لسنا أمة بلا ذاكرة!

كثرت في الآونة الأخيرة كتابات على مواقع التواصل الاجتماعي وفي صحف متناثرة وكتب عديدة، يدعي كتَّابها أنهم ذوو علم في التاريخ العربي – الإسلامي وفي جامعي الأحاديث والسير، وصاروا يطعنون في أئمة الحديث، يدعون أن هناك ثغرة تاريخية بين حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور كتب الأحاديث، ومعظم علمهم يستند إلى سنوات ميلاد ووفاة هؤلاء الأئمة الكبار كالبخاري (194-256هـ)، ومسلم (206-261هـ)، ومالك (93-179هـ)، وأحمد (164-241هـ).. إلخ، ويدعون بنوع من التباهي الفارغ، بأن فترة فراغ تقلل من مصداقية هؤلاء الرجال وكتبهم!

وهذه الادعاءات تثير لدى أنصاف العارفين بالسيرة النبوية الشريفة والتاريخ الإسلامي هواجس من الشك والريبة حول المسألة يُساهم في تأجيجها بعض من يكن للأمة كراهية دفينة وما أكثرهم!

وبعض من روّجوا لهذه الادعاءات هم من طالبي الشهرة المزيفة على قاعدة “خالف تُعرف”.

ونحن نقر بأحقية السؤال، وأي سؤال كان عندما يكون السائل لتلقي الأجوبة والنقاش ينطلق من أسس علمية وحقائق تاريخية موضوعية.

والحقيقة أن من يطلع على هذه الكتابات يلاحظ في بعض الأحيان روح الاستهزاء الخفي فيها حيناً، وحشر مصطلحات الحداثة والفكر التنويري حيناً آخر، ولا شأن لهذين لمصطلحين بالكتابات العلمية الرصينة حول علوم الحديث.

وعليه، فنحن لا ندعو إلى النهي أو الابتعاد عن الدراسات التاريخية الإسلامية في كل المجالات، ولكن يجب أن تنطلق هذه الدراسات من حسن النية، وأن تكون حيادية وموضوعية، وأن ما وصلنا من السلف يستدعي النقاش والأخذ والرد إلا القرآن الكريم، وبعد معرفة تاريخ النزول وأسبابه وسيرة الرسول.

ولو عدنا لموضوع الثغرة الزمنية بين كتابة الحديث وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، سنجد بعد التقصي أن كثيراً من العلماء بحثوا فيه من جوانب عديدة، وسآخذ على ما جاء عن الموضوع في كتاب حرص على جمع مصادر شتى معاصرة وسابقة وهو كتاب “الجناية على البخاري”(1)، للشيخ مروان الكردي الذي رد فيه على كتاب المهندس التركي “جناية البخاري”، وصاحب كتابي “جناية الشافعي”، و”جناية سيبويه”، ويعتمد الشيخ في طرحه للموضوع وبتواضع على كتاب “تاريخ تدوين السُّنة وشبهات المستشرقين”، للدكتور حاكم المطيري الذي نشرته جامعة الكويت عام 2003م، وهو بالأصل رسالة دكتوراه.

يبدأ الكتاب بتتبع تاريخ تدوين السُّنة من عام الهجرة الأولى إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقسم الكتابة إلى نوعين؛ الأولى: ما أمر النبي بكتابته كالعهود والعقود والرسائل التي أرسلها إلى الأمراء والملوك ووثيقة المدينة، وهذه الصحف والوثائق كثيرة، رواها الكثيرون مثل ابن اسحق (80-151هـ)، في كتابه “السيرة النبوية”، والذي لقب بأمير المؤمنين في الحديث، وهو من أبرز علماء وحفّاظ الحديث ومن التابعين، كما أمر النبي بتدوين كتاب “الصدقات”، وفيه تفاصيل الزكاة، ثم صار عند أبي بكر، ونسخ منه بعض النسخ وأعطاه لمن يجمعون الزكاة، وكان عليه ختم الرسول، حتى وصل إلى عمر بن عبدالعزيز.

وأمر الرسول بكتابة صفحة لعمرو بن حزم لما بعثه إلى اليمن، وفيها كثير من الأحاديث التي يحتاج إليها المسلمون في حياتهم الاقتصادية والمالية والسياسية.. إلخ.

وقد رأى كثير من المؤرخين هذه الصفحة ورووها في كتبهم كذلك، مثل ابن حبان (ت 354هـ)، وهو من كبار أئمة علم الحديث، والحاكم (ت 405هـ)، والبيهقي (ت458هـ)، وهنالك صفحات كثيرة مثلها متفرقة في كتب السنن حتى قال الإمام ابن سيرين (ت110هـ): “لو كنت متخذاً كتاباً لاتخذت رسائل النبي”.

وهنالك الكُتب التي كُتبت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأستأذنه الصحابة فأذن لهم مثل عبدالله بن عمرو بن العاص الذي كان ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وكاتباً للوحي، ووصلت أحاديثه المكتوبة حداً من الكثرة كان يضعها في صندوق كبير، وعندما يجلس للحديث يطلبها ويُحدث فيها، وقد أكد المسألة الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك، وغيرهما.

وكذلك كان لأنس بن مالك (ت93هـ)، وهو الذي خدم الرسول صلى الله عليه وسلم لمدة 10 سنوات، صحيفة، وكان يشجع أبناءه على كتابة الأحاديث وما يأخذونه من علم، وكذلك الصحابي جابر بن عبدالله الأنصاري (ت78هـ)، الذي سمع أحاديث كثيرة من النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يستمع شيئاً إلا ويكتبه ويحدث به طلابه، وهنالك صفحة الصحابي سعد بن عبادة (ت14هـ)، التي بقيت عند أولاده بعد موته وكانوا متمسكين بها وراوين لها.

