محمد عمارة.. قلعة الفكر الإسلامي

في مثل هذه الأيام العام الماضي رحل عن عالمنا د. محمد عمارة (4 رجب 1441هـ/ 28 فبراير 2020م)، وبرحيله يفقد العالم الإسلامي والفكر الإسلامي وعلماء الإسلام والمسلمون عامة قمةً من قمم الفكر الإسلامي والاجتهاد، وقامةً من قامات بيان حقائق الإسلام ودفع أباطيل خصومه، وقيمةً عظيمة من قيم التاريخ الإسلامي والأخلاق الإسلامية والحضارة الإسلامية.

مثَّل عمارة قلعة حصينة لقضايا الإسلام المعاصرة، وحائط صد أمام تيارات التغريب والعلمنة والمركسة والإلحاد، فقد كان له الفضل، مع ثلة مباركة، في كسر شوكة العلمانية، وسقوط الغلو العلماني، وانحسار تيار العلمانية في مصر.

لقد أثمرت جهود محمد عمارة مشروعاً فكرياً مترامي الأطراف تمثل في أكثر من 300 كتاب؛ فضلاً عن آلاف المقالات والأبحاث والمداخل الموسوعية في الموسوعات والدوريات والمجلات، حتى استطاع أن يقوم بما لا تقوم به مؤسسات ولا مراكز أبحاث.

وقد سئل هو: ما أهم ملامح المشروع الفكري الذي تتحدث عنه باستمرار؟ فكانت إجابته: «أن نبرز حقيقة الإسلام ومعالمه: العقيدة والشريعة والمنظومة الفكرية، والإحياء الإسلامي للمجتمع، والهداية الإسلامية للإنسان، وعالمية الإسلام، وأيضًا فقه الواقع الذي نعيش فيه وإنزال هذه الأحكام الإسلامية على الواقع الذي نعيش فيه، والتصدي للحرب المعلنة على الإسلام، باختصار: ما هو إسلامنا؟ ما هو الواقع الذي نحن بحاجة إلى فقهه وإلى أسلمته؟ وما التحديات التي تواجه هذا الإسلام؟ هذه هي معالم المشروع الفكري».

وفيما يلي نحاول رصد المعالم العشرة لتميز المشروع الفكري لعمارة:

الجمع بين الفكر الإسلامي والغربي منحه تمايزاً وتميزاً ليظهر حسنَ الإسلام وامتيازَه على غيره

أولاً: الجمع بين دراسة الفكر الإسلامي والفكر الغربي:

في دراسته واهتمامه جمع عمارة بين دراسة الفكر الإسلامي ودراسة الفكر الغربي؛ حيث درس الفكر الإسلامي من خلال تخصصه في الفلسفة الإسلامية والفرق الإسلامية والتيارات الإسلامية، وكذلك من دراسته في الأزهر، كما اهتم بالفكر الغربي بحكم اشتغاله بالفكر عموماً، وطالع مشروعاتهم ومخططاتهم بحكم اهتمامه بالإسلام والتحديات التي تواجهه من الغرب والشرق، وأصدر في ذلك عدداً من الكتب تدل بعناوينها فقط على هذا الجمع والمقارنة، منها: «الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديد الأمريكاني»، «مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية»، «في فقه المواجهة بين الغرب والإسلام»..

وهذا الجمع بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي منح عمارة تمايزاً وتميزاً في طرحه، واستطاع من خلاله أن يبين ميزات وامتيازات الفكر الإسلامي على الفكر الغربي، بل يجلب من آراء وشهادات الغربيين ما يعد انتصاراً للإسلام، ومن ذلك مثلاً أنه جمع في كتابه «الإسلام في عيون غربية» اثنتين وثلاثين شهادة لغربيين غير مسلمين ينصفون فيها الإسلام، وقال دوقلة المنبجي من قصيدته «اليتيمة»:

ضِدانِ لما اسـتُجْمِعا حَسُنا                       والضِّدُّ يُظهِرُ حُسْــنَهُ الضِّدُّ

وقد ظهر ذلك الحسنُ جلياً في القضايا والأفكار التي قارن فيها بين رؤية الفكر الإسلامي ورؤية الفكر الغربي في كل القضايا التي يتناولها تُظهر المقارنةُ فيها حسنَ الإسلام وامتيازَه وتميزه على الفكر الغربي.

