الإيمان وحسن الخلق صنوان

شاء الله تعالى أن تكون العلاقة بين الإيمان وحسن الخلق علاقة طردية، فكلما زادت قوة الإيمان زادت قوة الخلق، ولا يخفى على أحد أن الإيمان قوة عاصمة عن الدنايا، دافعة إلى المكرمات ومن ثم فإن الله عندما يدعو عباده إلى خير أو ينفرهم من شر، يجعل ذلك مقتضى الإيمان المستقر في قلوبهم، وما أكثر نداء الله تعالى في القرآن الكريم: بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا…) ثم يذكر – بعدُ – ما يُكلفهم به: (اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119) – (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) (البقرة: 153) – (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة:172) – (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (البقرة: 208) – (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا) آل عمران: 200) – (لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ) (آل عمران: 118) – (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ) (النساء: 43) – (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (النساء: 59)، وهكذا نرى ربط القرآن الكريم دائماً بين نداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) والأعمال التي يجب أن يقوم بها أو يتجنبها المؤمن، والمتتبع للأعمال التي كلفنا الله بها في القرآن الكريم يجدها كلها تعمل على تقوية خلق المؤمن، وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإيمان القوى يلد الخلق القوى حتما، وأن انهيار الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان، أو فقدانه، بحسب تفاقم الشر أو تفاهته.. فالرجل الصفيق الوجه، المعوج السلوك الذي يقترف الرذائل غير آبه لأحد، يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: “الحياء والإيمان قرناء جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر” حديث صحيح أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء، والرجل الذي يؤذي جيرانه ويرميهم بالسوء، يحكم الإسلام عليه حكما قاسيا، فيقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه” متفق عليه، ونجد الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يعلم أتباعه الإعراض عن اللغو، ومجانبة الثرثرة والهذر فيقول: ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت” (رواه مسلم).

وهكذا يمضي في غرس الفضائل وتعهدها حتى تؤتى ثمارها، معتمدا على صدق الإيمان وكماله، غير أن بعض المنتسبين إلى الإسلام، قد يستسهلون أداء العبادات المطلوبة ويظهرون في المجتمع العام بالحرص على إقامتها وهم في الوقت نفسه يرتكبون أعمالا يأباها الخلق الكريم والإيمان الحق!!

إن الرسول صلى الله عليه وسلم توعد هؤلاء الخالطين، وحذر أمته منهم، ذلك أن التقليد في أشكال العبادات يستطيعه من لم يُشرب رُوحها، أو يرتفع لمستواها، بل ربما قدر الطفل على محاكاة أفعال الصلاة وترديد كلماتها، وربما تمكن الممثل من إظهار الخضوع وتصنع أهم المناسك، لكن هذا وذاك لا يغنيان شيئا عن سلامة اليقين، ونبالة المقصد، والحكم على مقدار الفضل وروعة السلوك يرجع إلى مسار لا يخطئ، وهو الخلق العالي، ولا أدل على ذلك من هذا الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال: “قال رجل يا رسول الله إن فلانة فذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها قال هي في النار، قال يا رسول الله فإن فلانة فذكر من قلة صيامها وصلاتها وأنها تصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي بلسانها جيرانها قال هي في الجنة” أخرجه أحمد (9675)، ففي هذه الإجابة تقدير لقيمة الخلق العالي، وفيها كذلك تنويه بأن الصدقة عبادة اجتماعية، يتعدى نفعها إلى الغير، ولذلك لم يفترض التقلل منها.  

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتف بإجابة على سؤال عارض، في الإبانة عن ارتباط الخلق بالإيمان الحق، وارتباطه بالعبادة الصحيحة، وجعله أساس الصلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة.

إن أمر الخلق أهم من ذلك، ولا بد من إرشاد متصل، ونصائح متتابعة ليرسخ في الأفئدة والأفكار، إن الإيمان والصلاح والأخلاق، عناصر متلازمة متماسكة، لا يستطيع أحد تمزيق عراها، لقد سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه يوما: “أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار ” رواه مسلم، ذلك هو المفلس : إنه كتاجر يملك في محله بضائع بالآلاف، وعليه ديون بالملايين، كيف يُعد هذا المسكين غنيا؟ والمتدين الذي يباشر بعض العبادات، ويبقى بعدها بادي الشر، كالح الوجه، قريب العدوان كيف يحسب امرءاً تقياً؟

وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار” صححه الألباني، وقال صلى الله عليه وسلم: “يا أبا ذرٍّ، ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر، وأثقل في الميزان من غيرهما؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: عليك بحسن الخلق، وطول الصمت، فو الذي نفس محمد بيده، ما عمل الخلائق بمثلهما” رواه الطبراني في الأوسط (7/ 140)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم” رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وفي حديث عمرو بن عبسة أنَّه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الإيمان أفضل؟ قال: “حسن الخلق” رواه أحمد (4/ 385)  

هكذا ربط الرسول صلى الله عليه وسلم بين قوة الخلق وقوة الإيمان، أما إذا نمت الرذائل في النفس، وفشا ضررها، وتفاقم خطرها، فالمرء ينسلخ من دينه كما ينسلخ العريان من ثيابه، وأصبح ادعاؤه للإيمان زورا، فما قيمة دين بلا خلق؟!! وما معنى الإفساد مع الانتساب لله تعالى؟!

وتقريرا لهذه المبادئ الواضحة في صلة الإيمان بالخلق القويم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ثلاثٌ من كنَّ فيه فهو منافقٌ وإنْ صام وصلَّى وزعم أنه مسلمٌ، إذا حدَّث كذبَ وإذا وعد أخلفَ وإذا ائتمِنَ خانَ “. أخرجه أحمد، وقال في رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان”، وفي رواية “وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم” (أخرجه مسلم).

وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر” رواه البخاري، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنا زعيم بيت في ربض الجنة، لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه” (صححه الألباني في صحيح الجامع).

Exit mobile version