“أصول الولاية” للإمام ابن باديس

نتناول في هذا الحلقة، النص الحضاري للعلامة عبدالحميد بن باديس[1] (1889-1940م) المعنون بـ” أصول الولاية”، وتتعلق بشروط الحكم في الإسلام، وأهم القيم التي ينبغي ممارستها لمن يتولى أمور المسلمين في أي زمان ومكان دون النظر إلى طبيعة النظام السياسي، أو شكله القائم.

تعليقٌ على النص:

من المجالات التي فيها منطقة فراغ واسعة، ما يتعلق بالولاية في الإسلام في المجال السياسي، وهذا الفراغ ملائم لتطور الحياة وتغيرها ومستجداتها، فترك الإسلام شكل النظام السياسي يختاره المسلمون بما يلائم ظروفهم وأحوالهم، ولم يفرض عليهم شكلًا أو قالبًا حديًا يقيد اجتهادهم وحركتهم الحضارية، ويمكن أن نعتبر أن أول ممارسة اجتهادية في هذه المنطقة ما كان في “حادثة السقيفة”[2]، والتي استدل فقهاء أهل السنة منها علي أنه لا يوجد “نص” إلهي من قبل -الله تعالي- أو النبي – صلي الله عليه وسلم – علي اختيار خليفة المسلمين، أو “الإمام” وإنما الأمر متروك “لاختيار” المسلمين، ومن ثم :فإن شكل “الحكم الإلهي” بمعني “القرون الوسطي”، غير معروف لدي المسلمين، أما رأي من قالوا: بـ”الحاكمية الإلهية” فيمكن أن يفهم منها أن الدولة الإسلامية يجب أن تقيم شرع الله، بينما الحكومة نفسها، حكومة بشرية ليس فيها “تفويض إلهي” أو “نيابة إلهية”، كما أن “الحاكمية الإلهية” المذكورة في القرآن تعني- أيضًا- توافر الأركان الأساسية للحكومة الإسلامية، وهي: الشورى، والعدل، والمساواة.

          اعتمد “ابن باديس” في تأطيره لهذا النص “أصول الولاية في الإسلام”، على نص حضاري تراثي للخليفة الثاني أبى بكر الصديق – رضي الله عنه- الذي اجتهد أيضًا في تأطير شروط الحكم الإسلامي ووضع إطار قِيَمي للعمل في مجاله. أما نص هذا الخطاب الذي قدمه الخليفة الثاني كوثيقة عمل بين الرئيس والمرؤوسين، أو الحاكم والمحكومين فكان كالتالي: [أيُّها النَّاس! قد وُلِّيتُ عليكم ولَستُ بِخَيْرِكُمْ، فإنْ رأيتموني على حَقٍّ فأعينُونِي، وإنْ رأيتموني على باطل فسدِّدُوني. أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإذا عَصيتُهُ فلا طاعةَ لِي عليكم. أَلاَ إِنَّ أقـوَاكم عندي الضعيف حتى آخـذَ الحقَّ له، وَأَضْعَفَكُمْ عندي القَّـوِي حتَّى آخـذَ الحقَّ مِنه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم]. ومنه استنبط ابن باديس ثلاثة عشر أصلًا قيميًا لشكل الحكم في الإسلام وطبيعة العلاقة الحاكمة بين أطراف هذا الحكم[3].

النص

أصول الولاية في الإسلام

الأصل الأول

 الأمة صاحبة الحق المطلق  في “اختيار الحاكم”

 لاَ حَقَّ لِأحد في ولاية أمرٍ منْ أمور الأُمَّةِ إلاَّ بتولية الأمَّةِ، فالأمَّة هي صاحبةُ الحقِّ والسلطة في الولاية والعزل، فلا يَتَولَّى أَحَدٌ أَمْرَهَا إِلاَّ بِرِضَاهَا، فَلاَ يُورَثُ شيءٌ من الولايات، ولاَ يُسْتَحَقُّ للاعتبار الشخصي، وهذا الأصل مأْخُوذٌ من قوله :«وُلِّيتُ عليكم» أي قد وَلَّانِي غيري وهو أنتم.