استطاع تقديم قراءة راشدة للنقل مرتبطة بالأصل وموصولة بالعصر وملبية لحاجات الواقع وهموم الأمة

ثانياً: الجمع بين علوم النقل وعلوم العقل:

من معالم تميز المشروع الفكري للعلامة د. عمارة أنه جمع بين معرفة علوم النقل، ومعرفة علوم العقل، وقد توفر له ذلك من دراسته للعلوم الشرعية في الأزهر ودار العلوم فحاز علوم النقل، ومن تخصصه في الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي بدراسة الفرق الإسلامية فحاز علوم العقل.

ولقد كتب د. عمارة عن علوم القرآن وعلوم السُّنة، وعلوم الفقه والاجتهاد بما مثل رؤية له في النظر إلى هذه العلوم تستحق الفحص والدراسة، كما أن الشبهات التي أوردها وقدم ردوداً شافية عليها يتجلى فيها العلم بالنقل وفهمه وفق رؤية «عقلانية مؤمنة»، كما كان يسميها، ووفق منهجية «وسطية جامعة»، كما كان يصفها.

كذلك كتب في الفرق الإسلامية وحاز رسالتيه للماجستير والدكتوراه عن المعتزلة وفكرها ورؤيتها في الحرية والسياسة والخلافة؛ فضلاً عن تشبعه في قسم الفلسفة بدار العلوم من علوم العقل، وهو الذي كتب كتاب «مقام العقل في الإسلام»، وتحدث عن «العقلانية المؤمنة»، و»الوسطية الجامعة» كما سبقت الإشارة، وقرأ الشرع بالعقل وحكم العقل بالشرع، في مجمل ما كتب، وقد تختلف معه في بعض القراءات والاجتهادات لكنك لا تنكر جسارته وجرأته في نقاش القضايا وممارسة الاجتهاد، وكيف كان سيفاً مصلتاً على التيارات المعادية للإسلام والذب عن حماه.

وقد تجلت آثار هذا العلم العقلي «الراشد» عنده في تمكنه من تقديم قراءة راشدة للنقل، مرتبطة بالأصل وموصولة بالعصر وملبية لحاجات الواقع وهموم الأمة وقضايا الإسلام، واستطاع أن يدحض القراءات المختلفة للإسلام؛ ماركسية وعلمانية وشيوعية ورأسمالية، وغربية، وأن يضعها تحت مجهر الإسلام والعقلنة المؤمنة، ويفندها تفنيداً تاماً لا يرفع عنها المجهر إلا بعد أن يتركها كأنها أعجاز نخل خاوية.

جمع إلى المعرفة بالإسلام وعلومه الاطلاع على الأديان الأخرى ومقارنة كثير من القضايا بين رؤية كل منهما

ثالثاً: الجمع بين دراسة الإسلام والأديان الأخرى:

من المعالم التي ميزت المشروع الفكري للدكتور عمارة أنه جمع إلى المعرفة بالإسلام وعلومه أصولاً وفروعاً، منقولاً ومعقولاً، ممارساً للاجتهاد غير مخلد للتقليد ولا التعصب لأحد، جمع إلى ذلك الاطلاع الواسع على «الأديان» الأخرى، ومقارنة كثير من القضايا التي يتناولها بين رؤية الإسلام لها ورؤية الأديان الأخرى، وبخاصة اليهودية والنصرانية.

وقد صنف د. عمارة عدداً من الكتب تبرز هذا الجمع بين الثقافتين، ومن ذلك: «علمانية المدفع والإنجيل»، «مأزق المسيحية والعلمانية في أوروبا»، «القدس بين اليهودية والإسلام».

