محمد عمارة.. راهب الفكر وفارس الميدان (4/4)

بعد أن تناولنا في الحلقات الثلاث الماضية (1،2،3) النشأة الأولى للدكتور محمد عمارة –رحمه الله تعالى- وتحدثنا عن مسيرته التعليمية وشيوخه الذي تتلمذ لهم والذين أثروا فيه حتى أضحى قلعة فكرية متكاملة البينان، عظيمة المعاني، مهيبة المنظر.. ثم تناولنا معالم المشروع الفكري له رحمه الله تعالى؛ حيث ذكرنا لهذا المشروع 5 معالم واضحة ومميزة. ثم عرضنا للمعالم العشرة لتميز المشروع الفكري للدكتور عمارة.. نتناول في هذه الحلقة (الأخيرة من هذه السلسلة):

معالم فروسية الفكر والميدان

بعد استعراض هذه المعالم العشرة التي جمع فيها عالمنا ومفكرنا بين مجالات ودوائر متقاربة أو متباينة جعلت لمشروعه هذا الثقل وتلك القيمة الكبيرة، وقد تكون أحيانا هذه الدوائر متعارضة بادي الرأي، وبينا وجه جمعه بين هذه المجالات وطبيعة هذا الجمع وبيان وجوده ضمن مشروعه الفكري، مع بيان أثر هذا الجمع بين هذه المجالات والدوائر على الخطاب الإسلامي والدعوة الإسلامية .. بعد ذلك يطيب لنا أن نختم بالحديث عن عنصر مهم ومعلم بارز في حياة د. محمد عمارة العلمية والعملية، وفي حياة كل عالم رباني مجاهد، وهو الوقوف على معالم فروسيته في الميدان بعد أن تجلت فروسيته في الفكر والقلم.

أولا: فروسيته في الكتابة:

وقبل بيان فروسية الميدان والاشتغال بهموم الأمة على الأرض وفي الميدان نذكر أولا أن روح الفروسية ومسلك الجهاد والدفاع كانت تكتسي بها كتاباته، وكذلك مفرداته التي يختارها لا سيما في كتبه التي يرد فيها الشبهات، أو مؤلفاته التي يظهر فيها عوار التيارات الفكرية المنحرفة سواء أكانت قديمة أم حديثة.

إن الدكتور محمد عمارة حينما يكتب في قضية أو يتحدث فيها، فلا تشعر أنه كاتب يكتب بقلم، أو مؤلف يحبِّر الورق، أو خطيب يعتلي المنبر، أو متكلم يتكلم في ندوة، وإنما تشعر أنه مقاتل في معركة يحمل السلاح، ومجاهد مرابط على الثغور يحمي الذمار، فترى بارقة السيوف فيما يكتب أو يخطب؛ مبينًا معالم الإسلام، ومجلِّيًا محاسن العقيدة، ومرسِّخًا معاقد الشريعة، ومؤسِّسًا فَرَادَةَ الحضارة، بما يملك من حُجج بالغة، وأدلة دامغة، وإحصاءات قاطعة، ونُقُولٍ عن الآخرين باهرة معبرة، كل هذا في حسن عرض، وجمال بيان، وروعة أسلوب.

ثانيا: أول مقال كتبه كان بعنوان: “جهاد”:

من الوهلة الأولى في الكتابة يطالعك تاريخ عمارة بأول مقال كتبه في حياته كان من أجل القضية الفلسطينية، وكان بعنوان: “جهاد”، وهو يحكي قصته فيقول: “حدث أني التقيت بناسٍ من حزب “مصر الفتاة”، وبدأت العمل بالسياسة من خلال الحركة الوطنية في مصر، ومن خلال القضية الفلسطينية. أول مظاهرة اشتركت فيها كانت سنة 1946 أثناء فترة المعهد (1945-1946)، وكانت مظاهرات ضد مشروع صدقي/بيفن حول الجلاء الإنجليزي عن مصر. وفي 1947 بدأت أخطب في المساجد ضد اليهود (= الإسرائيليين)، ومن أجل القضية الفلسطينية، وكتبت أول مقال بعنوان “جهاد” عن الفدائيين الذين دخلوا فلسطين قبل الجيوش العربية، نُشر في أول أبريل/نيسان سنة 1948 في جريدة “مصر الفتاة”، وأعتقد أن نشر هذا المقال حدد مستقبلي ومصيري في علاقتي بالكتابة”.

