المشي فوق الجماجم.. صورة من قريب لجرائم البعث العفلقي مع الإنسان

لقد حرصت “المجتمع” على تعرية الأنظمة المستبدة في كل أنحاء العالم، وهذا تقرير تكشف فيه “المجتمع” جرائم حزب البعث العفلقي في عراق صدام، وهذا تقرير عن بعض هذه الجرائم نشرته “المجتمع” في العدد (1552) بتاريخ 24/ 5/ 2003.  

آه.. تتفجر مكبوتة كالزلزال.. يتردد صداها فتفقد المرء الحراك، وهو متسمر أمام مشاهد الرعب المفجعة. مقبرة وراء مقبرة تنشق عن رفات وعظام.. جماجم تساقط شعرها.. وأجساد اهترأ لحمها، واختلط بالتراب بعد أن تشبع بدمها المسفوك. هياكل ممددة تنبئ عن بقايا إنسان.. جماجم مرصوصة تنتظر من يستدل على صاحبها.. عظام تكسرت وبقايا أجساد امتلأت بها أكياس البلاستيك التي تم رصها في صفوف على شفير مقبرة، ما فتئت تخرج من بطنها المتخم المزيد ثم المزيد.

ابن ينتحب وهو يتفحص الجماجم، محاولاً العثور فيها على ملمح من ملامح صورة والده التي يطبق عليها بين كفيه.. يتفحص في الصورة فتزداد دموعه غزارة ثم ينظر إلى الجماجم فيزداد لوعة.. انقطع أمله في العثور على شيء من أبيه.. ولد الفتى حين ولد.. ولما شب عن الطوق سأل عن أبيه فروت له أمه وجدته قصة قابيل مع هابيل، وأخبروه أنه هناك تحت الأرض في المقبرة.. دفنه صدام حياً قبل ثلاثة عشر عاماً.

وتلك أم جاثية على ركبتيها.. كسا الحزن وجهها بعد أن قطع نياط قلبها، وهي تصك صدرها بكفها بين الجماجم والعظام.. تنتحب أمام بقايا ابنها الذي دلت عليه «هويته» المدفونة معه يوم دفنه صدام.

وتلك جمجمة سيدة تساقط شعرها، وبدت على عظمها بقع داكنة، فقد حرقوها وعذبوها قبل أن يدسوها في التراب بجوار طفلتها الرضيعة..

المشهد الحزين يزداد قتامة بفواجعه، بين النحيب ولملمة بقايا الإنسان في جنازات جماعية، بينما أنامل الأطفال والنساء الضعيفة تسابق الجرافات أملاً في العثور على.. ابن.. أخ.. زوج.. شقيق.. صديق، اختطفه الزبانية قبل سنوات ولم يدر أحد عنه شيئاً حتى اليوم.. ومن كان يجرؤ أن يسأل أو ينبس ببنت شفة؟!

لقد صنعت منظومة البعث المتوحشة بقيادة صدام حسين وزبانيته عالماً آخر تحت الأرض وأعدته إعداداً جيداً وأغدقت على تحصينه الملايين.. عالم متعدد الطوابق لم يعرف أحد عنه شيئاً حتى فوجئنا بمن يحفرون عن ذويهم.. لقد سمعوا أصواتهم.. فإذا بالأرض تنشق عن سجون متعددة الطوابق، ومعتقلات في سراديب.. ثم مقابر جماعية.. عالم متنوع صنع خصيصاً لعباد الله الذين أينعت رؤوسهم فحان قطافها.. كما قال يوماً الحجاج.

من رضي أن يعيش فوق الأرض ولسان حاله لا يكف عن القول: آمنت بالبعث رباً لا شريك له فله الأمان.. ومن تضجر فعليه أن يفر بجلده إلى أرض الله الواسعة.. وإن تأخر عن الفرار أو تردد أو آثر البقاء، فوجئ بنفسه بين شباك النظام الأسود وخطاطيفه، ليستقر في مكانه الجديد تحت الأرض، إما جثة في مقبرة جماعية أو يجرفه تيار المجاري لتتحلل جثته، أو في أحد طوابق السجون التي لا يعرف «الدبان الأزرق» لها طريقاً.. إنها ظلمات بعضها فوق بعض ومن فوقها الطرقات والعمارات.. وكأن شيئاً لم يكن..