وتَظهر فوائد هذا الجمع حين يتناول قضايا فكرية وتشريعية؛ فهو حين يتحدث عن المرأة أو النفس البشرية أو قيمة الإنسان أو الزواج والطلاق أو الحرية في ظل عبودية الله، كل هذه القضايا وغيرها حين يتناولها يذكر رؤية الإسلام الفريدة والجامعة لها، والرؤى الأخرى في الأديان الأخرى.

وإذا تحدث عن «الإسلام والآخر» –كما هو أحد عناوين كتبه– يبين عظمة الإسلام في قبوله بالتعايش مع الآخر وعيش الآخر في ظله، مع بيانه لضيق الأديان والمذاهب الأخرى ذرعاً بالآخر؛ رفضاً وعنصرية وإبعاداً، بل يصل الأمر إلى القتل والسحق والإقصاء.

وهكذا يجلي عمارة عظمة الإسلام حين يقارنه بالأديان والمذاهب والرسالات والقوانين الأخرى، وهو ما يمثل إحدى ركائز الدعوة لدين الإسلام في الشرق والغرب، قديماً وحديثاً.

رابعاً: الجمع بين الدراسة في الأزهر ودار العلوم:

ومن المعالم التي ميزت مشروع عمارة الفكري، ومنحته أبعاداً جديدة متجددة، وأعطته آفاقاً أوسع في التعامل الواقعي والحيوي مع الواقع وقضايا الأمة أنه درَسَ في الأزهر الشريف بما يُدرَّس فيه من متون شرعية، ودراسة دار العلوم الأكثر حيوية وقدرة على تكوين الدارس فيها على الاجتهاد والتجديد والواقعية والفاعلية، وهذه ميزة يدركها كل من درس في المعهدين العريقين أو حتى درس في دار العلوم وحدها.

كما أن الدراسة في دار العلوم خاصةً تعطي العقل مزيداً من الانفتاح، وتجعله مشرفاً على ثقافات متنوعة؛ شرعية وتاريخية وفلسفية ولغوية ونحوية وبلاغية وأدبية ونقدية، يضاف لهذا أن د. عمارة كانت له اطلاعات واسعة على الأدب واللغة في وقت مبكر من حياته –كما ستأتي الإشارة– مما منحه ما يمنحه التمكنُ من اللغة وآدابها، وهو ما انعكس على القضايا التي يتناولها في الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين المثالية والواقعية.

وقد أشار د. عمارة في بعض لقاءاته التلفزيونية –مع د. جاسم المطوع- إلى مدى تأثره بدراسته في دار العلوم، وانعكاس هذه الدراسة على تفاعله مع الواقع وقدراته على الاجتهاد والتجديد، كما ظهر في كثير من عنوانات كتبه عن التجديد والاجتهاد، وكذلك مقالاته وأحاديثه الفضائية والإذاعية.

خبرته العميقة بالتيارات المعاصرة ساعدته في هدم أفكارها ودمغ مفكريها وكشف عوارهم

خامساً: الجمع بين دراسة المذاهب الكلامية القديمة والتيارات الفكرية المعاصرة:

استطاع د. عمارة أن يدرس المذاهب الكلامية القديمة بحكم دراسته في قسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بالقاهرة، واطلاعه الواسع على الفلسفة القديمة والمشائية والفكر الإسلامي المعاصر، وتخصصه في الماجستير والدكتوراه في المعتزلة عن الحرية عندهم، والحكم والسياسة في فكرهم، وجمع مع هذا دراسة التيارات الفكرية والمذاهب المعاصرة، بل عاش معهم وانتمى لهم بعضاً من الزمان، وقد ساعده على هذا الانتماء –كما يحكي هو– حبه للحرية وتعلقه بقضية العدالة الاجتماعية والمقاومة والثورة، ولم يكن انتماؤه لها عن عقيدة أو أيديولوجيا تخالف الإسلام، ثم حين تعمق في دراسة الإسلام وجد فيه هذا وأكثر بصورة أرقى وأعدل وأعمق وأشمل مما ترتب عليه تركه لهذه التيارات.

