الفرنكوفونية.. والعبث بهوية الأسرة المسلمة

في الوقت الذي قامت فيه فرنسا الاستعمارية بأبشع المذابح في مستعمراتها لسلب الأرض واللغة والثقافة والهوية، كتب مفكروها ومثقفوها عن الحرية والعدالة والمساواة وقدموها كبلد الأنوار، فيما انساق عدد كبير من مثقفينا يدافعون عن فرنسا الثقافة والفكر، ويفصلون بينها -بسذاجة بالغة أو ربما بشعور مركب من النقص- وبين فرنسا السياسة والاحتلال والتخريب.

كانت محاولات فرنسا لاختراق شعوبنا العربية والإسلامية دائماً ما تواجه بتاريخها الاستعماري الأسود، وفي ضوء هذا يمكننا قراءة اعتراف الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» الهزيل بالتعذيب المنظم الذي انتهجته فرنسا في الجزائر دون أن يقدم اعتذاراً رسمياً عن الاحتلال ذاته، ويمكننا أيضاً أن نقرأ ما قام به مؤخراً من تحركات في لبنان من زيارة للأماكن المنكوبة، وتعاطف مع أهالي الضحايا، وتقديم الدعم المادي للمدارس والمؤسسات ذات التوجه الفرنكوفوني ومدارس الإرساليات الكاثوليكية، تلك المدارس التي أنتجت إنساناً لبنانياً فرنسياً يرى في فرنسا الأم الحنون ويتوق لأيام الاحتلال، حتى إنهم قاموا بكتابة عريضة تطالب بعودة الانتداب الفرنسي على لبنان!

يحاول الرئيس الفرنسي، إذن، الذي يطلق عليه البعض «ماكرون بونابرت»! أن يستعيد بعضاً من النفوذ الفرنسي عن طريق القوة الناعمة؛ اللغة والثقافة والقيم الفرنسية، من خلال المدارس والمؤسسات الفرنكوفونية التي تعيد تشكيل هوية الإنسان العربي والمسلم، ومن ثم تعيد تشكيل هوية الأسرة من خلال التفكيك وإعادة البناء.

الهوية الفرنكوفونية

لا يمكن النظر إلى الفرنكوفونية كونها مجرد النطق باللغة الفرنسية، بل هي ثقافة وهوية، أو كما يصفها الكاتب والباحث السياسي اللبناني قاسم محمد عثمان بطريقة حالمة أنها «واقع معيش ونمط تفكير وسلوك حياة قبل أن تكون انخراطاً في نموذج سياسي أو في كيان جغرافي؛ فهي كيان يتحرك فيه الإنسان ضمن تنوعه العرقي والوطني والديني، وهي مكان للتلاقي بين البشر ولتبادل المعلومات وتناقل المعرفة وتقاسم الثقافة، وهي إطار للتلاقح المثمر ولتقدير الحياة بالمعنى الإنساني والأخلاقي للكلمة».

هذه هي الفرنكوفونية في ضمير أنصارها؛ حياة لها قيمها الخلقية الخاصة، وهذا ما يسعى إليه الفكر الفرنكوفوني، حتى إن المنظمة الدولية للفرنكوفونية أوضحت أن القيم الفرنكوفونية لا تقل قيمة عن اللغة، وبحسب ما ورد في الموقع الرسمي للمنظمة «تمثل الفرنكوفونية مجالاً من أكبر المجالات اللغوية العالمية، فهي ليست مجرد تقاسم لغة؛ لأنها تعتمد أيضاً على أساس الاشتراك في القيم الإنسانية التي تنقلها اللغة الفرنسية، ويمثل هذان العنصران الدعائم التي ترتكز عليها المنظمة الدّولية للفرنكوفونية».

من هنا نستطيع أن نفهم أن سعي فرنسا المحموم لدعم تعليم اللغة الفرنسية يتجاوز المعنى الضيق الذي قد يتبادر للذهن لنشر اللغة اللسانية، وفي عصر العولمة تريد فرنسا أن تحافظ على نصيبها من الكعكة على الأقل في مستعمراتها السابقة، وهذا ما قاله «ماكرون» مراراً كونه عازماً على المساهمة في زيادة انتشار اللغة الفرنسية في العالم؛ حيث يزعم أنها تتمتع بإمكانات هائلة.

وإذا كانت أفريقيا هي مستقبل اللغة الفرنسية حيث الخصوبة البشرية الهائلة، فلبنان يمثل الجسر الأكثر أهمية بين الشمال والجنوب الفرنكوفوني، حتى إن كثيراً من أدباء لبنان البارزين يكتبون الأدب بالفرنسية، الأدب بكل ما يحمله من رموز وأساطير وتاريخ وفلسفة وصناعة لوجدان الإنسان لذلك، فحماية لبنان هو حماية إستراتيجية لمصالح فرنسا في المنطقة.

التعليم والهوية

تهتم فرنسا اهتماماً هائلاً بالتعليم والثقافة، حتى إن «ماكرون» دعا القادة الأوروبيين لإعادة تأسيس أوروبا عن طريق نشر الثقافة الأوربية، حيث قال: «لا توجد أوروبا من دون ثقافة، ما نحتاج إليه هو الخيال الأوروبي الإيجابي لعلاج الوهن الذي أصاب القارة العجوز».