ويظل الناس يمشون فوق الجماجم الميتة والحية وهم لا يدرون عنها شيئاً حتى أنبأت الأرض بما في بطنها وانشقت عن الأهوال التي تشاهدها.. ولا ندري ماذا تخرج لنا غداً؟!

حتى الآن كانت مقبرة مدينة الحلة في الجنوب العراقي هي أكبر المقابر، فقد حوت 15 ألف ضحية من ضحايا نظام البعث، دفنت ومعها أدلة الجريمة التي ارتكبها النظام الوحشي: حروق في جمجمة الرأس بدت واضحة، وحبال أو أسلاك تم تكبيل الضحايا بها قبل إعدامهم رمياً بالرصاص.. ومنهم من دفنوا أحياء بعد تقييدهم.

بضعة آلاف من الجثث تم إخراجها.. البعض منها تعرف عليه ذووه من الملامح بينما دلت «الهوية» على عظام من دفنوا أحياء بملابسهم ولم يتبق منهم إلا بعض الرفات، وهوية وطن فقد هويته.

لكن غالبية الضحايا لم يتم إخراجهم بعد، فالعدد كبير وقطع العظام اختلطت بالتراب والطين والأهالي: النساء والأطفال والآباء لايزالون مصرين على مواصلة النبش بأظفارهم أملاً في العثور على أي أثر لذويهم.

وعلى بعد عشرين كيلومتراً من مدينة النجف استخدم الأهالي المكلومون بعض الآلات اليدوية البدائية للنبش في مقبرة جماعية أخرى تم اكتشافها بينما سبق آخرون تلك الآلات بأظفارهم.

في يوم واحد تم إخراج أكثر من عشرين جثة عثر معها على بطاقات هوية مغلفة بالبلاستيك، موجودة في بقايا ملابسهم البالية، وبدت المعاصم مكبلة بحبال صفراء وبين الجثث تناثرت الأمشاط والعملات المعدنية وساعات اليد، إضافة إلى مظروفات فارغة لأعيرة نارية.

لم تكن تلك هي المقبرة الوحيدة في المنطقة، فقد اكتشف المنقبون سلسلة عنقودية من المقابر، كلما وصلوا إلى واحدة وظنوا أنهم انتهوا اكتشفوا فجأة مقبرة جديدة.. في منطقة «خان الربيع»، اشتبه عاملون من الصليب الأحمر في قباب ترابية تملأ المزرعة، وبالحفر تحت إحدى القباب وجدت الجثث.. مجموعات متتالية كعقد متناثر الحبات، سيكون يوم القيامة إن شاء الله عقداً من جمرات جهنم يطوق أعناق الطغاة.

وفي موقع آخر عثر على مجموعة أخرى بينها جمجمة بمنديل أحمر مربوط حول فتحتي العينين.

«ويقول مزارعون في المنطقة إنهم كانوا يشاهدون قوات الأمن العراقية تأتي برجال معصوبي الأعين وأياديهم مكبلة خلف ظهورهم في سيارات وتطلق النار على مؤخرة رؤوسهم ليسقطوا ويتدحرجوا على التراب، وأضافوا أنهم كانوا خائفين من الكلام عندما كانت قوات صدام تسيطر على المنطقة» .. ويقول المزارع خالد عيدان: «منذ سنوات كنا نزرع هنا، حفرنا وعثرنا على جثث.. من يفسر لنا ذلك»؟ (رويترز 4/5/2003).

قتل بالديناميت

نخرج من بين الجثث.. نخرج من تحت الأرض قليلاً.. لنشاهد فاصلاً آخر من فصول المجزرة التي لا تمت للآدمية بصلة.

نشاهد فنوناً وألواناً من التعذيب والقتل.. نشاهد قوماً يطربون لصرخات الضحايا واستغاثات المظلومين، ويسعدون بالولوغ في دمائهم وهم يشاهدونها متفجرة كالأنهار.. لا.. ليس ذلك فحسب، وإنما تفنن وإبداع لم تتوصل إليه الشياطين بعد في اقتناص الضحايا وقتلهم.

