في محاولة وداع يليق بالعالم د. محمد محمد أبو ليلة

فجعتُ كغيري من الذين عاشروا وعرفوا أو حتى سمعوا بفضيلة العالم الأكاديمي المخلص د. محمد محمد أبو ليلة، مؤسس الدراسات الإسلامية باللغة الإنجليزية في جامعة الأزهر الشريف، بخبر وفاته صباح الأحد الماضي، وتبادر إلى الذهن على الفور شريط ذكريات قصير لكنه قوي وعزيز على النفس، كما حضر كاتب هذه الكلمات عتباً خاصاً على مجريات فترة زمنية فرقت مخلصين وشرفاء حاولوا خدمة الأمة بجل جهدهم وما استطاعوا وملكوا من قدراتهم ومجريات حياتهم؛ ثم هم يتفرقون في البلاد ويتخطفهم الموت وقدر الله الذي لا مرد له ولا معقب في الغربة، فلا نستطيع مجرد الوجود إلى جوار أحدهم أو حتى الاتصال به للتخفيف عنه في أيامه الأخيرة؛ إذ تتوه العناوين وأرقام الهواتف في الزحام والملاحقات والمسؤوليات ومحاولة -مجرد محاولة- تفهم الواقع وتلمس مفرداته وأسبابه بحثًا عن سبيل للخروج أو استشراف لأفق حل ولو نظري يعفي من الموقف المرير أمام رب العزة والسؤال عمَّا قدمه أحدنا أمام مظلم واقع الأمة غير المسبوق على الأقل في تاريخها المعاصر؛ وهكذا تروح الأفكار وتجيء فحتى لو نجحنا في التغلب على اللحظة البالغة الإيلام في مصر قلب الأمة المفترض أنه نابض بالخير لها، فمن يعيد لنا أصدقاء وعلماء ومربين ومصلحين أفاضل ماتوا في المأساة وفارقونا دون مجرد وداع يحاول مطاولة قاماتهم؟ ورحم الله القائل:

إِلى اللَهِ أَشكو لا إِلى الناسِ أَشتَكي       أَرى الأَرضَ تَبقى وَالأَخِلّاء تَذهَبُ

أَخِلّايَ لَو غَيرَ الحِمامِ أَصابَكُم                   عَتِبتُ وَلَكِن ما عَلى المَوتِ مُعتَبُ!

عرفتُ د. أبو ليلة، رحمه الله تعالى، في نهاية عام 2012م وحتى قرب نهاية العام التالي، أو حوالي ما يعرف ضمنًا بعام العمليات المصري الأبرز الذي حوى فترة حكم الرئيس المصري الراحل د. محمد مرسي، وكان كاتب هذه الكلمات يعمل في مؤسسة إعلامية مصرية عامة شهيرة طرده منها نظام المخلوع الراحل حسني مبارك، فلما عاد في حكم الإخوان لاقى مشقات لا مجال للاستفاضة فيها هنا، والشاهد أني لما تعرفتُ للراحل أكثر ولمستُ شدة تواضعه صار لديَّ أكثر من معلم؛ فقد دعوته لتصوير حلقة عن المصطفى، صلى الله عليه وسلم، بمناسبة تعرض ذكره، لا شخص الرسول العظيم -حاشا لله- للذم من إحدى الدول الغربية؛ وجاء فريق العمل متأخرًا –العادة- فلم يضجر الرجل ولم يقطب حاجبيه كما يفعل أغلب الضيوف من العلماء الكبار في مثل هذه المناسبات، وإنما اكتفى بأن قال: طالما أنني في ضيافة وشرف الرسول العظيم فلا يهمني وقت أو مال أو جهد فأنا “خادم” هذه الحلقة حتى تنتهي!

وأذهلني أن دعاني الرجل لمشروب تلو الآخر بل فريق العمل كله، ولما جاء المخرج وكان علمانيًا لكن مجيد في عمله ودعاه لشرب القهوة فأجاب بأنه يحضر قهوته من البيت معه؛ فما زاد الراحل العالم الورع أبو ليلة على أن قال: أيا بني، إنني في مثل عمر أبيك وربما جدك وأدعوك لتناول فنجان قهوة؛ فهل تسمح لك أخلاقك بأن ترفض، ولو طلبت ما شئت من متاع الدنيا لأحضرتُه لك حبًا وشرفًا وكرامة لسيدنا محمد!