وقد كتب بعض كتبه تشير إلى هذا الجمع، وإلى وعيه الدقيق بمذاهب الفكر المعاصر، ومن ذلك: «العلمانية»، «سقوط الغلو العلماني»، «نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام»، «التفسير الماركسي للإسلام»، «مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية»، وغير ذلك من كتب.

والميزة هنا أن وعيه بالفرق القديمة وتياراتها في الفكر الإسلامي وتراثه العقلي العظيم منحه القدرة على تخريج المذاهب والتيارات الفكرية المعاصرة عليها، ومعرفة مداخلها ومساربها ودهاليزها وشبهاتها وأفكارها ومنطلقاتها ومرتكزاتها؛ فضلاً عن خبرته العميقة ومعرفته الدقيقة بالتيارات المعاصرة مثل الاشتراكية والماركسية والعلمانية من خلال دراسته لها وانتمائه لبعضها وقتاً من الزمان، وهذا ما جعل عمارة فارساً في المناظرة والحوار، وهو ما شهدته الساحة له وعرفته عنه في مسيرته الفكرية والدعوية والحضارية.

بدأ مشواره بالوطنيات والقوميات لكنه وجد هذا كله وزيادة بالإسلام الذي قاده لاستيعابه وصَهْره

سادساً: الجمع بين دراسة التيارات الإسلامية والتيارات غير الإسلامية:

ومن المجالات التي جمع د. عمارة بينها مجال دراسة التيارات الإسلامية المعاصرة بجماعاتها وتياراتها التي صرح في أكثر من مقام أنه أحبها وأحبته ونقدها ونقدته وقدم لها النصح فانتصحت أو لم تنتصح، وبين دراسة التيارات غير الإسلامية من ماركسية وشيوعية وعلمانية وإلحادية وغيرها.

كل هذه التيارات درسها د. عمارة وفحصها ووقف على مستنداتها وأدلتها ومواقفها وطبيعة مسلكها، وله كتب عن الصحوة الإسلامية، منها: «الصحوة الإسلامية في عيون غربية»، و»الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري»، و»الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية»، و»الحركات الإسلامية رؤية نقدية».

أما عن حياته مع التيارات غير الإسلامية التي انتهت معايشته لها إلى «التيارات الإسلامية» و»الفكرة الإسلامية»، فيقول: «دخلت اليسار لأجل القضية الاجتماعية، ولكن بالقراءة والتأمل في السجن أدركت أن حل المشكلة الاجتماعية يكمن في الإسلام، في نظرية الاستخلاف وليس في الصراع الطبقي والماركسية».

ولهذا كتب د. عمارة كتباً في مواجهة مشاريع التغريب والغلو التغريبي والغلو العلماني من الرد على نصر أبو زيد (ت 2010م)، وحسن حنفي، وسعيد العشماوي، وغيرهم، ومما ألفه في ذلك: «التفسير الماركسي للإسلام»، و»فكر التنوير بين العلمانيين والإسلاميين»، و»الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين».

وكذلك له مؤلفات عن التسلف والسلفية، وهكذا نستطيع القول: إن محمد عمارة استطاع أن يجمع بشكل كامل وواعٍ –حقيقة لا ادعاء– بين دراسة هذه التيارات فكراً وممارسة، تنظيراً ومعايشة، حبّاً وانتقاداً حتى غدا هو بذاته رمزاً من رموز الحركات والصحوات في عصره، وهذا مكَّنه من التأثير فيها وخلع على فكره سمة العملية والفاعلية والحركية.

جمع بين العلم والعمل حيث شارك بالمظاهرات ضد الإنجليز والصهاينة وطالب بإصلاح الأزهر ومناهجه

سابعاً: الجمع بين العلم والعمل الميداني:

أما هذه فميزة قلما تتوفر للكثيرين؛ فهي مناط الخيرية، ومعقد الربانية، ومحل التأثير الكبير الفاعل في العقول والقلوب والواقع على السواء.

فعلم بلا عمل لا قيمة له، وعمل بلا علم لا صحة فيه، وعلم وعمل بلا جهاد وصبر وتضحيات لا يقيم القدوة ولا التأثير الحقيقي في واقع الحياة.