ولعلنا شاهدنا الصور التي بثها تلفاز وكالة «رويترز» للأنباء يوم الخميس (15/ 5/ 2003)، عن واحدة من أبشع صور الإعدام للضحايا «بالديناميت»، وهو أسلوب لم نسمع أن نظاماً استخدمه للقضاء على الخصوم.. يؤتى بالضحية مكبلاً من الخلف، ثم يثبت بالديناميت فوق صدره جهة القلب ومناطق أخرى من الجسد، وتوصل بأسلاك ليتم التفجير من خلال صاعق عن بعد، فيتحول جسد الضحية وكلهم من الشباب إلى أشلاء متناثرة وسط تصفيق «النشامى»!! من زبانية النظام.. إنها أشبه بوليمة كبرى.. يأكل فيها البشر لحم البشر وهم ينتشون طرباً ومرحاً وتنتفخ أوداجهم تيهاً وعلواً.. هل هؤلاء بشر؟!

وليس الذئب يأكل لحم ذئب           ويأكل بعضنا بعضاً عيانا

الشرطة السرية

في بغداد بدت إحدى المناطق أنيقة ببناياتها الست، التي أحاط بها العشب الأخضر المنسق بعناية، تداعبه قطرات المياه المنبعثة من البخاخات.. المشهد يوحي بمنظر جمالي يسر الناظرين، لكن باطن الأرض هناك كان ينبئ عن لوحة قاتمة أشد سواداً من القطران.. وتلك طبيعة الأنظمة الفاشية المجرمة في كل عصر ومكان، فتحت تلك العمارات يوجد «سجن الشرطة السرية»، الذي يعد بحق مصنعاً متقدماً في إبداع فنون التعذيب والقتل.

في تحقيق ميداني لوكالة الصحافة الفرنسية من داخل السجن، نعلم أن هناك نفقاً سرياً يوصل من المقر الرئيس للشرطة السرية إلى سجن الإنزال.. كابلات الكهرباء معراة في قاعات التحقيق، لتدل على طرق التعذيب المستخدمة في هذه المباني المرعبة.

كان يتم إيواء ما يصل إلى ثمانية أشخاص في كل زنزانة.. على جدران بعض الزنازين كتابات تدل على الزمن الذي قضاه زوارها.

ولا يمثل السجن إلا جزءاً صغيراً من المجمع الكبير الذي كان يؤوي الشرطة السرية العراقية والذي يوصف بأنه مركز القيادة والتحكم في البلاد كلها ويطلق عليه «مديرية الأمن العامة».

عبد العز أحد الفارين من النظام، وأحد شهود العيان يقول: هذا المكان كان يشهد اقتلاع أظافر المساجين قبل وضع أسلاك الكهرباء على الجسم ليسري فيها التيار، بينما يتم ربط آخرين ورؤوسهم منكسة إلى أسفل قبل إعدامهم، لكن البعض كان يلقى حتفه بالبطيء في أحواض من الحمض! (“وكالة الأنباء الفرنسية” 13/ 4/ 2003م).

بعد الاحتلال الأمريكي لم يكن هناك سجناء وسرت إشاعات متواترة عن سراديب وأنفاق سرية تحت الأرض، وقال الباحثون عن ذويهم المفقودين منذ عشر سنوات: لقد سمعنا أصواتاً تحت الأرض، وبدؤوا في تعقب هذه الأصوات حفراً بأياديهم التي أدمتها الأرض الصلبة دون جدوى، وقيل بعدها إن الذي سمع ليس بأصوات، وإنما صدى صوت!

ماذا بعد؟! جدع الآذان وقطع الألسن

قطع الرؤوس جزاً.. وقطع الألسن التي تنبس بسوء عن النظام.. وقطع الآذان التي تسمع هذا السوء! في عام 1991م كان زبانية البعث ينتشرون كعادتهم بين الناس.. يجبرون الشباب على التوقيع على مستندات تدينهم بمحاولة الهروب من التجنيد أو من البلاد، ولم لا ينشط أولئك الزبانية وقد رصد النظام مكافأة عن كل «رأس» يعترف بخط يده بالجريمة؟! لم يعرف المساكين أن ثمن هذا الاعتراف: الاعتقال، ثم قطع الآذان ثم إلى سجـن «إصلاح الناصرية».

