وقفات تربوية مع الباحثين (3)

هذه مجموعة من الوقفات التربوية، من واقع خبرة عملية ونظرية تزيد على ربع قرن من الزمان، نقدمها للباحثين الشباب لكي يتم التواصل بين أجيال الباحثين في الأمة، كي تصوب بوصلة الجيل الجديد في طريق البحث، وتشحذ فيه الهمم، ويتجنب فيه هدر الوقت والجهد، ويتم البناء على ما سبق في هذا الطريق.

وهذه هي الحلقة الثالثة من هذه الوقفات.

   ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [١٠١: يونس]

   ما الذي يحتاجه الباحث الجاد كي يؤسس منهجًا معرفيًا متكاملًا يتجاوز به انحرافات الوضعية والصوفية معًا (باعتبارهما المؤثران على العقل المسلم في تنظيم أفكاره رغم تناقضهما)؟ الإجابة: أن الذي يحتاجه الباحث الجاد هو تحقيق التحرر الداخلي من كل معيقات التفكير الراشد، والتحرر الخارجي من أجل تحقيق حركة الاستقراء الجاد والمثمر.. وللأسف وقع كثير من الباحثين بين الاستبدادين الداخلي (هيمنة الأيديولوجية المذهبية والتراثية المغرقة) والاستبداد الخارجي (بمواجهة المعرفة بالقوة والتفريغ والتشويه).. وهو الأمر الذي يجب أن ينتبه إليه الباحث الجاد في طريق سيره لتحرير الأمة كلها.

الجماعة العلمية

    إن أكثر ما يؤلم الباحث الجاد هو غياب “الجماعة العلمية” الجادة، التي تشهد على إنتاجه الفكري، شهادة بالحق، فتظهر ما له، وما عليه فيه، فتكون أداة للتواصل النقدي الفعال بما يفيد التخصص العلمي وإنتاج المعرفة الجادة..

     أعتقد أن غياب الجماعات العلمية أو ندرتها – بصورة أقرب للحقيقة- يرجع إلى عدة أسباب منها:

      إن افتقاد الانتماء إلى جماعة علمية مترابطة ومتماسكة اجتماعيًا، هو أكثر ما ينبغي أن يقلق الباحث في طريقه البحثي والعلمي، لأن الجهود الفردية المتناثرة مهما كانت قوتها فإن ثمارها ضعيفة، واللقاءات العامة المتخصصة منها وغير المتخصصة لا نجني من ورائها الثمار المرجوة.. إن عصر التكتلات العلمية والحضارية، لا يفلح معه الجهد الفردي وإن كان خارقًا لذلك ننصح الباحث أن ينتمي إلى أقرب جماعة علمية لتخصصك أو لميدان علوم الإنسان والمجتمع بصفة عامة أيًا كان تخصصها الدقيق.

الفكرة كامنة

الفكرة كامنة، أحيا الله من أحياها.. لتكون نورًا يضيء ظلام النفس.. ويحي موات الأمة. وأنت أيها الباحث حامل هذه الفكرة ومحييها، وحامل مشعل النور في الأمة.

﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾

      تَقَدَم هنا الأمر بـ”القيام” [أَنْ تَقُومُوا] عن “التفكر”، والفائدة التي نقدمها للباحث هنا أنه: ليس للأفكار “نور” إلا إذا توفر الاستعداد لتجسيدها، على الأقل من أصحابها الذين يقولون بها.. فيكونون أنفسهم “النور الأول” للفكرة الذي يبدد الظلام شيئًا فشيئًا، أو أن الأفكار الصالحة هي الأفكار العاملة التي تتمتع في ذاتها بالقدرة على التجسيد والفعالية.. ولعل هذا ما سبقت به علوم الإنسان في الغرب، أي بالدرس الاستقرائي المكثف للأفكار والمقولات الفلسفية.. وهو ما تخلفنا عنه في واقع تلك العلوم.

