القدس في مناهج التعليم العربي والإسلامي.. المأمول لصياغة عقل جديد

د. مصطفى عطية جمعة

لا يمكن للنظام التربوي العربي والإسلامي أن يتخلف عن حركة الأمة التي تقودها المقاومة الفلسطينية الآن، دفاعاً عن القدس والمقدسات الإسلامية، وعن رسالة الإنسان العربي والمسلم ومشروعه الحضاري المنتظر، ولا سيما أن المردودات التربوية والقيمية التي يجب أن تنعكس على بناء الشخصية العربية والإسلامية واضحة جداً في تلك الحركة غير المسبوقة للأمة في العصر الحالي.

كذلك في ضوء ما تعرضت له القدس كمدينة وتاريخ وحضارة وفكرة ورمز من تزييف وتهويد في الذهن العربي عبر ما يزيد عن نصف قرن من الاحتلال. 

يجب أن تسري أبعاد قيمة القدس كمكان ورمز وحضارة بالمناهج التي تشكل الوجدان الإنساني العربي والإسلامي

إن المناهج المسؤولة عن تشكيل الوجدان الإنساني هي مناهج اللغة والعقيدة والتاريخ والجغرافيا وما يتصل بالإنسان كفرد من الناحية الاجتماعية والنفسية، وما نقصده هنا أن تسري أبعاد قيمة القدس كمكان وفكرة ورمز وحضارة في تلك المناهج، التي تدخل ضمن تشكيل الوجدان الإنساني العربي والإسلامي، بحيث يشكل شخصية جديدة قادرة على تحقيق فعل «وعد الآخرة» على المستوى المادي والمعنوي والحضاري، هذه المناهج هي التي تقوم بدور التشكيل الخفي لشخصية المتعلم، ويظهر آثارها في اعتقادات الطالب لاحقاً وتصوراته ومفاهيمه عن ذاته وعن طبيعة الصراع وعن العدو وعن الحياة والمجتمع والآخر.

نتناول في هذه المقالة ما يتعلق بالمأمول من النظم التربوية العربية والإسلامية لاستعادة مكانة القدس بكل ما تحمله هذه الكلمة في المنهاج التربوي للإنسان العربي والمسلم.

إستراتيجية التربية العربية عام 1979م والوعي بطبيعة الصراع وضروه التحرر:

أدركت إستراتيجية التربية العربية الصادرة عام 1979م مكانة القدس وخطورة الاحتلال الصهيوني على المدينة المقدسة، وذكرت تحت عنوان «التحدي والصمود» أن «الصهيونية حركة عنصرية عدوانية استيطانية، ترتبط عضوياً بالاستعمار والإمبريالية، وتؤلف بهذا الارتباط أضخم التحديات التي تواجه الأمة العربية، وهي تحديات –بلا مراء- تهدد وجودها ومستقبلها»(1)، وفي ضوء ذلك، دعت –الإستراتيجية- إلى ضرورة بناء فلسفة تربوية عربية يقوم عليها النظام التربوي العربي قادرة على التحدي والصمود لهذا العدوان الاستيطاني، وأن تكون مقومات هذه الفلسفة مستمدة من القوة الذاتية للأمة العربية ومن أصولها الثابتة.

مبادرة «التعليم من أجل السلام» تتجه نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني وتعمل على إزاحة المقاومة وتصفها بـ»العنف»

محاولات اختراق المناهج التربوية العربية:

في هذا الصدد، لا بد أن نشير إلى محاولات حثيثة -عبر العقود الثلاثة الأخيرة(2)– من أجل اختراق المناهج التربوية العربية وتطويعها لصالح أفكار تميِّع الحقوق الفلسطينية وتساعد على التهويد للقدس الشريف، وكان من خلال مبادرات أممية من أجل محاولة طمس حقيقة الاحتلال الصهيوني والإسهام في عمليات التهويد الممنهجة والمخططة للقدس، ومن ذلك مبادرة “التعليم من أجل السلام” التي تتجه في العالم العربي نحو تأكيد التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتعمل في هذا الصدد على إزاحة فكرة “المقاومة” التي تصفها بـ”العنف” ومن ثم يخلو قاموسها التربوي من فكرة استرداد الحقوق العربية التي اغتصبها الكيان الصهيوني، وتطرح بدلاً منها قيم: التفاوض، والصلح، والوساطة، وهي كلها تزاحم بما لا شك فيه فكرة المقاومة(3).

