مسؤولية المفكر

يتعلق هذا النص بدور “المفكر” ومسؤوليته عند المفكر الحر المسؤول علي شريعتي (1933-1977م)(1)، حيث يرى أن أزمة العالم الإسلامي هي أزمة في “الأفكار” وفي توجيهها، ويضيف إليها أنها أزمة “مفكر” ومسؤوليته التي يجب أن يقوم فيها بنقل المجتمع من حال التغييب إلى الوعي، ويُعرِّف الأمة بـ”العناصر الدخيلة” على منظومتها القيمية والفكرية بحيث يقدم الرسالة الإسلامية في نقائها الأول، وهذا المفكر –أيضًا– ليس منكفئًا على ذاته وإنما لديه الوعي الكامل بنفسه وعالمه ومجتمعه، والمفكر الذي يقوم بذلك هو المفكر المستنير والمسؤول، وهو المفكر الحر الذي استطاع أن يتحرر من نمطي “التقليد والتغريب” اللذين ابتلي بهما مثقفونا وابتليت بهما الأمة.

علي شريعتي

المفكر.. والوعي بالحقيقة الاجتماعية

إن المفكر الحق هو من يملك الوعي بالحقيقة الاجتماعية ليبينها للمجتمع ناصعة مثل الشمس لا لبس فيها ولا تبديل، والحقيقة الاجتماعية هي الوعي بعناصر النباهة العقلية للفرد والنباهة الاجتماعية للمجتمع، والوعي كذلك بكل عوامل تزيف هاتين النباهتين (العقلية والاجتماعية)، وبكل من يحاول أن يزيفهما أو يخرجهما عن مجال التفكير الحيوي مصير الناس (الفرد، المجتمع)، ومن ثم؛ فإن الوعي بمشروعات التغريب وحقيقة الاستعمار -الذي لم يرحل بعد- والقابلية للاستعمار، وواقع كل منهما في حياة المجتمع هو قلب تلك الحقيقة الاجتماعية.

والحقيقة الاجتماعية –أيضًا- هي الوعي بحالة الدجالة التي تمارس على الناس؛ الدجالة الدينية أو باسم الدين؛ وهي أسوأها على الإطلاق؛ لأنها تستخدم المقدس لتبرير المدنس وتمريره باسم الدين، ويلبسون فيه زي العلماء ويتشبهون بزي الرسول، ويحملون القرآن لا يتجاوز حلوقهم ثم يدعون للغاصب المستبد بطول العمر، ويدعون الناس لطاعته باسم الله واسم الدين واسم الرسول، وهكذا أيضاً الدجالة السياسية، والدجالة الاجتماعية، والدجالة الإعلامية.. وكلها تمارس تزييف النباهتين العقلية والاجتماعية، من أجل صرف الناس إلى التفكير في غير مصيرهم، وفي غير عدوهم الحقيقي، وفي غير الأسباب والعوامل التي أدت بهم إلى أسوأ أنواع التردي والتخلف والانحطاط.

والحقيقة الاجتماعية -أيضًا- هي الوعي بكل ما يمارس على الناس من وسائل إلهاء بالجنس أو الرياضة أو الدراما أو المخدرات أو الإنترنت أو مواقع الترفيه؛ أي الوعي بكل ما يصرف الناس عن حقوقهم وعن كيفية الحصول عليها، وصرفهم عن الانتباه عن حقيقة وجودهم وعن مكانتهم في الخلق.

والحقيقة الاجتماعية كذلك هي الوعي بكل طيف ألوان الفساد، والتزوير والرشى؛ رشى أخلاقية، وتزوير في الدرجات العلمية والوثائق الرسمية وغير الرسمية، والعصابات الحاكمة في كل مجالات المجتمع بهدف تضليله؛ في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم.. الحقيقة الاجتماعية هي بكل تأكيد الوعي بالقوى التي تكرس في المجتمع رباعية التخلف (الجهل، والمرض، والفقر، وتزيف الوعي).

مسؤولية المفكـر

يقوم المفكر بوظيفتين أساسيتين، على مرحلتين؛ في المرحلة الأولى: تعريف الأمة بالعناصر المشبوهة والدجالة المغرضة، وتعرية التدكين (فتح الدكاكين) والمدكنين باسم الدين، الذين يقول القرآن عنهم: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (التوبة: 34)، الذين يرتدون لباس العلم والدين وهداية الأمة المقدس، والذين يشوهون بألاعيبهم وتغريرهم للعامة الوجه الطاهر لعلماء الإسلام الحقيقيين الواعين الملتزمين، فيحولون بينهم وبين الأمة، ويسلمون زمام عقل ودين الجماهير بأيدي الجهل والشرك.