حينما كان يكتب في قضية تشعر أنه مقاتل في معركة يحمل السلاح ومجاهد مرابط على الثغور يحمي الذمار

وقد كانت قضية فلسطين من القضايا المجمع عليها من كافة التيارات السياسية والفكرية، ونشأ مفكرنا محبا للحرية والتحرر والجهاد والعدل الاجتماعي.

ثالثا: إسهامه في المظاهرات ورغبته في الجهاد القتالي:

سبقت الإشارة قبل قليل إلى اشتراكه في أول مظاهرة ضد مشروع صدقي/بيفن حول الجلاء الإنجليزي عن مصر، كان ذلك عام 1946م وهو ابن خمسة عشر عاما!

وكذلك في فترة تعليمه الابتدائي كان يشارك في اعتصامات واحتجاجات، يقول: “فتحت تجربة التعليم الابتدائي أمامي أبوابًا كثيرة، خصوصًا أن الأجواء في الأزهر كانت تتسم بالجمود، وكنا ندرس الحواشي والتعليقات، ولاحظت بعد ذلك أن ما يدرس في الأزهر ليس كتب عصر الازدهار الحضاري ولا كتب عصر التجديد، وإنما كتب في أغلبها مؤلفة في عصر المماليك، لذلك كنا نقوم بإضرابات واعتصامات واحتجاجات مطالبين بإصلاح الأزهر وإدخال اللغات الأجنبية”.

وكان يتابع أخبار الفدائيين من خلال الصحف، يقول: “وكنت أقرأ صحيفة مصر الفتاة، وأعرف أخبار الفدائيين الذين دخلوا من مصر وسوريا إلى فلسطين، وذلك قبل دخول الجيوش العربية إلى فلسطين في مايو سنة 1948م”.

تطور الأمر بعد ذلك ميدانيا وممارسة إلى التدريب على السلاح وممارسة الجهاد القتالي على الأرض بالفعل، يقول: “عندما احتدَّت أحداث القضية الفلسطينية؛ تطوعت لأتدرب على السلاح وأذهب إلى فلسطين، لكن بسبب السن وأن دسوق كانت مدينة صغيرة لم تتح لي فرصة الدخول إلى فلسطين، وعندما ألغيت معاهدة 1936 بين مصر وإنجلترا سنة 1951 تدربت على السلاح أيضًا، ثم تدربت على السلاح أيضًا للذهاب إلى قناة السويس ومحاربة الجيش الإنجليزي في القواعد العسكرية هناك، لكن حدث حريق القاهرة فأجّلت الموضوع. ولكنني تمكنت من الذهاب إلى القناة لمواجهة العدوان الثلاثي 1956، حين كانت لي علاقة باليسار المصري الذي كان بينه وبين الحكومة تعاون لمواجهة العدوان الثلاثي”.

رابعا: ممارسته للخطابة الاجتماعية الثورية طوال حياته:

منذ زمن مبكر كان د. عمارة يعتلي المنبر، ويخطب ضد الاحتلال، حتى إنه يقول: “وفي 1947 بدأت أخطب في المساجد ضد اليهود (= الإسرائيليين)، ومن أجل القضية الفلسطينية”. بل إنه كان يخطب لفلسطين ليجمع المال لها من القرى القريبة منه، يقول: “شاركتُ في الدعاية للقضية الفلسطينية، وذهبتُ إلى القرى المجاورة لقريتي لأخطب وأطلب التبرع المادي لدعم الكفاح في فلسطين”.

والذي حمل مفكرَنا على الخطابة وممارستها في وقت مبكر من حياته هو رغبته في التغيير والتجديد لما رآه من أفكار مغلوطة وأوضاع اجتماعية غير صحيحة، يقول: “لقد لمستُ في فترة الطفولة والنشأة كثيراً من مظاهر الفهم الخاطئ لتعاليم الدين (والتي كانت نتيجة لظروف طويلة من التخلف)، مما دفعني إلى طريق التجديد والتصحيح.. حتى لقد كُنتُ، منذ بداية عهدي بالخطابة، أخطب على نحو غير تقليدي؛ فلقد كان يُدهَشُ جمهورُ الفلاحين لأنهم لم يتعودوا أن يصعدَ على المنبر إنسانٌ يتكلم في الشئون الاجتماعية والسياسية والعامة.. وبدأت أَعِظُ الناسَ 30 ليلةً في رمضان.. ثم بدأت التجربة التي بدأتُها في القرية تنضج؛ فتتحول إلى لون من ألوان القيادة السياسية والاجتماعية والفكرية: فأصحابُ المشكلات يأتون، والباحثون عن الفتاوى يأتون، والمشكلات الزوجية صُلحاً أو طلاقاً تنتهي عند الحجرة المتواضعة التي أجلس فيها، والعلاقات والصداقات تنمو بين القرية والقرى المجاورة، وأصبحت شهورُ الصيف التي أقضيها في القريةِ منتديات من الحوار والنقاش الدائم، ومجالاً خصباً للخطابة والموعظة وإمامة الناس”.

