في رمضان.. صعود الأعمال ونزول البركات

أنا:

يقول الله عز وجل: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر: 10)، من قراءة وتسبيح وتحميد وتهليل وكل كلام حسن طيب يرفع إلى الله ويعرض عليه ويثني الله على صاحبه بين الملأ الأعلى، والعمل الصالح من أعمال القلوب وأعمال الجوارح يرفعه الله تعالى إليه أيضاً، وقيل: والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، فإذا لم يكن له عمل صالح لم يرفع له قول إلى الله تعالى، فهذه الأعمال التي ترفع إلى الله ويرفع الله صاحبها ويعزه (تفسير السعدي)، قال ابن المقفع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر.

رمضان موسم الأعمال الصالحة التي تصعد لله من صوم وصلة للأرحام وأعمال القلوب من رأفة بالفقراء ورحمة بالمساكين

في رمضان –يا زوجتي- يكثر صعود أعمال الصالحين وكلامهم الطيب، وسط جو مفعم بالإيمان يصعد توحيدهم، وتهليلهم وتكبيرهم وتعظيمهم الله في صلواتهم وقيامهم، كذا ذكر الله بالتسبيح وقراءة القرآن الكريم في الخلوات والصلوات بالليل والنهار.

ورمضان موسم الأعمال الصالحة التي تصعد لله من صوم، وإفطار الصائمين، وصلة الأرحام والصدقات، وأعمال القلوب من رأفة بالفقراء، ورحمة بالمساكين، وخشوع في الصلاة، واحتساب في الصيام؛ صبراً، وإخلاصاً.

ويستمر رفع القول والعمل في الطاعة طوال العام، ففي الترمذي وصححه الألباني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم»، وذكر ابن رجب في «لطائف المعارف»: «أنه كان بعض التابعين يبكي إلى امرأته يوم الخميس وتبكي إليه، ويقول: اليوم تُعرض أعمالنا على الله عز وجل».

فكما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض عمله وهو صائم، فإن في رمضان فرصة عظيمة لذلك، أن تُعرض أعمالنا ونحن صائمون، متلبسون بالطاعة، مصبوغون بألوانها، ومنغمسون في حلاوتها.

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات وقال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، ولكن يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل».

وفي ليلة القدر يكون الشأن العظيم من البركة والرحمة والخير والسلام، يقول ابن كثير: «يكثر نزول الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيماً له»، جعلها الله محلاً لنزول القرآن (الكلم الطيب) ولتنزل رحماته على عباده، وهي ليلة التقدير حيث يقدر الله فيها للخلق ما يشاء، وهي ليلة قبول العمل الصالح الذي يكون فيها ذا قدر، فهو مضاعف ومقبول.

في ليلة القدر يكون الشأن العظيم من البركة والرحمة والخير والسلام وهي ليلة التقدير وقبول العمل الصالح

لاحظت الفارق بين الصعود والنزول، وكلاهما إن كانا بأمر الله فهما خير، صعود للعزة ونزول للبركة، وحين تدبرت في ذلك استشعرتُ مع نزول الملائكة وحضورها مجالس العبادة وساعات الذكر أنها تشهد أعمال المؤمنين التي تزيد وتكثر في أواخر رمضان؛ بعد أن صعد منهم خلال الشهر كلمهم الطيب وعملهم الصالح، ليبشرهم بالخير والبركة والسلام، وكأن الأعمال في نهايته صعدت مع الملائكة تشريفاً وتقديراً بعد أن شاهدوا وشهدوا عليها، وكأن العابدين قربوا من رتبة الملائكة بدوام الطاعة وترك المعصية، في قلوب ملؤها السلام في ليلة السلام، وفي قول الله عز وجل: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) (فاطر: 10) قبل قوله بصعود العمل، فالمراد بالعزة: الشرف والمنعة والاستعلاء، والمعنى كما في «تفسير الوسيط»: «من كان من الناس يريد العزة التي لا ذلة معها فليطع الله وليعتمد عليه وحده، فإن لله تعالى العزة كلها في الدنيا والآخرة، وليس لغيره منها شيء».

لذا قال ابن عاشور: «والتقدير، من كان يريد العزة فليستجب إلى دعوة الإسلام ففيها العزة لأن العزة كلها لله تعالى، فأما العزة التي يتشبثون بها (من غير الله) فهي كخيط العنكبوت لأنها واهية بالية».