أما المدهش فهو أن الراحل الفاضل ظل حاضرًا للتصوير وأصر على التعرف إلى بقية الضيوف ممن لم يكن يعرفهم ودعوتهم لمشروبات تحية لهم حتى ألححتُ عليه بأن يتفضل، فمضى وهو يعلن استعداده لحضور مثل الفعاليات “المباركة” في أي وقت مما جعلني أتحرج وأتألم لموقف أكاديمي آخر حدثتُه قبلها وأكدتُ عليه ضرورة الحضور يومها فكرر بحسم: إذا كانت السيارة ستأتي لتأخذني من الجامعة ثم تعيدني لمدينتي المتاخمة للقاهرة فإنني على استعداد، وإلا فلا داعي للأسف على عدم حضوري!

وكان الرجل الأخير أصغر سنًا وأكثر انتماءً للحزب الحاكم وقتها ولم يهتز له جفن؛ ولكنني تألمتُ إذ رأيتُ د. أبو ليلة يوقف سيارة أجرة ليركبها، وهو ينادي السائق: “بيا بني”، طالبًا منه مساعدته في الوصول لمصر الجديدة؛ وكان ساعتها يراوح الستين من العمر، فيما الأكاديمي الشاب اشترط سيارة تأخذه وتعيده ولم أكن أملك من أمرها شيئًا!

جاءني الراحل الفاضل مرات حاضرًا تصوير حلقات عن الإسلام واللغة وضرورة عودة حضارتنا وسط “تكالب” رخيص من زملاء من المفترض أنهم إعلاميون على الرد عليه وإثبات أنه منتمٍ، فيما كان موضة وظاهرة مشهورة في تلك الأيام إعلاميًا من محاربة الجماعة الحاكمة، فكان يقول في أسى ممزوج بابتسام وحزم معًا: إنني من المسلمين يسرني ما يسرهم ويسوؤني ما يسوؤهم، ولو أن الأمر إليَّ لما بادرت لما بادروا إليه أولاء (في إشارة خفية لعام الحكم المعروف) ثم يرفض أن يزيد.

وبينما كان يسير معي عقب التصوير كان يقول في لهجة أبوية حنونة: بني، إنك تقوم بدور رائع هنا فلا تفتر أو تيأس، نحتاج كل همة للخروج من عنق الزجاجة الحالي.

في إحدى الحلقات كان يتحدث عن القراءة وفضلها في حياة الأمة بما يناسب القناة المفترض أنها متخصصة في مثل هذه الضروريات، فيما كان الزملاء يخطفونها لأغراض في نفوسهم تخص الخصومة السياسية، وكان المذيع متحاملًا، فبينما الرجل منهمكًا في شرح فكرة أذكر أنها تخص شرح الحيوات والعوالم الأخرى التي يعرفها القراء، تدخل الزميل، وكانت الحلقة على الهواء ليقول للدكتور الراحل الفاضل: ماذا تقرأ “حضرتك” الآن على سبيل المثال لكي تكون قدوة عملية للناس؟!

فأفحمه، رحمه الله، لما عدد له 6 كتب يقرؤها بين عربية وإنجليزية!

ولما رويتُ له، رحمه الله، ما ألاقي من صعوبات إدارية تساوي تخلي رفاق الدرب تمامًا لما جاء ما يظنونه أوان عزة ونصرة لهم، فقال وكأنه حضر الموقف من قبل: إنني لست مع توليهم الأمر الآن لما يجر من مظالم طالت حتى بعضهم، لكنني ضد أن تعلن ما يحدث لك فتشهر بهم وتدني راية نحسب أننا نحاول بها طاعة أوامر الله، أو لعلنا نفعل.

كانت كلماته تعمل داخل النفس لكنه أحسن التعبير عنها، رحمه الله، وأكد أن الأمر يجب أن يكون “عهدًا” بيننا، فلما رأى تأثري قال: لئن تساهم في إعلاء راية تخص وتمس الإسلام أحب إليك -يا بني- من حمر النعم!

وبعد الانقلاب مضى خارج المبنى الحكومي العتيق مستاء فقال: أجاد الحاكم الحقيقي للبلاد اليوم التمثيل، فقد كان نجله يدرس لدينا دراسة عليا في جامعة الأزهر بعد الثورة وسلاحه ظاهر في أعلى بنطاله؛ فلما سألت عن السبب قيل لي: إن أباه رخص له السلاح لئلا يسير معه حرس.

وفيما كان ينتظر مواصلة تمضي به في ليل القاهرة ودعني وضيفًا آخر قائلًا في حماس: كنتُ أعارض الإخوان وهم في الحكم من أسفل السلم حتى الرئيس ثم أنام مطمئنًا في السرير، والآن لا آمن على نفسي إن لم أتملق العسكريين الحكام!

رحم الله الراحل الجميل الإيمان بالله ورسوله الواسع الهمة الرائع النفس د. محمد محمد أبوليلة وألحقنا به على خير وهوّن علينا جميعًا ما نلاقي.

Exit mobile version