الذي حمل مفكرَنا على الخطابة وممارستها في وقت مبكر من حياته هو رغبته في التغيير والتجديد لما رآه من أفكار مغلوطة وأوضاع اجتماعية غير صحيحة

وقد تطورت طبيعة الخطابة عنده من “مجرد الوعظ” إلى آفاق الإصلاح الاجتماعي كما تبين، يقول عن ذلك: “وأذكر أنَّ مِن ضمن ما قدمتُ للناس في مسجد القرية تفسيراً أدهشهم، لكنه أقنعهم، وذلك عندما قلتُ لهم : “إذا لم تأخذوا من إنتاجكم ما يكفي قوتَكُم وقوتَ أولادِكم، فستذهبون إلى النار، حتى لو كان ذلكم الأخذُ اغتصاباً من المالِكِ للأرض؛ لأنَّ اللهَ سبحانه يُبَشر الذين يَظلمون أنفُسَهم بالنار: “إن الذين توفاهم الملائكةُ ظالمي أنفسِهِم، قالوا : فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض قالوا : ألم تكن أرضُ اللهِ واسعةً فتهاجروا فيها؟! فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً” [النساء 97] .. وأنت إذا لم تأخذ من نتاج عرقكَ ما يكفيك ويكفي أسرتكَ: فأنت تظلم نفسَكَ؛ فأنت عاصٍ لله” اهـ .. وقد كنتُ أرى الفلاحَ يَشقَى ويزرع الأرضَ ويَروِيها بعرقه (على سبيل الحقيقة لا المجاز)، ثم يَحْصُد، ثم يأخُذُ المالكُ كلَّ هذا الحصادَ ونتيجةَ هذا العرق، ويذهب الفلاحُ آخَر الليل إلى بيته خالي الوفاض، فإذا امتعض أو اعترض : يُطرَد من الأرض ويُلقَى للمجهول .. ومِن هنا كان هذا التفسيرُ الذي قدمتُهُ تفسيراً “ثورياً”.

وقد أشرنا سابقا ونحن نتحدث عن تجربته الصوفية ممارسته للخطابة الناقدة للتصوف المنحرف وللملك فاروق معا، وهو ما يزال في التعليم الأولي، يقول: “في مرحلة الابتدائي والثانوي -قبل الارتباط باليسار- كانت لدي تجربة في المجاهدة الروحية والتصوف غير الطرقي، وكنت أخطب على المنبر ضد الطرق الصوفية وأعلّم الناس فرائض الدين ومقاومة الظلم، وفي الجمعة التي سبقت ثورة يوليو صادف أن انتقدت الملك فاروق، وعندما عُزل بعد الثورة ظن بعض الناس أنني كنت على علم بتفاصيل ثورة يوليو، وظن آخرون أنني من أولياء الله الصالحين”.

وإبان أحداث يوليو 1952م يقول مبينا تطور الخطابة عنده إلى شكل سياسي ثوري: “وقامت ثورة يوليو 1952م أثناء دراستي الثانوية، ولقيامها معي حادثٌ طريفٌ: فقد كنتُ أخطب الجمعةَ بشكل منتظمٍ خلال الإجازة الصيفية بمسجد القرية، وكنتُ الوحيدَ الذي لا يدعو للمَلِك على المنبر، وكان هذا شيئاً مُستغرباً، ولكني التَزَمْتُهُ.. والمثيرُ أنه في يوم الجمعة وخلال الأسبوع الذي سبق الثورةَ مباشرةً كان في الخطبة ما يُشبهُ النقدَ اللاذعَ للملك فاروق، ودعوتُ اللهَ فيها أن ينصرَ الأمةَ العربية والإسلامية على أعدائها وبيد أبنائها المخلصين.. وعندما قامت الثورة: تصورَ مَن في القرية أنني كنتُ على علمٍ أو على اتصالٍ بها، وأخذوا يقارنون بين ما قلتُهُ في الخطبة وبين ما حدث؛ ليؤكدوا على هذه القناعة”.

ظلت الخطابة مهارة ورسالة يمارسها مفكرنا في قريته حتى أواخر حياته، كان إذا زار قريته خطب فيها الجمعة، وخطب العيدين، وما زال كذلك حتى لقي الله تعالى.