فأما العلم فهو صاحب هذا المشروع الكبير مترامي الأطراف الذي لم يترك فيه جانباً من جوانب الإسلام عقيدة وشريعة، خلقاً وحضارة، معاملات وآداباً، بيان حقائق ودفع شبهات، حتى غدا أكبر مشروع فكري معاصر تجاوز الثلاثمائة كتاب بما حقق له التأثير الكبير والواسع.

وأما العمل الميداني فهو الذي شارك في المظاهرات ضد الإنجليز وضد الصهاينة وفي مطالباتهم بإصلاح الأزهر ومناهجه، كما قصده كثير من طلاب العلم من أنحاء الدنيا ينهلون من علمه ويتربون على كتبه وفكره، وكان جواداً سخياً مع كل من قصده.

إن جمع العالم بين العلم والعمل يقيمه قدوة بين العلماء والناس، ويكسبه المصداقية والموثوقية، ويجعل من حياته منارة للعلماء وطلبة العلم، ويجعل فكره وعلمه حياً بين الناس يقبلون عليه ويمتحون منه وينتفعون به، ويجعله كالشجرة المباركة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

ثامناً: الجمع بين الفكر والأدب والتصوف:

ومن الأمور التي جمعها د. عمارة وانعقدت له وأعطت لمشروعه الفكري ميزة كبيرة مكنته من الانتشار والتأثير والقدرة على التعبير والدخول على القلوب والعقول بغير استئذان، فهو ذلك الأسلوب الأدبي الأخاذ، واللغة الباهرة التي تتطاوع له، والمفردات المترادفة التي تنقاد له، فيعبر بها عما يشاء من أفكار، ويعرض من خلالها ما يريد من رؤى وآراء، ويقرر بها معاركه الفكرية التي خاضها وانتصر فيها بلا استثناء.

وقد جمعت هذه اللغة الأدبية إلى جمالها صلابة الفكرة وقوتها، وجلال الأسلوب وجماله، ونداوة المعاني وطلاوتها بما جعل ما يكتبه عمارة وجبة متكاملة للعقل والروح والوجدان جميعاً.

أما الجانب الفكري فحدّث ولا حرج، فصاحبنا أول وصف وأكبر وصف وأصدق وصف عليه هو وصف «المفكر»، وقد كان هذا الوصف هو الأثير لديه، وما أنتجه من كتب وبحوث ومقالات يفوز وصف «المفكر» منها بنصيب الأسد.

وأما الأدب فيقرر هو مبيناً فضل ثقافته الأدبية على التعبير المؤثر والمعبر عن أفكاره: «لقد توجهتُ إلى عالَم القراءة الحرة، وأعطيتُها أغلب أوقاتي، حتى إني جعلتُ الثقافةَ العامةَ مُعيناً على اختصار الساعات التي أعطيها للكتب الدراسية المقررة.. فكانت الثقافة الأدبية والقراءات الحرة هي التي تُنَمي وتُدَبِّج وتُحَسِّن الإجابات في الامتحانات».

وأما التصوف فقد كانت لعمارة تجربة صوفية تحدث عنها في أكثر من موضع من كتبه، وهي التي جعلته عمارة يقول كلمة تمتع العقل وتشبع النفس عن رسولنا المصطفى إذ يقول عن علاقته به: «إنني عاشق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، متبتل في محراب سُنته وسيرته، متعلق بصفاته وشمائله، مفتون بسجاياه، واقف على أبواب عظمته، مبهور بالتحولات التي أنجزها في مسيرة الدين والدنيا، غيورٌ على دينه ودعوته، مقاتل دون حماه».

هكذا جمع عالمنا المفكر بين العمل الفكري والتشبع من الأدب شعراً ونثراً أسعفه في التعبير عما يشاء من فكر وعلم، وغلف هذا كله وحفَّه بصوفية محببة راشدة لم تجعله ينزوي في زاوية أو ينحرف في ممارسة، وإنما كان هذا التصوف حافزاً له على مقارعة الظلم ومواجهة المستبدين.