 

 

هي:

إن الناظر –يا زوجي- إلى شهر رمضان وإلى امتنان الله تعالى به على عباده فإنه يدرك عظيم الفضل ببلوغه، وعلو الدرجة بصيامه، ووصول أهل الصوم بتلك الطاعات العظيمة إلى منزلة عالية منحهم الله إياها، من الرحمة والمغفرة والعتق من النار، بل وارتفاعهم وصعودهم إلى أعلى الدرجات التي بُشروا بها في قوله تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً) (النساء: 69)، أما في الدنيا فقد صقلت نفوسهم وطهرت قلوبهم وصارت التقوى شعارهم، فاطمأنت قلوبهم بذكر الله، فجنوا أطيب الثمرات وإن لم يشعر بها مَن حولهم! وما سكينة القلب ورضا النفس وراحة البال وانشغاله بما يرفعه ويعزه عند الله إلا أثر من آثار هذه الثمرة الطيبة التي جنوها بالصيام والقيام والذكر وتلاوة القرآن، وسائر أعمال الخيرات في شهر البركات.

إن مَن عاش حقيقة الصوم فسيكون له من الكلم الطيب ما يصعد إلى الله ومن العمل الصالح ما يُرفع

والصوم كما قال ابن القيم في «زاد المعاد»: «هو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئاً، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم».

إن مَن عاش حقيقة الصوم فسيكون له من الكلم الطيب ما يصعد إلى الله، ومن العمل الصالح ما يُرفع، فتكون أقوال الصائم طيبة وأفعاله صالحة، وإن أطيب الكلمات شهادة التوحيد، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء) (إبراهيم: 24)، قال ابن عباس: «الكلمة الطيبة لا إله إلا الله، والشجرة الطيبة المؤمن» (تفسير البغوي)، وذكر ابن كثير قول قتادة: إن ذلك عبارة عن المؤمن، وقوله الطيب، وعمله الصالح، وإن المؤمن كالشجرة من النخل، لا يزال يرفع له عمل صالح في كل حين ووقت، وصباح ومساء، وكلمة التوحيد قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «ما قال عبد لا إله إلا الله قط مخلصاً، إلا فتحت له أبواب السماء، حتى تفضي إلى العرش، ما اجتنب الكبائر» (صحيح الترمذي).

وفي رمضان أنزِل أحسن الحديث، القرآن الكريم، وهو أفضل الذكر، كما أنه الكتاب الذي فيه العز الحقيقي والرفعة والشرف لمن تمسك به واتخذه دليلاً له ومنهجاً في حياته، قال تعالى: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (الأنبياء: 10)؛ أي: شرفكم وفخركم وارتفاعكم. (تفسير السعدي)، فتشرف جميع أيامه ولياليه بتلاوة آياته وتدبرها والقيام بها.

يطيب رمضان لنا كله حين نكظم غيظاً ونعفو ونقضي لمسلم حاجة ونطعم مسكيناً ونرحم يتيماً ونسعى على أرملة

وفي رمضان أيضاً يصعد إلى الله ذكر الصائمين الكثير له سبحانه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الذين يذكرون من جلال الله من تسبيحه، وتحميده، وتكبيره، وتهليله، يَتعاطَفنَ حول العرش، لهن دوي كدوي النحل، يُذكِّرْنَ بصاحبهن، ألا يحب أحدكم ألا يزال له عند الله شيء يُذَكِّرُ به؟» (رواه أحمد)، وجاء عن ابن مسعود قوله: «إن العبد المسلم إذا قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله قبض عليهن ملك فجعلهن تحت جناحه ثم يصعد بهن فلا يمر على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بهن وجه الرحمن تبارك ثم قرأ عبدالله: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه» (رواه الهيثمي).

أما ليلة القدر، فهي عظيمة القدر بما فيها من بركات ورحمات تزيد وتنزل مع نزول الملائكة، وفيها الدعاء الذي يصعد إلى الله فيستجيب له، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أدعو؟ قال: «تقولين: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» (صحيح ابن ماجة)، والدعاء يطيب بطيب المطعم ويُستجاب بطيب الطلب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم..» (صحيح الجامع).

ويطيب رمضان لنا كله؛ حين نكظم غيظاً، ونعفو عن إساءة، ونقضي لمسلم حاجة، تطيب أيامه حين نطعم مسكيناً، ونرحم يتيماً، ونسعى على أرملة، حين نبرّ والدينا، ونصل أرحامنا ونحسن لأهلينا وجيراننا، ونقول للناس حسناً، وتطيب لياليه حين نعمرها بالقيام لله قانتين، ونشغلها بذكره ذكراً كثيراً، فنقرأ القرآن وندعو الله عز وجل تضرعاً وخفية.

لذا؛ فإن علينا أن نزن أقوالنا بميزان التقوى حتى تطيب فتصعد، ونزن أعمالنا بميزان الصلاح فنخلص فيها ونتبع القرآن والسُّنة، حتى تزكو فتُرفع.

Exit mobile version