الأصل الثاني

 الكفاءة

الذي يَتَولَّى أمرًا من أمور الأمَّة هو أَكْفَؤُها فيه، لاَ خَيْرُهَا في سلوكه، فإذا كانَ شخْصَان اشتركا في الخيرية والكفاءة، وكان أحَدُهما أَرْجَحَ في الخيرية، والآخرُ أرجحَ في الكفاءة لذلك الأمر، قُدِّمَ الأرجحُ في الكفاءة على الأرجحِ في الخيرية، ولا شكَّ أنَّ الكفاءة تَختلف باختلاف الأمور والمواطن، فقد يكون الشخصُ أكفأ في أمرٍ وفي مواطنَ لاتّصافه بِما يُناسبُ ذلك الأمر، ويُفِيدُ في ذلك الموطن، وإنْ لَم يكن كذلك في غيره، فيستَحِقُّ التقديم فيه دون سواه، وعلى هذا الأصل ولَّى النّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عمرو بنَ العاص غَزاَةَ ذَاتِ السَّلاَسِلِ، وأَمَدَّهُ بأبي بكر وعُمَرَ وأبي عُبَيْدَة بن الْجَرَّاح فكانوا تَحْتَ وِلَايتِهِ، وكلُّهم خَيْرٌ منه، وعليهِ عقَدَ لواءَ أُسامَةَ بن زيد على جَيْشٍ فيه أبو بكر وعمرُ. وهذا الأصلُ مأخوذٌ من قوله: «ولَسْتُ بِخيركم».

الأصل الثالث

 الولاية ليست امتيازًا وإنما التفاضل بالتقوى

 لا يكون أَحَدٌ بمُجَردِ ولايته أَمْرًا من أمور الأمَّة خيْرًا مِن الأمة، وإِنَّمَا تُنَالُ الخيرية بالسلوك والأعمال، فأبو بكر، إذا كان خَيْرَهُمْ، فَلَيْسَ ذلك لِمجرَّد ولايته عليهم، بلْ ذلك لأعماله ومواقفه، وهذا الأصلُ مأْخُوذٌ أيضًا من قوله: “ولَستُ بِخَيْرِكم” حيث نَفَى الخير عند ثبوت الولاية.

الأصل الرابع

 حق المراقبة والعزل

 حَقُّ الأمَّة فِي مُراقبة أُولِي الأمرِ، لِأنَّها مَصدرُ سُلطتِهم، وصاحبةُ النظرِ فِي وِلَايتِهم وعزلِهم.

الأصل الخامس

 استقامة الوالي ومعاضدة الأمة

حقُّ الوالِي عَلى الأُمَّة فيما تَبذُلُه لَه مِن عَوْنٍ إذا رأت استقامَتَهُ، فيجِب عليها أنْ تَتَضامن مَعَه وتُؤَيِّدُهُ، إذ هي شريكة معه في المسؤولية. وهذا -كالَّذِي قبْلَه- مَأخُوذٌ من قوله: «إذا رأيتموني على حَقٍّ فأعِينُونِي».

الأصل السادس

 النصح والتوجيه

حَقُّ الوَالِي عَلى الأُمَّــةِ فِي نُصحِهِ وإرشــادِهِ، ودلالتِهِ عَلى الحقِّ، إذا ضَلَّ عَنه، وتَقْويِمِهِ على الطريـق إذا زاغَ فِي سلوكـــه، وهذا مَأْخُـــوذٌ مِنْ قوله: «وإذا رأيتموني على باطــل فَسَدِّدُونِي».

