الإسلام والحياة لـ علي عزت بيجوفيتش (2 ـ 2)

 

     تعليق:

       نستكمل هنا النص الحضاري للمفكر البوسنوي المسلم علي عزت بيجوفيتش، والذي يأتي تحت عنوان “الإسلام والحياة”، والنص هنا يركز على الدرس المعرفي المقارن بين الإسلام والتعاليم الكهنوتية في الكنيسة الأوروبية التي هيمنة على أوروبا طيلة العصور الوسيطة المظلمة، وأدت إلى الفصام النكد للإنسان وواقعه الاجتماعي المعاش، وتفكره العلمي الذي جمد عن تلك التعاليم. وبانبعاث الإسلام استعاد الدين مكانته في الحياة، وعادة الحياة إلى الدين في ضوء ذلك المنهج الذي يقوم على الاعتبار لثنائية التكوين الإنساني والاعتراف بحقها في ممارسة الحياة في ضوء المنظور الديني الجديد للإسلام. هذا الدين الذي يحفز إلى “الثروة والغنى” في مقابل “الفقر والازدراء للمال” في التعاليم الكهنوتية، هذا الدين الذي يعتبر من الجسد ضرورة لامتداد الروح فيه، فيشجع على إشباع دوافعه الفطرية في ضوء القواعد المشروعة وغير الممنوعة من أجل المحافظة على النوع الإنساني من ناحية الغاية الكبرى، وتحقيق الاستقامة الاجتماعية كهدف عاجل من ناحية أخرى. ومن أجل الوقاية من التشوهات والاضطرابات والتوترات التي يمكن أن يصاب بها الإنسان من ناحية ثالثة. إن مبدئية “التوازن” التي تصف الإسلام في نظرته للحياة والإنسان هي التي رفعت خاصية التناقض التي حملها الإنسان الغربي على عاتقه جراء هذه التعاليم التي رأت في الغنى والفقر والجسد موبقات ينبغي التخلص منها أو على الأقل احتقارها. مبدئية “التوازن” في التشريع الإسلامي ورؤيته العامة أعادت – أيضًا- الاتساق إلى جوانب الإنسان وإلى نظرته لذاته، ونظرته للحياة المعاشة.

 النص

الإسلام والحياة

    إن الإسلام يدافع عن الحياة الطبيعية ولا يكرس الزهد.. وأنه يدافع عن الثراء ضد الفقر، وعن قدرة الإنسان على الطبيعة، ليس فقط على هذا الكوكب ولكن على الكون، ما أمكن له ذلك. ولكن لكي نفهم موقف الإسلام فهمًا صحيحًا، لابد وأن ننظر إلى أفكار: الطبيعة والثراء والسياسة والعلم والقوة والمعرفة والسعادة بطريقة مختلفة عما اعتاد عليه الناس في الحضارة الغربية.

     إن القرآن نادرًا ما يخاطب الإنسان الفرد، وأكثر الخطاب القرآني موجه إلى “الناس”، وعندما يفعل ذلك يخاطبهم أحيانَا كمجرد مواطنين في مجتمع، إن الإنسان كعضو في مجتمع، هو ابن هذا العالم. وهو فرد فقط عندما يسكن السماء! فالذي بجعل الإنسان كائنًا اجتماعيًا ليست صفة الفردية الخاصة به، وإنما صفاته التي يشترك فيها مع الآخرين. فإذا كان الفرد والمجتمع كلاهما قد تشكل مستقلًا عن الآخر وفقًا لنماذج ومثل مختلفة، فإن الصراع بينهما لا مناص منه. من هنا يأتي الإسلام لا ليؤكد الحب الإنجيلي، وإنما ليؤكد على العدالة باعتبارها نظامه الأساسي اقرأ: [النساء:135].