الإطار الفكري لتضمين القدس في مناهج التربية العربية والإسلامية:

لكل منهاج تربوي إطار فكري يعمل في ظلاله، هذا الإطار الفكري يمثل القيمة التي يجب أن تحوي موضوعات المنهاج، والإطار الفكري لتضمين القدس في المناهج التربوية العربية والإسلامية، لا بد أن يتسع بحجم القيمة التي يحملها المكان؛ فالقدس ليست مجرد مكان، ولكنها فكرة، وقيمة، وعقيدة، وحضارة، وهي الملتقى الجامع الآن لحركة الأمة وخافقها ومشروعها الحضاري.

إن القدس فكرة تتضمن القداسة والطهارة لا تقل في ذلك عن المكانين المقدسين الآخرين؛ مكة والمدينة، وهي محط البركة الإلهية الممتدة بعلم الله؛ (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراء: 1)، لكل ما فيه ومن فيه، أما من ناحية العقيدة، فإنها تمثل ثلاثة أصول إسلامية كامنة في عمق الاعتقاد الإسلامي:

الأول: أن القدس مدينة الأنبياء –جلهم وأكثرهم- والمسلمون يؤمنون بكل الأنبياء لا يفرقون بين أحد من رسله، ولهم هذا الميراث العظيم باعتبار نبوتهم الخاتمة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن قداسة المكان الأولى تستمد من هذا الأصل وكذلك المسؤولية الإيمانية عن طهارته وعنايته وعمارته.

والثاني: أن القدس يتوسطها المسجد الأقصى، الذي هو محطة الإسراء، ونقطة انطلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معراجه، وشعار وحدة الأنبياء.

والثالث: أن المسجد الأقصى أولى القبلتين، وثالث البيوتات الحرام لدى المسلمين، ولا تشد الرحال إلا لتلك البيوت الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى المبارك، وفي ذلك تعظيم وأي تعظيم لدى الوجدان الإسلامي.

أما من حيث هو حضارة، فنكتفي بالإشارة إلى ما ذكره جمال حمدان بقوله: «.. إن فلسطين عين القلب من العالم الإسلامي، لا جغرافياً فحسب، بل ديناً أيضاً، وقبل كل شيء، إن يكن العالم العربي هو قلب العالم الإسلامي روحياً وموقعاً؛ فإن فلسطين –كمصر– في هذا الصدد، هي أرض الزاوية من العالم الإسلامي طبيعياً، غير أن فلسطين –وهذه المرة أكثر من مصر- جزء حميم من صميم أرض الرسالة في الإسلام.

إن مهد الإسلام يمتد كمحور طولي بين الحجاز وفلسطين، وكل من هذين القطبين الشمالي والجنوبي هو بحق عاصمة الإسلام دينياً، إن مكانة فلسطين في العالم الإسلامي تتلخص ببساطة وبما فيه الكفاية أنها منطقة النواة وقدس الأقداس فيه أرضاً وديناً»(4).

المناهج الدراسية هي القادرة على أن تتحول القدس من مكان إلى فكرة وثقافة في نفوس المتعلمين

المبادئ التربوية لتضمين القدس في المناهج التربوية العربية والإسلامية:

إن هذه المبادئ لا بد أن تضع القدس بوصلة حاكمة لتوجه المناهج التربوية التي تشكل العقل والوجدان العربي والمسلم في التاريخ والجغرافيا والقيم والأدب، وفي ضوء ذلك يمكن أن نشير إلى أهم المبادئ الحاكمة لبناء مناهج تربوية تتضمن القدس في القلب منها، كما يلي:

1- أن يتم إعادة بناء مفهوم القدس في التاريخ والجغرافيا، بما يتضمن البُعد الحضاري لقيمة المكان والزمان الكبريين اللذين يرمز إليهما ذلك المفهوم.

2- الاعتبار بمركزية القدس في تاريخ النبوة الإلهية من لدن آدم حتى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

3- دعم حقائق عروبة القدس من واقع التاريخ الإنساني والنبوي.