 الأصل السابع

 التعددية

حَقُّ الأُمَّةِ فِي مُنَاقشةِ أُولِي الأمر، وَمُحاسبتهم على أعمالهم، وحَملهم على ما تراه هي لا ما يَرَوْنَهُ هُمْ، فالكلمة الأخيرة لَها لا لَهم، وهذا كُلُّه مِنْ مقتضَى تَسْديدهم وَتقْوِيمِهم عندما تقتنِعُ بأَنَّهم على باطل، وَلَمْ يستطيعوا أنْ يُقْنعُوهَا أنَّهُم على حَقٍّ، وهذا مأخوذٌ -أيضا- مِنْ قوله: “وإنْ رأيتمُونِي على باطلٍ فَسَدِّدُونِي”.

الأصل الثامن

 وضوح خطة العمل “البيان”

على من تَوَلَّى أمْرًا مِن أمور الأمَّةِ أنْ يُبَيِّنَ لها الخطَّةَ التي يَسِيرُ عليها، ليكونوا عَلَى بصيرة، ويكون سائرا في تلك الخُطَّةِ عن رِضَى الأمة، إذْ لَيْسَ له أنْ يَسِير بِهم على ما يُرضِيه، وإِنَّمَا عليه أنْ يَسير بِهم فيما يُرضيهم، وهذا مَأْخُوذٌ من قوله: «أطيعونِي ما أطعتُ الله فيكم» فخُطَّتُه هي طاعة الله، وقد عَرَفُوا ما هي طاعة الله في الإسلام.

الأصل التاسع

 سيادة القانون

 لاَ تُحْكَمُ الأمَّةُ إلاَّ بالقانون الذي رَضِيَتهُ لنفسها، وعَرَفت فيه فائدتها، وما الولاة إلاَّ مُنَفِّذُون لِإرادتها، فهي تُطيع القانون لأنَّه قانُونُها، لاَ لِأَنَّ سُلطة أخرى لفرد أو لجماعة فَرَضَتْهُ عليها، كائنًا مَنْ كَانَ ذلك الفرد، وكائنةً مَنْ كانت تِلك الجماعة، فتشعرُ بأَنَّـهَا حُرَّةٌ في تصرُّفَاتِها، وأنَّها تُسَيّرُ نفسها بِنَفْسِهَا، وأنَّها ليسَتْ ملكًا لغيرها من الناس، لا الأفراد ولا الجماعة ولا الأمم، ويشعرُ هذا الشعورَ كُلُّ فردٍ من أفرادها، إذ هذه الحرية والسيادة حقٌّ طبيعي وشرعي لها، ولكلِّ فردٍ مِن أفرادها. وهذا الأصل مأخوذٌ مِن قوله : «أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإذا عَصيتُهُ فلا طاعةَ لِي عليكم» فهم لا يُطيعونه هو لذاته، وإنَّما يُطيعون الله باتباع الشرعِ الذي وضعَهُ لَهم ورضُوا به لِأنفسهم، وإنَّما هو مُكلَّف منهم بتنفيذِه عليه وعليهم، فلِهذا إذا عصى وخالف لَم تَبق له طاعة عليهم.

 الأصل العاشر

 المساواة

 الناسُ كلُّهم أمام القانون سواء لا فرقَ بين قويِّهم وضعيفهم، فَيُطَبَّقُ على القوي دونَ رهبةٍ لقوته، وعلى الضعيف دون رِقَّة لضَعفه.

الأصل الحادي عشر

 حفظ الحقوق

صونُ الحقوق؛ حقوقُ الأفرادِ وحقوقُ الجماعات، فلا يُضَيَّع حقُّ ضعيفٍ لضعفه، ولا يذهب قويٌّ بِحقِّ أحَدٍ لقوتِه عليه.

