المُناقشة

 منذ وقت غير قصير وهو يستعد لتلك اللحظة الحاسمة التي ينتظرها ليتحقق هدفه ويصل إلى غايته، كان يعرف أن الوصول إلى ذلك سوف يكلفه جهداً كبيراً وعملاً متواصلاً وسهراً طويلاً يصل فيه ليله بنهاره، بالإضافة إلى إنفاق مقدار غير قليل من ماله، لكنه مع كل هذا استعان بربه عز وجل، وتوكل عليه، وشحذ الهمة دون أن يتوانى أو يكسل، ورفع كفيه طالباً من الله أن يخلص له نيته في عمله هذا، وأن تتمخض ليالي سهره وأيام جِده عن ولادة بحثه الكبير الذي يكتبه، وأن يكلل سعيه بأعلى درجات التوفيق ويؤتي أكُله في قلوب القارئين وعقول الباحثين، ومن ثَم يكون له حسنة متجددة وصدقة جارية له.

إنه ما زال يعمل ويعمل، وكلما فترت همته تذكّر الغاية، وإذا ما أصابه الإعياء نظر إلى الهدف وهو يقترب منه؛ فيتجدد نشاطه وينهض من عثرته، نقب في بطون الكثير من الكتب، ليستخرج ما فيها من دُرر، ويتعرف على ما تخبئه من كنوز، ويكشف زيف بعضها وأصالة الكثير منها.

وها هو قد بدأ بصياغة كلماته بعد الحمد والثناء على خالقه.. هذه الفقرة هنا، وهذا الكلام في هذا الموضع مناسب، وهذا يحتاج للرد عليه، وهذا قول راجح وهذا مرجوح، وهذا.. وهذا.. يقدِّم ويؤخِّر، ويضيف ويحذف، ويعيد ويكرر، ويقرأ وينظر، وأخيراً وصل إلى خاتمة بحثه وكتابة نتائجه وخلاصة عمله، وتوصياته العلمية والعملية، ولما أحس أنه قد بذل وسعه وأتقن ما استطاع جهده، واتقى الله ما استطاع في عمله، حمد الله وأثنى عليه واستغفره، وقدم للجامعة بحثه، التي حددت له وقتاً لمناقشته.

مر وقت عليه حسبه دهراً وهو يستعد لمناقشة رسالته ويستذكر من جديد ما كتبه، ويُعد الإجابة لكل سؤال يتوقع أن يُسأله، وهو مع هذا يفكر ليله ونهاره في تلك اللحظات التي يتحقق فيها حلمه، مع قلق على نفسه حين يناقَش ويُساءل أمام الحاضرين والمستمعين.

وأخيراً، حان وقت المناقشة! وحضرت معه زوجه تشد بنظراتها من أزره، ويسكن بقربها قلقه.

رأته وهو يجلس أمام لجنة المناقشة وكأنه في امتحان كبير، الكل فيه يمتحنه؛ فخفق قلبها رغماً عنها، رأت العيون تنظر إليه، والجميع يرقبه، فازداد قلقها، وبدأت المناقشة من اللجنة الموكلة بها وهي من عدة علماء متخصصين في موضوع البحث، لا شك أنهم حصروا ما فيه من ملاحظات وعددوها، وقيدوا ما اعتبروه غير مناسب من منظورهم كأهل علم، لكنهم جزاهم الله خيراً بدؤوا بذكر محاسن هذا البحث وأهميته، ومواطن الجمال فيه، شاكرين للطالب جهده الكبير، آملين منه المزيد، فانشرحت لذلك نفسه، واستعدت لتلقي ما يقولونه نُصحاً وإرشاداً وتصحيحاً وتقويماً، فاستمعَ إليهم شاكراً نصحهم، واستمعوا إليه دفاعاً عن بحثه.

واستمرت المناقشة وهو مُنصِتٌ إليهم يدوِّن ملاحظاتهم؛ لماذا قلت هذا؟ ومن أين أتيت بهذا الكلام؟ وأين الحديث عن كذا؟ ضع هذا الكلام هنا، وهذا جيد أحسنت فيه، وهو مع هذا رحب الصدر متقبل نقدهم البَنَّاء الممتزج ببعض الثناء، مُقدِّر جهدهم وعلمهم، متأكد أن كل ذلك سيجعل رسالته في أبهى حُلة شكلاً ومضموناً، فلم يضجر ولم ييأس ولم يحزن، فهكذا نتعلم، وهكذا يجب أن نفعل، وبعد وقت غير قصير انتهت المناقشة، وها هو جالس ينتظر إعلان النتيجة ويترقبها.

أحست زوجته وهي تستمع إلى النقاش الدائر أن حياتنا كلها ساحة كبيرة للنقاش فيما بيننا، وتمنت أن تكون مناقشاتنا جميعاً فيما بيننا شبيهة بهذه المناقشة العلمية الراقية التي تُبنَى على الأسس العلمية لا على التخمين والظن، التي غرضها البناء لا الهدم، ويغلفها الاحترام المتبادل والرغبة في الإصلاح والتقويم والحصول على أعلى الرتب، ويزينها التواضع من الجميع.

وتساءلت في نفسها، فإذا كانت هذه المناقشة العلمية بضوابطها المتعارف عليها بين أهلها تهدف إلى تحسين العمل وتصحيح الخطأ وتعليم العلم، فلماذا لا نستفيد منها فيما بيننا، فكم في حياتنا من مجالات يناقش بعضنا بعضاً تسودها الأنانية وتغشاها الغلظة وتنقصها الحكمة، فتنتج عنها القطيعة دون أن يتغاضى بعضنا أو يتنازل عن رأيه!