4- بناء التصورات السننية لفهم طبيعة التدافع حول القدس.

5- بناء الإدراك الفردي والجماعي لقيم القدس في وجدان وعقل المتعلمين.

6- إعادة بناء مفاهيم «الحق»، و»القوة»، في ضوء حركة التدافع من المرابطين ناحية المحتلين والغاصبين.

7- بيان تهافت المقولات الزائفة للمحتلين والموالين لهم.

8- فصل البراء والولاء بين القدس والغاصبين.

9- إطار التحرر الإنساني هو مدار بناء المحتوى.

10- الاعتبار بالمنظور القرآني للحرية والتحرر.

11- الاعتبار بالمنظور القرآني للتعامل مع اليهود المحاربين والمسالمين.

12- الحفر المعرفي في البناء الأنثروبولوجي للقدس.

13- الترويج للعمارة المقدسية الأصيلة عبر التاريخ.

المساقات المحورية لدرس القدس:

نقصد بالمساقات المحورية لدرس القدس الموضوعات الرئيسة التي يجب أن تتضمنها المناهج التربوية فيما يتعلق بدرس القدس وتدور عليها، وأهم هذه المساقات هي ما يلي:

أ- المساق الحضاري:

يقوم هذا المساق على متصل رئيس هو متصل التاريخ والجغرافيا من ناحية، ومتصل المكانة والدور من ناحية أخرى، ومن موضوعات هذا المساق:

1- دلائل اسم «القدس»، والمضامين القيمية التي يحملها كل اسم: البيت المقدس، المدينة المقدسة، القدس الشريف، مدينة السلام، بيت القدس، قرية السلام.

2- تاريخ النبوة الإلهية فيها.

3- إشعاع حضارة الإسلام منها (15هـ).

4- النشأة التاريخية للقدس وتأصيل عروبة المدينة.

5- تاريخ بناء المسجد المبارك فيها.

6- توسط العالم الإسلامي حضارياً، ودينياً.

7- ضلع ركين في المثلث الحرام في الإسلام (مكة والمدينة والقدس).

8- العطاء العلمي والحضاري لمدينة القدس عبر التاريخ.

9- الموقع الحضاري للمدينة قديماً وحديثاً.

10- الفلسطينية وعاء جامع للقدس والمقدسيين.

11- الاستعمار ومحاولات تشويه وتغيير هوية المدينة.

ب- المساق الفكري– الثقافي:

إن القدس كقيمة يجب أن تتحول إلى فكرة وثقافة للمسلمين على وجه العموم، والمناهج الدراسية المعلنة والخفية هي القادرة –بصورة أكبر من الوسائط الأخرى- لتحقيق هذا التحول، أي تحول القدس من مكان إلى فكرة وثقافة في نفوس المتعلمين، ومن الموضوعات التي يمكن أن تتضمن في هذا المساق نشير إلى ما يلي:

1- مكانة المدينة في الاعتقاد الإسلامي.

2- حالة القدس وعلاقتها بالحالة الحضارية الإسلامية العامة صعوداً وهبوطاً.

3- أن القدس على مدار التاريخ الإسلامي هي ميدان التدافع بين الخير والشر.

4- جيل وعد الآخرة هو جزء من علاقة المسلم بالقدس بالثابت القرآني.

5- المسار القرآني في بيان علاقة المسلمين باليهود حال سلمهم وحربهم؛ سورة «الحشر» نموذجاً.

6- دورة اليهود والصهاينة في الأرض، واللقاء الحتمي بين المسلمين واليهود.

جـ- المساق التاريخي المعاصر:

يركز هذا المساق التربوي على التاريخ الحديث والمعاصر للقدس، وتحديداً ما يتعلق بتمكن العصابات الصهيونية من احتلالها (1948م)، ودور المواقف الدولية والأممية في التمكين للاحتلال الصهيوني، وكذلك الضعف الداخلي للأمة، وموضوعات التهويد والتطبيع مع الاحتلال وتحالفاته، كذلك يتضمن هذا الدرس الادعاءات الصهيونية والكذب حول المدينة المقدسة، ومن الموضوعات التي يمكن أن يتضمنها هذا المساق، ما يلي(5):

1- التفكير في احتلال القدس عبر تأسيس العصابات الصهيونية في الغرب.