تاسعاً: الجمع بين السلفية والتجديد:

من الجوانب المتكاملة التي جمع بينها د. محمد عمارة جانب أو مجال «السلفية» ومجال «التجديد»، وهذا لا يجتمع إلا عند الراسخين الواعين بأهمية الجمع بينهما والصدور عنهما، فالسلفية لا تكون إلا تجديدية، والتجديد لا يكون إلا سلفياً.

وفي عدد ليس قليلاً من كتبه ومقالاته كان يتحدث عن الهوية وحفظها والاستقلال الحضاري والخصوصية الحضارية لا سيما في ظل العولمة التي تريد أن تصب العالم الإسلامي في القالب الغربي، فمن كتبه التي كتبها في ذلك: «الإبداع الفكري والخصوصية الحضارية»، «مخاطر العولمة على الهوية الثقافية»، «مقالات الغلو الديني واللاديني»، «الإصلاح الديني في القرن العشرين»، «مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية»، وغير ذلك.

ويفرق د. عمارة في مشروعه الفكري الذي جعل الوسطية من ركائزه «بين «السلفية في الدين» (التي تعود بعقائده وعباداته وقيمه إلى منابعها الأولى الجوهرية والنقية)، وبين «سلفية الجمود والتقليد» (التي تحلم بالهجرة من الحاضر إلى الماضي التي تخاصم العقل والاستنارة والتقدم والنهوض)، ويقرر أنه لا تعارض بين السلفية الحقة والتجديد الصحيح.

ومن كتبه عن التجديد أو التي تناول طرفاً من قضاياه في ضوء التجديد: «التقدم والإصلاح بالتنوير الغربي أم بالتجديد الإسلامي»، «مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية» (رسائل الإصلاح 10)، «الشيخ شلتوت إمام في الاجتهاد والتجديد» (رسائل الإصلاح 15)، «الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديد الأمريكاني».

إن الجمع بين السلفية والتجديد عند المفكر يعطيه الأصالة والقوة، والرصانة والقدرة، ويمنحه مزيداً من العمق الذي يمكنه من التأثير والمضي قدُماً لتثبيت مشروع الإسلام الحضاري الذي يبين الفكرة ويبلغ الدعوة ويقيم الحجة ويدحض الشبهة، وقد كان لعمارة من هذا النصيب الكبير إن لم يكن الأكبر في عصره.

عاشراً: الجمع بين الوطنية والعروبية والإسلامية والإنسانية:

جمع د. محمد عمارة هذه الدوائر في مشروعه الفكري، وإن بدأ في بداية مشواره ومشروعه بالوطنيات والقوميات والعروبيات، لكنه وجد هذا كله وزيادة في الإسلام الذي قاده إلى استيعاب هذا كله وصَهْره، وانتهى به إلى الإنسانية.

وقد ألف د. عمارة ضمن مشروعه الفكري العملاق كتباً عن هذه الدوائر الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية، وأحياناً يكتب عن القومية والوطنية، وأحياناً أخرى يبين ما في الإسلام من أبعاد إنسانية، ظهر هذا بجلاء في عدد ليس قليلاً من عنوانات كتبه، ومن ذلك: «الجامعة الإسلامية والفكرة القومية»، «الأقليات الدينية والقومية تنوع ووحدة أم تفتيت واختراق؟».. إلخ.

إن الجمع بين كل هذه الدوائر لا يقدر عليه إلا الإسلام، ولا يستطيع تجليته وبيانه وإظهاره بحقيقته وطبيعته غير المتعارضة ولا المتناقضة إلا «المفكر الإسلامي» في حين يرفضه المفكرون الوطنيون والقوميون.

وقد قدم د. عمارة في مشروعه الفكري هذه الدوائر كلها متسقة ومنسجمة ومتكاملة لا متعارضة ولا متناقضة مما خلع على مشروعه ميزة خاصة تتناسب مع هذا التنوع والتكامل والثراء.

Exit mobile version