       من الواضح أنه أراد بهذا أن يعلم المسلم كيف يتوحد كفرد ومواطن معًا، لأن العدالة فضيلة على المستوى الشخصي والمستوى الاجتماعي. ولهذا فإنه من الممكن نتوقع أن يكون المسلم – بسبب التوازن بين المتطلبات المادية والأخلاقية عنده في اتساق مع بيئته أكثر من أي إنسان آخر-. أما التعاليم المسيحية -شأنها في ذلك شأن أي تعاليم مثالية أخرى- تؤدي إلى الإحباط وعدم الشعور بالأمن، وذلك بسبب التناقض البين بين الرغبات والواقع.. بين النظرية والممارسة العملية.

     إن الاضطرابات العصابية والتشوه الذي أصاب الإنسان الغربي، يعتبر جزئيًا نتيجة للصراع الداخلي بين المثل العليا للمسيحية وبين النماذج السياسية للمجتمع التي تطورت منفصلة مستقلة عن هذه المثل العليا. وهو وضع أصبحت الكنيسة فيه ترعى الروح، وأصبحت الدولة فيه تتحكم في الأجسام وفقًا للمسلمة القائلة “اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله” [إنجيل متى:22:21]. لقد سمح للإنسان الغربي أن يكون مسيحيًا في حياته الخاصة، وأن يكون ميكافيليًا في معاملاته العامة وأعماله.

       من ناحية أخرى يكاد يُجمع الذين أتيح لهم التعرف على العالم الإسلامي على انطباع، بأنه يوجد اتساق بين الإنسان [المسلم] وبين مجتمعه، وباندماج الفرد في النسيج الاجتماعي. وليس هذا الالتحام صناعيًا أو سياسيًا أو قانونيًا، وإنما التحام داخلي عضوي. رغم انتشار الفقر والتخلف في هذه البلاد.

       إن المسلمين لا يعتبرون الحرية الجوانية كافية، فكل مؤمن يستمتع بهذا النوع من الحرية. ولكنهم يحرصون على الحرية المادية ولا يرضون بأن يكونوا عبيدًا. وبرغم أنهم يؤمنون بأن هذه الحياة الأرضية ليست هي الحياة الوحيدة، فإنهم لا يزالون غير راغبين في الانسحاب منها.

 يمكن [في ضوء ذلك] تعريف الإسلام بأنه دعوة لحياة مادية وروحية معًا. حياة تشمل العالمين الجواني والبراني جميعًا، أو كما يقرر القرآن ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص:77]. انطلاقًا من هذا التعريف نستطيع أن نقول إن جميع الناس، أو أغلبهم مسلمون بالإمكانية. ولعل هذا هو المعنى الذي يشير إليه الحديث المنسوب إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله سلم- ” ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ”[1]. بمعنى أن كل طفل يولد مسلما بالفطرة، وإنما يتحول إلى شيء آخر بواسطة والديه أو بيئته المحيطة. لا يمكن للإنسان أن يكون مسيحيًا، حيث أنه ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286].. وفي الوقت نفسه، لا يمكن أن يوجد الإنسان فقط مجرد حقيقة بيولوجية أو عضوًا في مجتمع – إنه لا يستطيع أن يستغنى عن عيسى. لا يستطيع ان يحيا وفقًا لعيسى ولا أن يحيا ضده. وكل قدر الإنسان على هذه الأرض أن يأخذ موقعًا بين هاتين الحقيقتين المتضادتين. ومن هنا جاءت أهمية الإسلام باعتباره الحل الأمثل للإنسان، لأنه يعترف بالثنائية في طبيعته [الروم: 30]. وأي حل مختلف، يُغَلّب جانبًا من طبيعة الإنسان على حساب جانبه الآخر، من شأنه أن يعوق انطلاق القوى الإنسانية أو يؤدي إلى الصراع الداخلي. إن الإنسان (بطبيعته الثنائية) أكبر حجة للإسلام.

 

ـــــــــــــــــــ

الهامش:

[1] رواه البخاري [1358].

Exit mobile version