فلسطين ومقولات الاستلاب الحضاري

 

الصليبي يهدف إلى القول بصحة التاريخ وخطأ الجغرافيا في إطار ما عرف بالتهذيب العلمي لجغرافية التوراة

.. ويرى أن مسرح العهد القديم لم يكن فلسطين بل الحجاز محركاً أطماع العدو الصهيوني بهذه البقعة العربية

وايتلام يرى أن عدة حضارات تعاقبت على فلسطين وأن هذا الشعب كان موجوداً على أرضه منذ أقدم العصور

الفصل بين التاريخ وحقائقه والأساطير وأشباحها آلة الدعاية الصهيونية بفلسطين وقصر الوجود على التاريخ التوراتي

 

أثارت حرب الأحد عشر يوماً الأخيرة وعدوان آلة الدمار الصهيونية على الشعب الفلسطيني في القدس ومحاولة إخراج أهل حي الشيخ جراح منه وتلك البربرية التي نالت البشر؛ أطفالاً ونساء، وأبراجاً سكنية، وما ردت به المقاومة على هذا العدوان؛ أثارت أسئلة الهوية وتجذرها في التاريخ والجغرافيا، فلم تكن تلك الحرب غير تطبيق عملي لما حفلت به أدبيات الفكر الصهيوني وتقديمه نماذج تفسيرية مجتزأة يحاول من خلالها استلاب الهوية العربية الفلسطينية.

لقد درسوا كل شيء ولم يتركوا حجراً على حجر حتى يدللوا على وجود لهم، بل ادعوا لأنفسهم الأطعمة والألبسة محاولين تجذير وجودهم المزعوم.

 

ثمة مقولات أطلقت لتكون بالونات اختبار أو تمهيداً لإيجاد حالة من التنازل عن الهوية الحضارية للأمة وخلق حالة من التشويش على أصعدة الفكر، مقولات إن تم تحليلها في ضوء معطيات النقد المنهجي برز فيها الخلل، بل تُعد ردة فكرية ودعوة للتطبيع وإن شئت التنازل عن الحقوق والتسليم للعدو الصهيوني بأحقية تملكه ونهبه لفلسطين وما حولها.

ويأتي في هذا السياق كتاب “التوراة جاءت من جزيرة العرب” الذي يتماهى مع المشروع الصهيوني، ومن العجيب أنه لباحث عربي وهو كمال الصليبي؛ حيث يأتي بتلك المقولات في ظل واقع تشهده الأمة على كافة الأصعدة السياسية والثقافية والاقتصادية وحالة من التدافع الحضاري وما تستلزمه من مقومات وآليات الصراع.

الصليبي نموذج صارخ لباحث حاول خلق زوبعة وبلبلة في المستقر من أبجديات البحث الجغرافي ومقولاته التاريخية من خلال الدفع بآراء شاذة تخالف ما تعارف عليه الباحثون.

يتناول في كتابه آنف الذكر موقف المؤرخين العرب والقرابة اللغوية وما ساد الجزيرة العربية من عادات وتقاليد وطقوس وأساطير وردت في التوراة، ومقارنة أسماء الأماكن والبلاد بما ورد في المعاجم الجغرافية والكتابات حول بيئة الجزيرة العربية، وما روي وتناقلته المرويات الشفهية في الثقافات الشعبية والنصوص السردية التراثية، يهدف الصليبي إلى القول بصحة التاريخ وخطأ الجغرافيا، في إطار ما عرف بالتهذيب العلمي لجغرافية التوراة، لكنه لا يناقش صحة أو خطأ ما ورد فيها، بل يوسع من بيئتها، ولا يخفى على القارئ ما يخلقه هذا من تعمية وتجهيل.

يرى الصليبي أن مسرح العهد القديم لم يكن جغرافية فلسطين، بل عسير والحجاز، وهو يحرك بهذا الكلام أطماع العدو الصهيوني إلى بقعة أخرى، وإن تعلل بعكس ذلك ليجعل من ابتسار النص التوراتي مطية لابتلاع الأرض العربية، متخذاً من الأسماء والمفاهيم في بيئة جغرافية مغايرة لما حفلت به الأدبيات الصهيونية من تمجيد لعبقرية المكان ونبوءات الكهنة والعرافين، وما تبثه آلة الدعاية الصهيونية ليل نهار عن نظرية الحق التاريخي والأساطير المؤسسة للكيان المغتصب، مولود شائه هجين نسفت ترهاته وأباطيله مقاومة أهل الأرض وتمسكهم بهويتهم لغة وديناً.

وهو يهدف من وراء ذلك إلى الدفع بالقارئ العربي إلى تبني مقولاته والتسليم لليهود بأرض عربية أخرى، وياللأسى حيث تنطلي تلك الترهات على أغمار يتلقفونها فيرددونها في غير وعي ولا فهم!

منظور لغوي

بنظرة إلى محتويات كتابه من منظور لغوي، نراه يتخذ من القراءة السامية ساكنة النطق ويقصرها على أماكن ومدن عربية موجودة في غرب الجزيرة العربية أو المنطقة الجغرافية المحصورة بين الطائف واليمن، وصبغها بخصائص الأرض المذكورة في التوراة سيما ما يعرف بالعهد القديم.

يتكئ الصليبي فيما يريد تسويقه على رأي لبعض علماء اللغات يقول بأن العبرية لهجة عربية، وأن أم القرى وما حولها هي الأرض المقدسة التي كتب الله لإبراهيم عليه السلام وليست فلسطين، وأن بني إسرائيل عرب بائدة.

