقلبه.. عشرات الشكاوى يضعها أمام الطبيب، وينتقل من طبيب إلى طبيب من دون أن يدري أنه في حاجة إلى طبيب نفسي.

فمريض التوهم المرضي يتعذب، ويعذب من حوله، فلا يكف عن الشكوى ولا عن المطالبة بالذهاب إلى الطبيب العضوي لكي يطمئنه.

ماذا يجب أن تفعل أسرة مريض التوهم المرضي؟

– يجب أن تعلم الأسرة جيداً أن هذا المريض يحتاج إلى مساعدة الأهل.. وأن يستمعوا لشكواه وألا يسخروا منها.. وألا يظنوا أن آلامه غير حقيقية فهو يتألم فعلاً. ويكفي مرة واحدة يتعرض فيها للفحص الدقيق وبعد ذلك ترفض الأسرة بحزم أن يذهب إلى الطبيب العضوي وتقنعه أنه بحاجة إلى طبيب نفسي. والقيء في مثل هذه الحالات علامة رئيسة، وقد يصاحب هذه الحالة إحساس بأنه سيموت بعد وقت قليل فيخاف.. يخاف الموت وهذا الخائف من الموت يحتاج إلى أن نهدئه برقة ونطمئنه.

ويجب ألا نستسلم للمريض ونتركه في الفراش طوال اليوم بلا عمل، وإنما يجب أن ندفعه للحركة وممارسة الرياضة، حتى نستطيع أن نخرجه من حالة الخوف الشديدة التي يعيش فيها.

هل هناك علاقة بين ضعف جهاز المناعة والحالة النفسية للفرد؟

– بالتأكيد، فحتى جهاز المناعة عند الإنسان لم يسلم من التأثر بالحالة النفسية؛ فمع الانفعال الحاد أو القلق المزمن تضعف مقاومة الجسم ويصبح عرضة للأمراض الميكروبية الفيروسية، بل إن هناك أبحاثًا حديثة تشير إلى وجود علاقة بين الاضطراب النفسي وظهور الأورام.

على من يتوقف نجاح علاج المريض الذي يعاني من مرض نفسجسموي؟

– نجاح العلاج يتوقف على الطبيب العضوي الواعي الفاهم المقدّر لدور العامل النفسي وحجمه الحقيقي، والذي يبدأه هو بمساعدة مريضه من الناحية النفسية.. فيتركه يتكلم ويعبر عن مشاغله ومشاعره وهمومه وإحباطاته، حيث إن الكلام مع المريض علاج لمعدته وقلبه ومفاصله، وتدريجيًا يقتنع المريض أنه يحتاج لمساعدة نفسية على مستوى أكثر تخصصاً.. ولابد من أن يناقش هذا الأمر مع أهل المريض، ثم يتصل بالطبيب النفسي ليشرح له الحالة من الناحية العضوية وخطة العلاج التي يجب أن يشترك فيها الطبيب العضوي والنفسي معاً، أي لا يجب أن يعمل كل منهما منفصلاً عن الآخر. وهكذا يتلقى المريض الرعاية الحقيقية التي تساعد على التئام جروح النفس والجسد معاً.

مثلما تؤدي الاضطرابات النفسية إلى ظهور أمراض عضوية، فهل يمكن أن تؤدي الأمراض العضوية إلى ظهور أمراض نفسية وعقلية؟

– نعم، وهو ما يسمى بالأمراض العقلية العضوية، وهذا هو الجانب الآخر من العلاقة بين الأمراض النفسية والعضوية.

وقد تظهر الأعراض العقلية قبل أن نكتشف المرض العضوي الذي تسبب في ظهورها.

والأمر هنا يتوقف على مهارة الطبيب النفسي، فالمريض قد تكون لديه أعراض عقلية، ولكن لابد من أن يتعرض للفحص العضوي الدقيق للتأكد من سلامة الجسد، فقد نضطر لإجراء فحوصات مختلفة للدم ورسم المخ والفحص بالأشعة المقطعية للمخ، وفحص الغدد الصماء وقياس هرموناتها في الدم وفحص الكبد والكلى.

وهذا يفسر أهمية أن يكون الطبيب العضوي واعياً بأمور النفس وأن يكون الطبيب النفسي واعياً بأمور الجسد.

ما أهم الأمراض العضوية التي تؤدي إلى ظهور أمراض نفسية وعقلية؟

– من أهم هذه الأمراض تلك التي تظهر في المخ أو تؤثر عليه مثل أورام المخ، وتصلب شرايين المخ، والحمى المخية، والصرع، والإدمان الكحولي، والعته (اضمحلال خلايا المخ)، وارتجاج المخ بعد الخبطات الدماغية، والشلل الاهتزازي.. كلها أمراض تصيب المخ، وربما قبل ظهور أعراض هذه الأمراض تظهر الأعراض العقلية في صورة هلاوس أو معتقدات خاطئة أو اضطرابات في السلوك أو اكتئاب أو هوس.

نجد أيضاً أن أمراض الغدد الصماء يمكن أن يصحبها أعراض عقلية، فنجد أن زيادة هرمون الثيروكسين من الغدة الدرقية يؤدي إلى حالة من القلق النفسي، ونقص هذا الهرمون كما في مرض المكسيديما يؤدي إلى ظهور أعراض الاكتئاب والشعور بالاضطهاد، وكذلك بالنسبة لبقية الغدد مثل الغدة فوق الكلوية (الكظرية) التي يفرز قلبها الكورتيزون وتفرز قشرتها الأدرينالين والنورأدرينالين.

والمعروف أن الكورتيزون يلعب دوراً مهمًا في التأثير على الحالة المزاجية، فارتفاع نسبة هذا الهرمون يسبب الاكتئاب. وأيضاً الفشل الكلوي والكبدي يصاحبهما أعراض عقلية واضحة ولكنها تكون مصحوبة بدرجة عالية من تشويش الوعي، وذلك جنباً إلى جنب مع وجود الهلاوس، وبخاصة البصرية والشعور الشديد بالخوف وتوقع الإيذاء من الآخرين.

ماذا يجب أن تفعل الأسرة تجاه مريضها الذي يعاني من أحد الأمراض النفسجسمية؟

– يجب أن تعـترف الأسرة أولاً بأن النفس مثلها مثل الجسد تحتاج إلى العلاج والمتابعة.

عليها ألا ترفض نصيحة الطبيب العضوي الذي قد يقترح زيارة الطبيب النفسي.

أن تقاوم رفض المريض للعلاج النفسي، وتقنعه وتدفعه إلى فحص الحالة النفسية لتحديد علاقتها بظهور المرض العضوي.

أن تناقش مع الطبيب بكل صراحة نوعية الضغوط والصراعات التي يعايشها المريض.

وفي معظم الأحوال لا يعترف المريض بأنه يعاني ضغوطاً أو صراعات، وهذا إنكار لاشعوري، فصراعاته قد تم كبتها فأصبح لا يدري عنها شيئاً، فهو يعاني منها ولا يدركها ولا يريد أن يدركها؛ لأنها تسبب ألماً نفسياً، ودليل هذا الألم هو قرحة المعدة، وارتفاع ضغط الدم، وتورم المفاصل، والتهاب الجلد.

Exit mobile version