2- دور الاحتلال الإنجليزي في التمهيد لاحتلال القدس.

3- أصل الجماعات اليهودية قديماً وحديثاً (الشتات القديم والحديث).

4- ارتباط الحركة الصهيونية بالإمبريالية الاستعمارية.

5- موقف الأمم المتحدة في التمكين للاحتلال الصهيوني.

6- تفنيد المقولات الزائفة حول القدس (أرض الميعاد، الوطن القومي لليهود، السامية..).

7- تطور الديموجرافيا القدسية، ومحاولات الاحتلال الصهيوني في تغيير هوية المدينة.

د- مساق وحدة الأمة:

يتعلق هذا المسار بالمكانة الحضارية للقدس في العالم الإسلام، فمتصل «القدس، الحجاز» هو العاصمة الدينية للعالم الإسلامي، وأن هذا المركز لا يقبل الإقالة أو الاستقالة؛ لأنه ثابت بالتاريخ والقرآن، يذكر جمال حمدان أن «فلسطين هي اليوم وعاء الوحدة الإسلامية السياسية مثلما هي مقياسها ومحكها الحق والحقيقي، وإذا كان ثمة للعالم الإسلامي من وحدة سياسية؛ فهي وحدة العمل السياسي، وهو العمل من أجل إنقاذ وتحرير فلسطين للعروبة والإسلام، وإذا كان من واجب العالم العربي أن يدعو إلى «قومية المعركة»، فإن من واجب العالم الإسلامي أن يتنادى إلى «إسلامية المعركة»، ولا يعني ذلك تعارضاً بين الشعارين أو استبدال هذا الهدف بذاك، بل إنهما يتكاملان تكامل الجزء والكل والخاص والعام»(6).

في هذا المساق التربوي نقترح أن تتضمن موضوعاته ما يلي:

1- قيم وحدة الأمة وقيمة تحرير القدس.

2- فضائل بيت المقدس ودورها في بناء وحدة معاصرة للأمة.

3- قيم وحدة المصير بين الأمة وتحرير القدس.

4- فرضية دعم المقاومة بأشكالها المتعددة والمتنوعة.

5- مقومات بناء شبكة علاقات اجتماعية عربية وإسلامية– فلسطينية.

لا نجزم بأن هذه المساقات هي وحدها الضرورية في بناء منهاج تربوي على محور القدس، كما لا نزعم كمال موضوعاتها، ولكن نزعم أنها فرصة لتفكر تربوي عربي نوعي ومختلف في هذا المنعطف التاريخي الذي تمر به أمتنا بحمل من الإيجابية والأمل الكثير نحو مستقبل حر للقدس ولأمتنا.

_________________________________________________________________

(1) إستراتيجية التربية العربية، ص 121.

(2) انظر في هذا الصدد: نور الدين محمود: حرث العقل العربي لصالح الكيان الصهيوني، مجلة المجتمع، عدد 2144، ص 18.

(3) ومن الأنشطة التي قامت بها في هذا الصدد: لقاء ترقية مبادرة التعليم 2005 عمان/ الأردن، سيمنار التربويين العرب (بذور السلام)، واشنطن 2005، المؤتمر الدولي عن التربية المدنية عمان/ الأردن، مشروع تدريب المواطنة لبنان مارس 2004، برامج التربية المدنية العربية (تنفيذ مشروع المواطنة بين مصر، الأردن، والضفة الغربية 2004)، (مشروع تدريب المواطنة- القاهرة 2004)، وغيرها من البرامج التي استهدفت دول الجوار للكيان الصهيوني.

(4) جمال حمدان: العالم الإسلامي المعاصر، ص 208.

(5) من المراجع الأصيلة في هذا المساق:

– عبدالوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية.

– عبد الوهاب المسيري: الأكاذيب الصهيونية من بداية الاستيطان حتى انتفاضة الأقصى.

– جمال حمدان: اليهود أنثروبولوجيا.

– جمال حمدان: العالم الإسلامي المعاصر.

– السيد يسين: الأساطير الصهيونية والانتفاضة الفلسطينية.

(6) جمال حمدان: العالم الإسلامي المعاصر.

Exit mobile version