التمذهب الفكري

    أكثر ما يضر الباحث في طريق تكوينه الفكري الأوليِّ، إنه بقدر ما ينفتح الباحث على الأدلة المخالفة (لتحيزاته المسبقة) بقدر ما تكون جودة مخرجاته البحثية، وهذا لا يعارض ضرورة وجود هوية للباحث ينطلق منها، ويعمل في ضوئها شريطة ألا تكون عاملًا للانغلاق والتمذهب.

واقعية القرآن الكريم

     إن دور القرآن الكريم في حركة الواقع، يتجاوز اكتشاف المبادئ المؤسسة للتنظيم الاجتماعي، إلى بناء نسق إصلاحي لحركة الإنسان التاريخية، وحصيلتها في التفكير والسلوك والوجدان، ومن ثم لم يبتعد القرآن عن الإنسان كما في الفلسفات اليونانية، بل ارتبط به وتعلق باحتياجاته وإشكالاته الحقيقية.. ومن ثم فالهداية العقلية والوجدانية والاجتماعية للإنسان تتعلق بالقرآن حال الوعي به وبإمكاناته الإصلاحية. إن ما يعانيه واقع مجتمعاتنا إنما يأتي من ضعف الاعتقاد في القيمة الإصلاحية للقرآن الكريم، وعدم تمكينه في فلسفة بناء القوانين واللوائح وبرامج التنشئة والتعليم. وهذا هو دور الباحث الجاد في ميدان علوم الإنسان والمجتمع، أي أن يقوم بهذا الاكتشاف من أجل تنزيله على واقع الأمة، وتهيئتها لذلك التلقي من جديد.

من وظائف الباحث الأمة

مهمة الباحث الأمة هي العمل على تجديد الإيمان الإسلامي في مجال التفكير الاجتماعي والإنساني..بما يمتلك هذا الإيمان من مقومات هداية الواقع وإصلاحه واستكشاف أمراضه.

الباحث ودرجة الاجتهاد

إن حصول الباحث على درجة الدكتوراة، تعني وصوله إلى رتبة الاجتهاد في ميدان تخصصه، – وهناك طرق أخرى بالفعل- فهل تأهل الباحث إلى هذه الممارسة العملية والعلمية والفكرية؟ وهل حافظ على مكانه ومكانته في ضوء هذه الرتبة؟ وهل أعطى من النتاج الفكري والخدمة المجتمعية بما تستحق هذه المكانة العالية؟ ذات المسؤولية الفردية والمجتمعية والحضارية.

حطم أصنام: أفكار الاعتماد الدولي.. والمواصفات العالمية

   إصرار الباحثين – في مجالات العلوم الانسانية والاجتماعية- على وضع مصطلحات في عناوين بحوثهم تتضمن معيارية (المواصفات العالمية: الأوروبية والأمريكية) ليس له دلالة مطلقا بصلاحية البحث أو صلاحه..إن الاندماج في هذه المواصفات على مدى قرن من الزمان: أهدر كثيرًا من الجهد والوقت، وحول اتجاهات البحث العلمي في العلوم الاجتماعية والتربوية إلى غير ذات وجهته وقبلته التي ينبغي أن يتوجه لها..إن المشرف الصادق: عليه أن يوجه طلابه من الباحثين إلى دراسة تلك التجارب التي نجحت بعيدًا عن (النموذج الغربي)، وأن يشير إليه بدراسة تجربتنا التعليمية والتربوية التي حاولت أن تلعق القذى الغربي وما استطاعت ففشلت..إن مشكلاتنا المحلية والحضارية، لا يمكنها أن تُحل في ضوء معايير الآخر..لنقرأ التجربة اليابانية، لنستقي المنهج إن كنا فشلنا في أن نقرأ نموذجنا، وسيرتنا الحضارية، وسنن الصعود والهبوط.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) أستاذ أصول التربية المساعد- جامعة دمياط- مصر.

Exit mobile version