وقد ناقش الشيخ الكردي مسألة عدم كتابة السُّنة على أنواع، لأن منها بالأفعال ومنها بالأقوال، ولم تكن وحياً منزلاً، مثل القرآن، ولو كانت كذلك لأمر النبي بكتابتها كلها، وأنها كانت في بعض جوانبها شرحاً لما جاء في القرآن وتفصيلاً له، فالقرآن كما هو معلوم لم يتنزل جملة واحدة، ولم يُجمع على مصحف واحد إلا لاحقاً، وأن كثيراً من الأحكام النبوية تغيرت حسب ظروف الناس ومصالحهم وتطور الدعوة، وكذلك نسخت بعض الأحكام في القرآن الكريم.

ويلفت الشيخ إلى مسألة واقعية في استحالة جمع الحديث في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث لم يكن عليه الصلاة والسلام مستقراً في مكان واحد، وأن أصحابه توزعوا بين مكة والمدينة، وحسب الزمان والمكان، ناهيك أن الكتابة كانت على رقاع من الجلود وجرائد النخل والأكتاف وغيرها.

وأن أدوات الكتابة لم تكن متيسرة بسهولة في الحل والترحال، ناهيك أن معظم أصحابه عليه السلام كانوا لا يجيدون القراءة والكتابة، وكان الحفظ شائعاً عند العرب، ولذلك فمن غير المنطقي وغير العقلاني أن تخرج كتباً كالصحاح، وهو غير زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أي بعد أن عُرف الورق والنسخ.

وعموماً، إن العرب لم يهتموا بالكتابة في بيئتهم الصحراوية القاسية وكانوا يعتمدون على الحفظ أكثر من باقي الأمم للأسباب الواردة أعلاه، وإن زمن الكتابة والتدوين كان عصراً مدنياً وعصر استقرار، ومع ذلك فإن علم الحديث صار علماً بكل معنى الكلمة لم تعرفه باقي الأمم، ونشأ منه علم الجرح والتعديل وعلم الرجال وسيرهم.. إلخ.

ويتشبث بعض المنتقصين للسُّنة والحديث في وجود أحاديث غريبة خارجة عن السياق القرآني وسياق الدعوة عموماً، وخصوصاً ذات المسحة السياسية التي دخلت بعد استعمال الصراع السياسي بين الفرق الإسلامية، وأحاديث آخر الأيام، ونحن نقول: إن المحدثين الكبار بذلوا جهوداً كبيرة وعظيمة في غربلة الأحاديث ولكنهم ليسوا أناساً معصومين، وأن الباب يبقى مفتوحاً لأهل الاختصاص والعلماء في النقاش وإبعاد ما هو غث، بالإضافة إلى أن كثيراً من الزنادقة والباطنية عملوا على إدخال أحاديث مكذوبة خصوصاً بعد سقوط الدولة الأموية (132هـ)، حتى إن أحد الزنادقة اعترف متباهياً للخليفة العباسي المهدي (ت169هـ)، قبل تنفيذ القصاص فيه بأنه وضع أكثر من 4000 حديثاً، ناهيك أن الإسرائيليات تحتاج لبحث طويل، ويتناول الشيخ مسألة نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث استناداً لقوله عليه السلام: “لا تكتبوا عني غير القرآن”، فيقول: إن معظم العلماء قالوا إلى عدم رفع الحديث ووقوفه على أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، كما اعتمد على ذلك البخاري، بالإضافة لوجود رأي بأن الحديث نُسخ بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم لكثير من الصحابة.

ويقول الشيخ بأن حديث النهي عن الكتابة لا يبلغ قوة الأحاديث التي ذُكرت عن كتابة الصحابة للحديث، وهو يخالف ما هو متواتر عن جمع غفير من الصحابة ومما لا يمكن إنكاره، وإن هذا النهي خاص بمن خيف عليهم أن يخلطوا بين الأحاديث ولم يتقنوها، وإلا فكبار الصحابة وفقهاؤهم كتبوا الأحاديث وحفظوها في ذاكرة الأمة ولم ينكر عليهم أحد فعلهم.

وأما عن البعد الزمني بين التدوين والظهور في علم الحديث الذي ثبت بطلانه فنستطيع إضافة مسألة شخصية لي ككاتب المقال، فجدي ولد عام 1870م، أي أثناء حكم الدولة العثمانية، وكان مفتياً وقاضياً، ووالدي ولد عام 1912م، وتوفي عام 2000م، وكان مؤرخاً معروفاً في العراق، وأنا العبد الفقير ولدت أواسط القرن الماضي وسمعت كثيراً من الأحداث عن جدي وعصره رواها لي والدي، ونحن الآن على بعد زمني بمقدار قرن ونصف قرن عن زمن جدي، فما الغرابة في التواتر في ثلاثة رجال يعرف بعضهم بعضاً.

وعليه، لا تكون الثغرة الزمنية عاملاً في رفض الحديث أو قبوله.

وأخيراً ونكرر المسألة وخصوصاً لشبابنا الذين صاروا ينخدعون بالدعوات المتهافتة التي تحاول نخر الدين من داخله، أن ينتبهوا لما يدور حولهم، وألا يتقيدوا بما في صفحات التواصل الاجتماعي.

 

_______________________________________________

(1) الجناية على البخاري – قراءة نقدية لكتاب جناية البخاري لمروان الكردي، مراجعة وتقديم الشيخ محمد بن طاهر البرزنجي، ومحمود عبدالرزاق الغوثاني، ط1، مكتب التفسير والإعلان، 2017م، أربيل – العراق.

Exit mobile version