أما في المرحلة الثانية: فينبغي الدعوة إلى تطهير كل دخيل على الدين والثقافة والرسالة الإسلامية المحمدية الموقظة والرؤية الواضحة والروح التقدمية الحرة العادلة لتلك الرسالة، وتنقيتها من كل شائبة أضيفت إليها نتيجة الانحرافات والخرافات والتحجر والتعليم السيئ التي ترسخت عبر السنين –وبفعل الاستبداد السياسي والديني والنظم الطبقية والثقافات الأجنبية والعملاء الداخليين والمتعصبين الجهلة وخطط الاستعمار– في أفكارنا وعقائدنا وعاداتنا وعلاقاتنا الاجتماعية ورؤيتنا الفكرية ونهجنا الأخلاقي والتربوي الإسلامي، وذلك عبر التحقيق العلمي والتحليل المنطقي على قاعدة الرؤية الكونية القرآنية وسُنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وبذلك لا نساير أدعياء الثقافة والمعاصرة في حرقهم للأخضر واليابس، وكأنهم حاطب ليل في تمييز الحق من الباطل(2).                                                                                                         

إن المفكر المستنير هو مفكر قد بلغ “الوعي”، وبالتالي فهو ذو رؤية شاملة منفتحة ومتطورة وقدره على إدراك أوضاع العصر والمجتمع الذي يعيش فيه وتحليلها منطقيًا، وذو إحساس بالارتباط التاريخي والطبقي والقومي والبشري، وذو رؤية واتجاه اجتماعي محدد، ولا بد له أيضًا من إحساس بالمسؤولية وهي وليدة نفس ذلك الوعي الإنساني الخاص، الوعي بالذات والوعي بالعالم والوعي بالمجتمع، وهذا الوعي هو أسمى ميزة في النوع الإنساني، وهو أكثر تجليًا فيمن نضجوا من أفراد، هذا الوعي ليس فلسفة أو علومًا طبيعية وإنسانية أو فنونًا وصناعات وآداباً أو بقية الفروع والتخصصات الأخرى، هو نوع من الوعي الأيديولوجي أو بتعبير القدماء نوع من الاستعداد للهداية وشعور بالنبوة وحاسة القيادة، نفس الطريق الخاص الذي كان موجودًا عند الأنبياء، هو العلم الذي عبر عنه بـ”نور يقذفه الله في قلب من يشاء”.. هو نفسه الوعي والحكمة في القرآن وغالبًا ما تذكر مع “الكتاب” عطية من الله يبلغها الأنبياء للبشر(3).

إن المفكر المستنير لا هو بالفيلسوف ولا هو بالعالم ولا بالكاتب ولا بالفنان، المفكر المستنير هو متحيز ذو وعي ذاتي يحس بروح عصره وحاجيات مجتمعه، وعنده رؤية ذات اتجاه محدد ولديه أيضًا قيادة فكرية، وهذا الوعي والرؤية وعي ورؤية خاصان يتحققان وينضجان في مسيرة التجربة الاجتماعية والعمل الثوري، أفضل من تحققهما عن طريق الأفكار المجردة الذهنية والدراسة، والاطلاع على المدارس الفلسفية والتخصصات العلمية، لأن حركة “الفكر المستنير” هي مواصلة حركة الأنبياء في التاريخ، أي أن المفكرين هم “هداة الأمة” وغالبًا كانوا أميين، في حين أن المثقفين هم النماذج المواصلة للحكماء والعلماء والأدباء في التاريخ، نماذج نضجت، ويمكن أن نرى بوضوح الشبه بين الرسالة والاتجاه عند قادة الحركات التحررية الثورية المضادة للرجعية والاستبداد والنهب والاستعباد والتفرقة بين الأمم في العصر الأخير وبين الرسالة التاريخية لشخصيات مثل إبراهيم، وموسى، ومحمد (عليهم السلام)، ويمكن أيضًا أن نرى التطابق البين جدًا بين أعمال رجال مثل هيجل، وديكارت، وكانط، وباستور، وهايدجر وقيمتهم الحقيقية والفكرية كممثلين للإنتلجنزيا المعاصرة، وبين النمط الفكري لأشخاص من قبيل أرسطو، وأفلاطون، وديموقراط، وبطليموس، والكندي، وأبي علي بن سينا، والغزالي، وملا صدرا، هذا الوعي والشعور بالقيادة وهما ميزة المفكر ليسا بمعنى “الزعامة والحكم”، بل بمعنى منح الحركة والاتجاه للمجتمع الذي يحمل المفكر تجاهه مسؤولية فردية؛ “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” (رواه البخاري 2419)(4).                 

 

 

___________________________________

(1)  ولد علي بن محمد تقي شريعتي في مزينان، وهي قرية من قرى منطقة خراسان في إيران، وذلك في عام 1933م، أنهى دراسته الجامعية عام 1958م، وحصل على المركز الأول في قسم اللغة الفارسية وآدابها، ونظرًا لذلك منحته الجامعة بعثة علمية لاستكمال دراسته بالخارج؛ فتوجه إلى فرنسا في عام 1959م، ثم عاد يعمل أستاذ علم بجامعة مشهد، ثم فصل منها، أسس عام 1969م “حسينية إرشاد” التي اتخذ منها معهداً علمياً لنشر أفكاره “العودة إلى الذات”، وقد حاول شريعتي في هذه المؤسسة تقعيد نظام تربوي إسلامي فريد يلبي احتياجات المجتمع المسلم المعاصر في النواحي الفكرية والثقافية والنهضوية، ونظرًا لتمدد أفكاره بين الشباب الإيراني تم القبض عليه من قبل سلطات الشاه وسُجن ثمانية عشر شهرًا، ثم سمحت له السلطة بالسفر إلى لندن عام 1977م ثم وجد مقتولًا بعد شهر من سفره، خلف لنا شريعتي ما يقرب من 120 مؤلفًا متعددة المناحي الفكرية، إلا أنها جميعًا تعالج مسألة الإصلاح المعرفي.

(2) شريعتي، علي. الأمة والإمامة، ص 22- 23.

(3) شريعتي، علي. العودة إلى الذات، ص150-151.

(4) شريعتي، علي. العودة إلى الذات، مرجع سابق، ص292 -293.

Exit mobile version