صباح إسماعيل «30 سنة، حدث له ذلك بسبب هروبه من التجنيد. يقول: عندما قادوني إلى المستشفى استقبلني مسلح(!) ظل يضربني بمؤخرة السلاح حتى كسرت ساقي.. وهكذا يفعلون مع الجميع حتى لا يهربوا من المعتقل، ثم وقعت تحت البنج وأفقت على صرخات مـن حـولي من الشباب من شدة الآلام.. لقد جدعوا آذاننا جميعاً.. عقاباً وتأديباً.. ثم ألقـونا في المعتقل.

ماذا عن الهاربين إلى الخارج؟

أقام جهاز المخابرات وحدة «اغتيالات» خاصة لأعداء النظام! تقول وثائقها التي عثر على بعضها على أرضية فيلا جهاز المخابرات بعد الاحتلال: إن هذه الوحدة نفذت 66 عملية ناجحة في الفترة ما بين 1998م حتى عام 2000م.

إحدى الوثائق التي حصلت عليها صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» ترجح أن تكون لدى الإدارة أقسام ميكانيكية وإلكترونية وكيماوية بالإضافة إلى قسم «ضبط الجودة».

ويشير أحد الردود الذي كُتب عليه «سري» إلى ضرورة أن يستفيد مشروع «الغافيكي» «مشروع اغتيالات» من التكنولوجيا الحديثة، والأسلحة غير التقليدية ويقترح:

– توفير معدات تكنولوجية متطورة وبصفة خاصة التفجير عن بعد.

– استخدام أساليب جديدة وغير تقليدية مثل الغازات السامة المموهة التي قد تكون في شكل عطر أو توضع داخل كتاب أو أي من الأغراض الشخصية.

– التوصل إلى تكنولوجيا تسمح بوضع أجهزة بث في سيارة الهدف لتفجيرها عن بعد أثناء مرورها قرب المتفجرات.

ثم نحلق بأعيننا إلى أعلى.. هناك في شمال العراق حيث المقابر الجماعية لأكثر من 15 ألف كردي مسلم حرقهم صدام بالأسلحة الكيماوية وأزال من الوجود خمسة آلاف قرية وشيد محلها معسكرات مفتوحة أشبه بالسجون.. ونردد قوله الله سبحانه وتعالى: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ {8} بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) (التكوير).

الملف متخم.. والسجل أشد سواداً مما نتصور.. تقشعر له الأبدان وتشيب لهوله رؤوس الولدان.. ولو تفرغ له مؤرخ محايد لملأ المجلدات.

منظومة البعث الإعلامية

تمكنت طبقة البعث الحاكمة على امتداد ثلاثين عاماً من حكمها من صناعة منظومة إعلامية جهنمية في الداخل والخارج غطت على كل الجرائم ووقفت بالمرصاد، كالكلاب الهائجة لكل من يحاول أن يمس «النظام» بكلمة نقد.

في الداخل نجحت الآلة الإعلامية المحلية بكل صنوفها في تنصيب صدام.. «إلهاً»!! يُعبد من دون الله.. مجرد التفكير في كراهيته تكون عاقبته الفناء، وإذا قرأ الزبانية في عيني واحد من الناس أي إشارات معارضة.. يكون مصيره الجحيم.

لقد طاردهم صدام أينما كانوا بصوره وتماثيله وأحاديثه وأخباره.

وعلى الصعيد الخارجي نجحت الآلة الإعلامية الجهنمية في قطع الطريق على كل من يحاول المساس بصدام.. نجحت هذه الآلة في الربط الوثيق بين شخص «الزعيم» ومصير الوطن.. فمن يحاول المساس بالزعيم فهو خائن للوطن ومن ينتقد الزعيم أو يحاول الكشف عن بعض جرائمه فهو عميل أمريكي أو ـ من قبل ـ عميل إيراني.. حاولوا جهدهم للمزاوجة بين الزعيم والوطن وجعلهما وجهين لعملة واحدة!