خامسا: فروسيته في المناظرات والفضائيات:

ومن معالم فروسيته ما اشتهر به من مناظرات لم يحظ أحد من معاصريه بالقدر الذي حظي به د. عمارة منها اللهم إلا أحمد ديدات –رحمهما الله تعالى– وقد تابعت الجماهير الواسعة مناظراته مع نصر أبو زيد وفرج فودة ونوال السعداوي وكمال زاخر وفؤاد زكريا وآخرين، وكيف خرج من هذه المناظرات كلها منتصرا مظفرا حتى قال عنه الشيخ الكبير محمد الغزالي مداعباً إياه في لقبه: (أنت لست «عمارة»؛ أنت قلعة حصينة شامخة شديدة البأس؛ تكر منها على أعداء الإسلام وشانئيه، ولا ترضى الإياب إلا بعد أن تتركهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية).

كما أنه حين يستضاف وحده في أي لقاء تليفزيوني يتحدث حديثا قويا حاشدا متحمسا يأخذ عقلك وقلبك ووجدانك بما يقوله من فكر، وما يقيمه من حجج وأدلة، وما يدفعه من شبهات أمام العلم الراسخ الذي يبدده ويذهبه بل يجعله أضحوكة وأثرا بعد عين.

سادسا: فروسيته في المعارك التي خاضها:

من معالم فروسية مفكرنا العظيم الميادين التي قاتل فيها بقلمه وفكره، والمعارك التي خاضها، ومن ذلك معركته مع الكنيسة المصرية

ومن معالم فروسية مفكرنا العظيم الميادين التي قاتل فيها بقلمه وفكره، والمعارك التي خاضها، ومن ذلك معركته مع الكنيسة المصرية، ومعركته مع الشيعة، ومعركته مع التيارات السلفية الجامدة، ومعركته مع العلمانيين واللادينيين، ومعركته مع الأنظمة المتتالية، وموقفه من الانقلاب العسكري في مصر وبيانه الشهير الذي سجله للتاريخ، والقضايا التي أثارها على صفحات مجلة الأزهر حين تولى رئاسة تحريرها..

كان محمد عمارة هو الفارس المغوار في هذه المعارك، وقد أقض مضجع الكنيسة في مصر، وكذلك أقض مضجع الشيعة حتى زاره الملحق الثقافي الإيراني في القاهرة ورجاه أن يخفف من حملته حينما كتب عن الشيعة وفتح ملفها في أعداد مجلة الأزهر والكتب التي أصدرها هدايا مع أعداد المجلة.

***

لا نجد في ختام هذه الدراسة أفضل من كلمات إمامنا الشيخ يوسف القرضاوي كتبها عنه في كتاب أرى أن عنوانه دال على مسيرة عمارة الفكرية والجهادية وهو: “محمد عمارة الحارس اليقظ المرابط على ثغور الإسلام”، قال في مقدمته: “هذه هي الصحائف التي كتبتُها في شأن أخي وصديقي العالم الباحث الداعية المناضل الشيخ الدكتور محمد عمارة، الذي ادَّخره القدر الإلهي للدفاع عن هذا الدين العظيم، الدين الخاتم الذي أكرم الله به هذه الأمة، وأتمَّ عليها به النعمة، حين قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. عمارة هو الحارس المغوار، والفارس المختار، والسيف البتار لإرهاب أعداء هذا الدين العظيم، دين الإنسانية جميعا، ودين القرون كلِّها، ودين البشر حينما تُظلِمُ عليهم الدنيا، وتلتبس عليها الطرق، ولا يجدون النور والضياء إلا في رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، رسالة الإسلام الأصيلة: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع الدراسة:

الدكتور محمد عمارة الحارس اليقظ المرابط على ثغور الإسلام (كتاب) – د. يوسف القرضاوي.

المشروع الفكري للدكتور محمد عمارة (كتاب) – د. يحيى رضا جاد.

العلامة الدكتور محمد عمارة في رحاب الله (مقال). د. إبراهيم البيومي غانم.

محمد عمارة سيرة ومسيرة (حوار الجزيرة) – د. معتز الحطيب.

محمد عمارة جهاد في خدمة الإسلام (مقال) – أشرف عيد العنتبلي.

حلقة برنامج وحي القلم: محمد عمارة.. الاعتكاف في محراب الفكر. قناة الجزيرة. تاريخ البث 13/7/2015م.

Exit mobile version