كما يذهب إلى أن نصوص التوراة وعلى رأسها ألواح موسى دونت بلغة عربية قديمة هي لهجة كنانة الأولى التي سكنت تهامة والحجاز منذ الألفية الثالثة قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وأنها كتبت بخط يخالف المسند العربي القديم. 

سبب هذه الدراسات أن جغرافية التوراة كما وردت غير منضبطة، وأنها تعطينا وصفاً لأماكن لا نجدها في الواقع، وهناك من يبحث عنها في جغرافية شبه جزيرة سيناء ووادي الأردن، إنه التيه في مجاهل ودروب البحث علها تنطوي على أنصاف المثقفين.

وفي هذا السياق، لا يبعد عنا ما يهرف به يوسف زيدان وتجنيه على صلاح الدين الأيوبي، إذ يتماهى مع كمال الصليبي في منطلقاته، مخالفاً كل أدبيات الحروب الصليبية؛ حتى أثار زوبعة أخرى في ادعائه أن المسجد الأقصى لا يوجد في القدس، بل في وادي الجعرانة بين مكة والطائف، وإليه كان الإسراء، أما المعراج إلى السماء فلا أصل له، ولعل ذاكرة القارئ تعود به إلى أن تلك مقولة “مردخاي كيدار” في “الكنيس”ت الصهيوني، في يوليو 2009م.

إنه ابتسار للنصوص في قراءة أحادية تخالف أدب البحث العلمي وتدلل على نظرة مسبقة يحاول من خلالها التدليل على دعاواه.

اختلاق “إسرائيل”

أما الكتاب الثاني، وهو “اختلاق إسرائيل القديمة” لمؤلفه كيث وايتلام، الصادر عن سلسلة “عالم المعرفة” بالكويت العدد (249)، فهو يناقض المدرسة التوراتية التي بدأت بين المؤرخين منذ نهاية القرن التاسع عشر عند ظهور الفكرة الصهيونية.

يركز وايتلام في كتابه على أن عدة حضارات تعاقبت على فلسطين، وأن هذا الشعب كان موجوداً على أرضه منذ أقدم العصور، وأن التنقيبات والكشوف الآثارية كشفت عن جوانب متعددة من التراث الثقافي والروحي الضخم الذي خلفته الشعوب العربية القديمة “السامية”، خاصة الكنعانية التي استقرت في فلسطين.

إن سلطات الاحتلال اليهودي تعمل على طمس المعالم الحضارية، وتهدف تلك النظرة التوراتية إلى اعتبار مملكة “إسرائيل” القديمة حقيقة لا جدال فيها، ومن ثم استمرارية تاريخية مباشرة بين مملكة “إسرائيل” القديمة في العصر الحديدي ودولة العدو الصهيوني، بل توظف أحداث التاريخ في خدمة الأطماع السياسية ومحاولة إسكات التاريخ الفلسطيني.

وبنظرة لمحتويات الكتاب (نصوص وتواريخ منحازة، إنكار المكان والزمان على التاريخ الفلسطيني، اختلاق “إسرائيل” القديمة، إنشاء دولة “إسرائيلية”، رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني)، يجد القارئ العربي نفسه بين نموذجين مختلفين؛ أحدهما يعمد إلى توسيع الوجود التوراتي من فلسطين الجغرافية ويمتد به إلى بقعة أخرى من بلاد العرب، والثاني ينفي ادعاء الحق اليهودي، وفي هذا السياق اعتمدت الدعاية الصهيونية على الأسطورة والخرافة لتبرر وجودها وتلتمسه في الأثر والحجر، فالمادة الخام للأسطورة تستخرج من تلافيف الماضي، وتعمد إلى تخليق وجودها لكي تؤدي مهمتها في تزييف حقائق التاريخ وتعبئة العقلية وشحنها لتؤدي وظيفتها في المواجهة، واستخدامها في سلاح القتل والتخريب، والفصل بين التاريخ وحقائقه والأساطير وأشباحها هو آلة الدعاية الصهيونية في فلسطين، وقصر الوجود على التاريخ التوراتي؛ فلم يترك علماء الآثار حجراً في فلسطين المحتلة ولا مخطوطة في سجلات المحاكم الشرعية إلا انتهبوها.

الجامعة العبرية

لقد أسست الجامعة العبرية بالقدس، في 24 يوليو 1918م، أي قبل إعلان دولة الاحتلال “الإسرائيلي” بأربعين عاماً؛ لتكون طليعة بحثية وأداة تسلل إلى العقلية العربية، ولقد حرص الآباء المؤسسون للكيان الصهيوني على تنميط الدراسات العبرية وجعل التوراة والتلمود منطلقين للمادة التاريخية، في حين تنكر طه حسين وأشياعه لحقائق القرآن الكريم وصحيح السُّنة النبوية الشريفة!

لذا، رأى كثير من الباحثين أن التاريخ الحقيقي لدولة الاحتلال الصهيوني هو تأسيس الجامعة العبرية، وفي ذلك قرينة أن ما حدث في عام 1948م هو إعلان الاستقلال وليس ميلاد الكيان الصهيوني المغتصب.

وفي النهاية، علينا أن نقدم لطلابنا وللباحثين والقراء جهود حسن ظاظا، وعبدالوهاب المسيري، وجمال حمدان، ورشاد عبدالله الشامي، وغيرهم مما تذخر به الجامعات ومراكز البحوث في بلادنا وفي معاهد الدول الأخرى؛ فهؤلاء الذين نقدوا المشروع الصهيوني وقدموا جهوداً علمية يصح أن نبني عليها في مقاومة الاستلاب الحضاري.

 

ــــــــــــــــــــ

* أكاديمي وروائي مصري.

Exit mobile version