تقوم فرنسا بدور طليعي -إن جاز التعبير- في نشر هذه المعرفة والثقافة، ولها تاريخ طويل في إنشاء المدارس صانعة الثقافة الأولى لإعادة تعريف الهوية، أو كما تقول الكاتبة الجزائرية لطيفة بن منصور: «القائمون على مدارس الاستعمار كانوا يريدون إخضاع النفوس؛ غسلها وتعقيمها لإنتاج فرنسيين صغار على دراية بمعارك فرنسا في بواتييه وآليزيا وووترلو، على دراية كاملة بأسماء الشعراء والكتَّاب الذين يبرزون مجد وواجهة فرنسا –الوطن الأم– أكثر مما يفعله الجنرالات».

قديماً أيام الاحتلال كان يتم التعامل بعنف وقوة لفرض اللغة الفرنسية وتنحية العربية في المدارس، يشرح «بول مارتي» سياسة التعليم على هذا النحو: «إن كل تعليم للعربية، وكل تدخل من الفقيه، وكل وجود إسلامي سوف يتم إبعاده بكل قوة؛ وبذلك نجذب إلينا الأطفال البربر عن طريق مدرستنا وحدها، ونبعد متعمدين كل مرحلة من مراحل نشر الإسلام»، وهذا ما حدث بأبشع صورة في الجزائر، ولم تعتذر عنه فرنسا مطلقاً.

في اللحظة الراهنة، يمكننا أن نأخذ نموذج التعليم الفرنكوفوني في لبنان كنموذج لتعزيز القوة الناعمة لفرنسا في بلادنا؛ ففي لبنان وحده أكثر من 330 مدرسة كاثوليكية؛ 80% منها تقدم تعليمها بالفرنسية، وتضم نحو نصف مليون تلميذ (حوالي 50% من عدد تلاميذ لبنان)، بالإضافة لـ5 مدارس تابعة للبعثة العلمانية الفرنسية، وتلتقي المدارس الكاثوليكية والعلمانية في نشر الثقافة الفرنكوفونية، ومن ثم فلا دهشة مطلقاً من أن الدعم الذي وجهته فرنسا للبنان بعد الأحداث الأخيرة تم تقديمه لخدمة مصالحها الإستراتيجية المتمثلة في تلك المدارس.

على جانب آخر، تسعى فرنسا لتذويب أبناء المهاجرين العرب في ثقافتها ولكن بمنهجها الناعم الجديد؛ فبدلاً من الحرب على العربية والإسلام، تسعى فرنسا من أجل إسلام جديد بثقافة عربية مختلفة، أو كما جاء في تقرير معهد «مونتاني» حول اللغة العربية: «كلما تأخرنا في تعليم اللغة العربية في المدارس؛ ارتفع عدد التلاميذ في المساجد»!

الفرنكوفونية والأسرة

هناك آليتان تعمل بهما الفرنكوفونية للعبث بهوية الأسرة المسلمة؛ الأولى هي التعليم الفرنكوفوني الذي يصنع أجيالاً شابة منسحقة أمام هذه الهوية، هذه الأجيال هي مستقبل الأسرة العربية والمسلمة، حيث تستميت فرنسا -كما أوضحنا- في دعم هذا النوع من التعليم الذي أتى بنخبة متغربة فرنكوفونية الهوى، ويمكننا في ضوء ذلك قراءة بيان الجمعية اللبنانية للطب النفسي الذي قالت فيه: إن المثلية الجنسية لا تشكل اضطراباً أو مرضاً؛ وهي بالتالي لا تتطلب أي علاج (المثلية الجنسية ليست نتيجة اضطراب في الدينامية العائلية أو نمو نفسي غير متزن)، ويمكننا أيضاً في ضوء ذلك استشراف صورة الأسرة اللبنانية في المستقبل وهي تسير على خطا الأسرة الفرنسية.

أما الآلية الثانية لمحاولة الفرنكوفونية العبث بهوية الأسرة، فهي تتمثل في دعم القوانين التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية؛ من خلال أموال طائلة تحصل عليها الجمعيات النسوية والعلمانية في بلادنا من أجل عمل مشاريع تمهد الأرض لمثل هذه الأفكار، ومسابقات وأبحاث تسير في الاتجاه ذاته، ومن خلال مؤتمرات تعقد في الداخل والخارج من أجل أطروحات جديدة أو آليات أكثر سلاسة لتغيير فكري ناعم، ويمكننا تلمس التخصص في العمل والنشاط في الحركة والمتابعة حتى الوصول لمرحلة نصوص قانونية علمانية موحدة متعلقة بالأسرة تعتمد على المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، وتتبنى الرؤية الغربية العلمانية الفرنكوفونية للأسرة.

يقول أستاذ الفكر والحضارة الإسلامية د. محمد خروبات: «من خلال الفرنكوفونية يتم نشر التغريب وتكريس التبعية المُذلة، وبالفرنكوفونية يتم تشتيت الأسرة المسلمة باسم حرية المرأة وحقوقها، وباسم حرية الطفل وحقوقه، وبالفرنكوفونية يتم نشر الخلاعة الفكرية المنافية للأعراف، والمخالفة للتقاليد، والمضادة للأخلاق والقيم، وباسم الفرنكوفونية يتم التضييق على الثقافة الإسلامية الأصيلة».

يبدو جلياً، إذن، لمن يعي أن هناك حالة نفاق وازدواجية مقصودة في أطروحة الفرنكوفونية؛ فرغم أنها تروج لنفسها على أنها حاملة لقيم التعددية في القبول بالثقافات واللغات، فهي في الحقيقة تمارس عنصرية واضطهاداً للآخر، وتصدر خطاب كراهية، وما الموقف من الحجاب وفلسفته إلا نموذج لهذا التناقض، ولا يمكن فهم تحركات باريس للدعم أو التعاطف إلا في ضوء المصلحة العليا للفرنكوفونية لغة القيم الاستعمارية والعنصرية والعلمانية.

Exit mobile version