مناقشات يومية

رأت بقلبها الكثير من المناقشات اليومية التي نتعرض لها ونمارسها بطريقة صحيحة أو غير صحيحة، فهي تلازمنا في كثير من أحوالنا، فالمناقشة تعني المداولة، والجدال والمُحاسَبة وتبادل الآراء ووجهات النظر (معجم المعاني الجامع)، وهذا ما يفعله الناس، حيث إنها وسيلة من وسائل الفهم والإيضاح وتوصيل المعلومة، ونحتاج إليها في تواصلنا وكلامنا.

فما أنفع المناقشة في المدارس ودروس العلم، حين تكون أشبه بالحوار بين الطالب وأستاذه، ويكون المعلم فيها صبوراً في إيصال علمه وإفهام طلابه، ويحترم الطالب أستاذه ويجله.

وما أجمل المناقشة بين الزوج وزوجه عند حصول أي مشكلة أو عند تبادل الرأي فيما بينهما، فيسودها المحبة والمودة والرحمة، في حوار قلبي عقلي دون أن تتحول إلى جدال عنيف وخصام وهجران وقطيعة قد تؤدي إلى الطلاق وهدم بناء الأسرة.

وما أروع المناقشة حين تكون بين الولد ووالديه ببر وشفقة، وعطف وإحسان، ولين جانب وخفض جناح، دون أن تشتمل على «الأفّ» والتأفف، والصياح ورفع الصوت!

وما أنجع المناقشة حين تكون بين الدعاة ومَن يدعونهم، فتكون بحكمة وموعظة حسنة وجدال بالتي هي أحسن، روحها الحب والرحمة، وغلافها التواضع، وسِمتها الرفق، وغرضها هداية الناس؛ فيهتدي الضال، ويُحسن المسيء، ويطيع العاصي، ويتوب المذنب!

وما أكثر فائدتها حين تكون بين طلبة العلم في بعض الكتب العلمية لترسيخ الفهم والتدرب على الاستنباط واستخراج المعاني!

وما أحسنها حين تكون بين الأخ وأخيه والصديق وصديقه والجار وجاره للتقارب فيما بينهم وتبادل وجهات النظر والاستفادة من الخبرات!

أفاقت من فِكرها حين دخلت لجنة المناقشة لإعلان النتيجة، وما إن أعلنوا بها حتى خرَّ لله ساجداً، فقد كلل جهده بالنجاح والتوفيق، وإن كل لحظة قضاها في طلب العلم كانت لبنة في سُلم نجاحه وفوزه بالامتياز مع مرتبة الشرف.

شكرت الله تعالى مع زوجها، هنأته بفوزه، ودعت له بما أثلج صدره، جعلك الله من الفائزين الفوز العظيم وأدخلك الجنة بغير حساب مع هؤلاء المتوكلين، فقد رأيت فيك حسن التوكل جنباً لجنب مع أخذك بأسباب النجاح، وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم أمته فقال: «يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتي سَبْعُونَ ألْفاً بغيرِ حِسابٍ، هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، ولا يَتَطَيَّرُونَ، وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (رواه البخاري).

الاستعداد للعَرض

لقد ذكرتني كلمة المناقشة بأمنا عائشة رضي الله عنها حين قالت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: «اللهم حاسبني حساباً يسيراً»، فلما انصرف قلت: يا رسول الله، ما الحساب اليسير؟ قال: «أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، إنه من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك» (رواه أحمد).

فانظر إلى هذا الحوار التعليمي والنقاش الهادئ بين النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه عائشة رضي الله عنها وهي تسأله فيجيب، فكان جوابُه لها لبَيان المقصود الحقيقيّ للآية، وأن الحساب اليسير شيء آخَر، وهو العرْضُ، وهو إبراز الأعمال، وإظهارها، فيُعرِّفُ الله صاحبَها بذنوبه، ثم يتجاوَز عنه؛ حتى يعرف مِنَّة الله عليه في سَترِها عليه في الدنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة، وأن مَن نُوقِش الحساب يَهلِك لأن التقصير غالب على العباد، فمَن استُقصِيَ عليه ولم يُسامَح؛ هلك وأدخِل النار.

فالحساب يوم القيامة نوعان؛ حِسابُ عَرْض ومُعاتَبة، وهو حِساب يسيرٌ لا عذاب فيه، وحسابُ مُناقشة، وهو حسابٌ عسيرٌ وشديد، ولا يخلو مِن العذاب؛ لأنه مُناقَشة للعبد على أخطائه، وتوقيفه على جميع ذنوبه، واستقصاءٌ لكل سيئاته. (انظر الدرر السنية، شروح الأحاديث).

لكنه للأسف يوجد فينا من لا يلين جانبه لأخ أو جار أو صديق ولا لوالد أو قريب، ولا لزوج أو ولد، تراه في نقاشه يدقق في كل صغيرة وكبيرة ويشح بنفسه أن تسامح أو تترك المراء والجدال، غرضه الانتصار لنفسه، والأخذ برأيه، مهما تكن النتائج! فلنتخفف معاً من الأوزار، وليكن نقاشنا جميلًا سَمحاً حتى يحاسبنا الله حساباً يسيراً.

 

Exit mobile version