الأصل الثاني عشر

 العدالة الاجتماعية

 حِفظ التوازن بين طبقات الأمة عند صَون الحقوق، فَيُؤْخَذُ الحقُّ مِن القويِّ دونَ أن يُقسى عليه لقوَّتِه، فَيُتَعَدى عليه حتى يَضعُف وينكسر، ويُعطى الضّعيف حَقَّه، دون أن يُدلَّل لضعفه، فيطغى عليه، وينقلب مُعتديا على غيره، وهذا الأصل واللذان قبْلَهُ، مأخوذة من قوله: «أَلاَ إِنَّ أقوَاكم عندي الضعيف حتى آخذَ الحقَّ له، وَأَضْعَفَكُمْ عندي القَّوِي حتَّى آخذَ الحقَّ مِنه».

الأصل الثالث عشر

 المسؤولية التضامنية (بين الحاكم والمحكومين)

 شعور الرَّاعي والرَّعية بالمسؤولية المشتركة بينهما في صلاح المجتمع، وشعورهما -دائما- بالتقصير في القيام بِها ليستمرّا على العمل بِجد واجتهاد، فيتوجهان بطلب المغفرة من الله الرقيب عليهما. وهذا مأخوذٌ مِن قوله: «أقول قولي هذا وأستغفر اللّه لِي ولكم».

هذا ما قاله ونفَّذَه أوَّلُ خليفةٍ في الإسلام منذ أربعةَ عشر قرنًا، فأين مِنه الأمم المتَمَدِّنَةُ اليومَ؟ فهل كان أبو بكر ينطق بِهذا من تفكيره الخاص وفَيْض نَفسه الشخصي؟ كلاَّ! بل كان يستمدُّ ذلك مِن الإسلام، ويُخاطب المسلمين يوم ذاك بِما عَلِموه، وما لا يَخْضَعُون إلاَّ له، ولا ينقادون إلاّ به.وهل كانت هذه الأصول معروفة عند الأمم فضلا عن العمل بها؟ كلا! بل كانت الأمم غارقة في ظلمات من الجهل والانحطاط، تَرْسُفُ فِي قيودِ الذلِّ والاستعباد تَحت نِيرِ المُلكِ، ونِيرِ الكَهَنُوتِ.فما كانت هذه الأصول -واللّه إذن- من وضع البَشر، وإنَّما كانت من أمر اللّه الحكيم الخبير، نسأله -جلَّ جلاله- أن يتداركَنا، ويتدارك البشريةَ كُلَّها، بالتوفيق للرُّجوع إلى هذه الأصول التي لا نَجاة من تعاسة العالَم، اليوم، إلاّ بها.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مصلح ومفكر ومربي وواعظ وداعية، جزائري الجنسية، له اهتمامات مهمة ناحية التربية القرآنية للمجتمع المسلم، وطرح مسودات لإصلاحات المؤسسات التعليمية الدينية باعتبارها المعول الأول لبناء الأمة وإصلاحها.

[2] وهي الحادثة التي تنازع فيها المسلمون أمر “الخليفة الحاكم” بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واتفق المسلمون على إجراء الانتخاب الحري المباشر لإنهاء الخلاف الواقع، لا سيما وأن النبي – كما فهم المسلمون- لم يترك وصية ولا إشارة واضحة لمن يتولى أمور المسلمين السياسية بعده، يروي ابن إسحاق “”حادثة السقيفة”: قال ابن إسحاق: لما قبض رسول الله صلي الله عليه وسلم انحاز الأنصار إلي سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، واعتزل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة، وانحاز بقية المهاجرين إلي أبي بكر، انحاز معهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل، إلي أن قال: قال قائل من الأنصار.. منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش قال: فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات فقال عمر رضي الله عنه ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده، فبايعته، ثم بايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار. (انظر: عبد السلام هارون: تهذيب سيرة ابن هشام، القاهرة، مكتبة السنة، ط6، 1989، ص: 303).

[3] تدخل الكاتب في عناوين  الأصول فقط، وفقًا للمضمون الذي تحتويه. انظر حول هذه الأصول (عمار الطالبي: ابن باديس: حياته وآثاره، المجلد الرابع، ص 401-405).

Exit mobile version