ونجحوا للأسف بعباراتهم الخادعة، وشعاراتهم البراقة في أن يسحروا أعين الناس ويشربوهم أكذوبة أن الرجل صار مؤمناً.. فهو عبد الله المؤمن.. والمهيب الركن.. وحامي البوابة الشرقية، وصاحب أم المعارك.. وأم الحواسم، والذي سيجعل من بغداد مقبرة للأمريكان! وأسهم صدام نفسه في حبك وإخراج التمثيلية.. تمثيلية الإيمان بالله.. وقام ببراعة فائقة بدور الرجل المؤمن بربه المتوكل عليه.

شاهدناه في أيام الأخيرة وهو يعد العدة لقهر الأمريكان! وهو يجلس منتفخ الأوداج بسيجاره الشهير، يردد آيات القرآن الكريم.. ثم يستمع إلى قواده قائداً قائداً.. وقد حرص الجميع على افتتاح الكلام واختتامه بآيات من الذكر الحكيم.. وهو يهز رأسه.. بصوت مملوء بالخشوع «صدق الله العظيم». انطلت التمثيلية على الكثيرين.. وروجت لها جوقة الإعلام عبر وسائل الإعلام.. وتاهت كل الأصوات التي حاولت المساس به.

من يعارضه من الداخل خائن للوطن.. ومن يعارضه من الخارج إما تابع للأمريكان.. أو تابع لإيران (خلال الحرب العراقية الإيرانية).. أو تابع لأي جهة مكروهة!

تلك قصة «البعث» العفلقي مع الإنسان.. سامه سوء العذاب، ونكل به تحت كل ما يحلو ويخطر على البال من شعارات الوطنية والقومية والاستقلال.. ثم سلمه للاحتلال الأمريكي ليكمل معه المسيرة، وفر البعث هارباً واختفى صدام واعتقد أن أحداً لن يصل إليه لأنه سيكون في حوزة سادته الذين قدم لهم أجلّ الخدمات.. فقد خرَّب المنطقة كلها لحسابهم.

طريق الجماجم طويل

وطريق الجماجم لا يقف عند بغداد وحدها، وإنما يبدأ من هناك في رحلة طويلة تطوف عواصم دول عربية عدة، يصل إلى دمشق حيث الرئة الأخرى لمنظومة البعث.. وحيث نسمع الشعارات نفسها بالمنظومة الإعلامية الجهنمية نفسها، ـ وإن كانت قد كُنست في الأيام الأخيرة ـ وتحت الأرض مجزرة ومقصلة في أكثر من أربعة وعشرين سجناً ومعتقلاً بدمشق وحدها، وتسعة عشر سجناً في مدينة حلب.. وغيرها، يقبع خلف قضبانها عشرات الآلاف لا يعلم إلا الله متى ينكشف الغطاء وتنشق الأرض كاشفة ما يجري لهم.

طريق الجماجم طويل، يمتد عبر عواصم وعواصم ويصل إلى طرابلس، حيث الصورة نفسها، صورة الزعيم، وصورة الأهوال في سجونه.. ويمتد إلى تونس «الخضراء» حيث الصورة هي هي.. باطن الأرض تحول إلى جحيم للآلاف من المعارضين، حيث أصيب العديد بالأمراض المزمنة وبالجنون، وقضى آخرون تحت آلات الموت.. ليدفنوا في هدوء ورضا من الأهل دون ضجيج.. ولماذا لا يرضون بتلك النعمة.. فغيرهم يقتل في أماكن أخرى ولا يعرف ذووه عنه شيئاً حتى اليوم؟!

المشاهد واحدة.. والنتائج واحدة لتلك النظريات والفلسفات التي صاحبت ثورات كبرى خلبت ألباب الناس في البداية بشعاراتها، ثم أورثتهم الذل والفقر والتخلف.

ثورة ناصر.. وثورة البعث.. بشعارات الحرب على الاستعمار وإلقاء إسرائيل ومن وراءها في البحر.. ثم جعل بغداد مقبرة لمغول العصر.. شعارات القوة العسكرية والنهضة الشاملة.. وقبل ذلك ثورة بلشفية شيوعية دغدغت عواطف الجماهير وألهبت مشاعرهم وأرضعت بقية الثورات الشبيهة في بلادنا أرضعتها الدجل والإفك، ثم النتيجة سقوط كل أوراق التوت في لحظة «خريفية» عاصفة لتكشف عن الحقيقة المرة الماثلة أمام أعيننا.

Exit mobile version