لماذا ندافع عن فلسطين؟

كم من الترهات والأكاذيب التي تلقي بها الآلة الإعلامية الصهيونية التي ترددها “الببغاوات المتصهينة” اليوم على مسمع من الجماهير المسلمة، مستفزة بذلك مشاعرهم، ومنتهكة لحرمات المقدسات، ومُزوِّرة للتاريخ، ومُـحرِّفة للحقائق الشرعية، فرأيت من الواجب تتبع هذه الشبهات، والرد عليها ومناقشتها بروح علمية ودراسات موضوعية رزينة، أخاطب بها بالدرجة الأولى الأمة المسلمة، ثم كل حُرّ عاقل شريف مناصر للقضايا العادلة التي لا تشوبها شائبة من الحق والحقيقة، متأسياً في ذلك بمن سبق من أهل العلم والفكر الذين تركوا لنا تراثاً قيماً في هذا الشأن.

وأجد نفسي أمام أسباب كثيرة تحملنا وتدفعنا بقوة إلى التمسك بقضية فلسطين والقدس والعمل الدؤوب في سبيل تحرير هذه الأرض المباركة، ولكن أقتصر على أهمها وأكثرها وضوحاً وجلاء، التي لا تزال تتعرض للتزييف والتحريف والتلاعب.

القدس كمكة والمدينة

ندافع عن فلسطين لأن هذه الأرض اختارها الله واصطفاها لتكون محل وموضع المسجد الأقصى، “فرحاب القدس الشريف مثل رحاب مكة والمدينة، فكل ما هو واقع برحاب الأقصى كأنه واقع برحاب المسجد الحرام ومسجد المدينة”، ولا يتحقق تحرير هذا المسجد المبارك إلا بتحرير أرض فلسطين، فقضية فلسطين مرتبطة بالمسجد الأقصى ارتباط الروح بالجسد.

ومعلوم أن الله عز وجل أشار إلى بيت المقدس بمحل وجوده وموضع بنائه وهو الأرض التي يكثر فيها التين والزيتون في قوله عز وجل : {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 1 – 3]، قال ابن كثير في التفسير: “هَذِهِ مَحَالٌّ ثَلَاثَةٌ، بَعَثَ اللَّهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا مِنْ أُولِي الْعَزْمِ أَصْحَابِ الشَّرَائِعِ الْكِبَارِ، فَالْأَوَّلُ: مَحَلَّةُ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ فِيهَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ. وَالثَّانِي: طُورُ سِينِينَ، وَهُوَ طُورُ سَيْنَاءَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ. وَالثَّالِثُ: مَكَّةُ، وَهُوَ الْبَلَدُ الْأَمِينُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ فِيهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم”

فلا عودة للأقصى إلينا كاملاً غير منقوص بكل آياته ومعالمه ومساحاته ومرافقه وأراضيه بدون فلسطين، ولا فلسطين بدون الأقصى، فقد رأينا في بلادنا الجزائر كيف سعى المحتل الفرنسي أول ما سعى إلى الاعتداء على المساجد وخاصة الكبرى فحولها إلى كنائس وثكنات عسكرية، وعلى رأس هذه المساجد مسجد “كتشاوة” العثماني الذي تحرر من الصليب وعاد إلى المسلمين بعد تحرير الأرض ونيل الاستقلال، وخطب فيه أول جمعة الإمام المجاهد الكبير رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله.

قال الله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، فالمسجد وكل ما حوله هو أمانة في أعناقنا لا تبرأ ذمتنا إلا بتحرير الأرض المباركة كلها، ومما يزيد البرهان قوة ووضوحاً أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في هذا المسجد، وصلاته صلى الله عليه وسلم هي الإعلان العالمي الجلي أن أرض فلسطين عادت إلى التوحيد، وتحررت من قتلة الأنبياء والمرسلين.

قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء والمعراج: “أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ..”.

مسرى النبي ووصل الحلقات

إن “الحلْقة” التي ربط فيها النبي صلى الله عليه وسلم “البراق” هي الحلقة التي ربط فيها كل المسلمون صلتهم الشرعية بمسرى نبيهم عبر التاريخ؛ لتصبح سلسلة ذهبية عالية الإسناد مرفوعة إلى سيد العباد، لا ينبغي أن نقطع حلقاتها ونُفَرّط في امتدادها،

إن “حلْقة البراق” بهذا المسجد المبارك هي “الحلْقة” التي اغتصبها منا الصهاينة، فهل من مشمر لإعادتها إلى أهلها وأصحابها، ووصلها بالحلقات الأخرى.

وذكر الله عز وجل أن أظلم الظالمين من تعدى على بيوت الله رب العالمين وتوعده الله بالخزي والعذاب العظيم فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114]

فيا أمة الإسلام، هذا الموقف ينبغي أن يكون مع جميع المساجد، فكيف بمسجد خصّه الله عز وجل بالذكر في كتابه، وفضّله على جميع المساجد وجعله صِنْواً للمسجدين المباركين في فضل الصلاة فيه وشدّ الرحال إليه، بل يزيد عن المسجدين الشريفين بفضائل متعددة وخصائص كثيرة، تـُجلي مكانته وتُظهر منزلته في ديننا وشريعتنا وعقيدتنا ومن أراد أن يقف على هذه الفضائل فعليه بتلك المصنفات والدراسات التي تُعد بالمئات قديماً وحديثاً حول “بيت المقدس.

الصمت لا يليق بنا

أمة الإسلام، أيليق بنا أن نصمت عن هذه الاعتداءات السافرة الظالمة على “مسجدنا” ونقبل بالهوان والصمت والمذلة في تدنيس “مقدساتنا”، أم ينبغي أن ننتفض كالأمواج الهادرة والعواصف المدمرة حماية “لبيت الله” ودفاعاً عن “حرمات الله”؟

أمة الإسلام، إن الاعتداء على “مسجدنا” هو اعتداء على ديننا وانتهاك لحرمة عقيدتنا، فهل يليق بنا أن نخذل الدين، ونستمرئ الذل والهوان والصهاينة ومن حالفهم، يعتدون على رمز الدين وهو “المسجد” أمام أعيننا وأنظارنا؟

أيليق بنا، يا أمة الإسلام، أن نعطي الدنيّة للصهاينة المحتلين وهم يعبثون بحرمات الله، ويهوِّدون المسجد، ويخططون لاقتلاعه وطمسه، واستبدال الهيكل المزعوم به، ونحن أحياء نزرق؟

فوالذي نفسي بيده، لو لم تحملنا الغيرة الدينية وتدفعنا الأوامر الربانية للانتصار لحرمة المسجد الأقصى فمن يحملنا؟ ومن يدفعنا لحماية أقصانا ومسرى نبينا؟

 

 

 

 

 

__________________________________________________________________

(*) عضو جمعية العلماء الجزائريين المسلمين، رئيس لجنة إغاثة فلسطين.

Exit mobile version