كيف عالج الإسلام حنين البعض للمجهول؟

يعيش كثيرون في هذا العالم؛ بخاصة بعدما انتشرت المادية والسلع الاستهلاكية ومفردات الحياة المرفهة والسعي وراء المزيد من الكماليات، يعيش الكثير في هذه الأجواء شاعرين بحنين غامض جارف إلى ما لا يعرفون؛ أو طلبًا لقرب ووصال مَنْ لا يعلمون كنَّهه، فترى أحدهم يشكو لأصدقائه المقربين وأهله أنه يشعر في أحيان كثيرة بالحزن الشديد الغامض الذي لا يعرف له سببًا أو مصدرًا، وقد يدفعه شعوره الجارف للبكاء المرير أحيانًا أو ربما اعتزال العالم.

وللحقيقة، فإن الشعور بالحنين إلى المجهول شعورٌ موغلٌ في القدم، بخاصة لدى العرب، لذلك بقي من آثارهم كثير من القصائد وبعضها من المعلقات؛ وفيها جميعًا تعبير عن محبة خارقة لمحبوبة استثنائية؛ ضمّتْ محاسنًا فريدة ندر أن تكون لبشر؛ وهي في كل أحوالها تأسر الشاعر ولا يرى في الكون بديلًا عنها؛ وكأن الحياة ليس فيها معاناة ومتاعب، أو أن الدنيا خلتْ من القلاقل والأمراض والآلام أو حتى هموم السعي وراء الرزق؛ فلم يعد لديه حنين وشغف إلا بامرأة تمثل الحياة وقمة الراحة فيها.

وسعيًا وجريًا على عادة شعراء عرب سار آخرون محدثون ومعاصرون؛ فتفننوا في وصف محاسن محبوبتهم المعنوية وقدرتها النفسية على شفاء الجراح وهلم جرًا؛ وعلى الدرب ذاته تغنى مغنون فعددوا في مزايا وأوصاف الحبيب وفوائد ومزايا القرب منه، وصار ما لا يعد من الأغاني في مشارق الأرض ومغاربها يسير في هذا السياق؛ بالإضافة إلى الأفلام والمسلسلات وغيرها من أشكال الدراما سواء القصيرة أو الطويلة.

ومع تطور التكنولوجيا وتقدمها، صار الإنسان والمسلم المعاصر يعيشان في عالم يُدار بواسطة الآلات؛ سواء الحاسبات الآلية أو مشتقاتها، ويسمع ـ بإرادته أو رغمًا عنه ـ بعضًا من هذه الأغاني أو الدراما، وفي النهاية يشعر البعض بغربة عن واقعه واشتياق إلى مًنْ وما لا يعرف ولا يعلم له مكانًا أو طريقًا.

ومع الأيام يقول غير المتزوج لنفسه: إنه حينما سيتزوج سيزول هذا الشعور من نفسه؛ أو أنه عندما يغتني لن يجد لآلام الافتقاد هذه مكانًا في حياته؛ والبعض يربط الأمر بـ”العزوة” أو وجود الأبناء وكثرتهم؛ مع دوام الصحة الجيدة ووجود وفرة مالية.

وفي النهاية يكتشف الباحث عن السعادة والراحة؛ المُحاول التغلب على الشعور بالغربة الشعورية؛ أو عدم الأنس أو الراحة للمنزل أو البيت والأبناء أو الأسرة، فضلًا عن المال والصحة أن السعادة بعيدة.. يصعب عليه الوصول إليها؛ مع الوضع في الاعتبار أن اجتماع كل ما مضى في حياة إنسان أو مسلم أمر بالغ الصعوبة.

فأين يقع الخلل والخطأ؟

ولماذا لا يُفضي أو يوصل اللهاث وراء متطلبات الحياة الدنيا مع وجود الأموال والممتلكات؛ مع التواصل مع البشر ـ ولو كانوا مقربين ـ إلى الشعور بالراحة والأنس المُفتقدينِ؟

في سورة الرعد يقول الله تعالى في وصف مصدر الراحة والطمأنينة والأنس بل السعادة الدائمة للبشرية: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28))، وفي تفسير الطبري للآية أورد أن “وتسكن قلوبهم (المؤمنين) وتستأنس بذكر الله”(1).

ولأن الله تعالى هو خالق الإنسان فهو سبحانه الأدرى به وبما يصلحه وتصح وتستقيم حياته به، لذلك حدد في الآية الكريمة أن المؤمنين تطمئن وتسكن للقلوب منهم بذكر الله وتستأنس، وما لغير هذا الطريق قدرة على جعل القلوب مستأنسة ومطمئنة وساكنة؛ أما الباحثون عن هذه الأنس وتلك السكينة في غير طريقه تعالى فإنهم واهمون مهما اجتمعت لهم متع الحياة الدنيا، وإنما تستقيم نعم الله في الحياة الدنيا وتصلح بالاطمئنان بذكر الله تعالى والقرب منه.

فإن كانت متع الدنيا وملذاتها الحلال تزول فإن الله تعالى يعلمنا أنه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)} (الرعد)، وهكذا بعد وصفه تعالى لطريق السعادة في الدنيا يحدد أن المؤمنين الموصولة قلوبهم الساكنة المستأنسة لربهم “الجنة لهم”(2).

ومع الله ومع القرب منه تحصل طمأنينة الروح والنفس بالارتكان إلى خالقهما والاستقرار في ظل معيته في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

أما لماذا يشعر الغافلون عن ذكره تعالى بالأشواق المستفيضة التي يحاولون علاجها ومداراتها بالقرب من زوجة أو البحث فيما وراء ذلك؟ مع مشروعية وحل الأنس والمودة والرحمة إلى الزوجة إلا أن الاكتفاء بذلك، أو التغني به هو الذي يوقع في مزيد من الحيرة والشوق إلى غير المعلوم.

بيان ذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الأعراف: 172).

جاء في تفسير ابن كثير للآية السابقة: “عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم، عليه السلام، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قبلا قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الأعراف: 172)”. (رواه النسائي).

إن هذا الميثاق الذي واثق الله به جميع خلقه محببٌ منذ البدء وحتى النهاية إلى أنفسهم أجمعين، ذلك لأنه تعالى جمعهم به في مستقر رحمته؛ وآنسهم بلطفه وإحسانه وفضله، مما يجعل هذا الشعور دفينًا في نفوس المُغتربين عن جلال وعظم رب العزة وعبادته والقرب منه، فإن اجتمعت لدى البعض نفس لوامة أخذتْ تزيدهم شوقًا إلى العودة إلى مستقر الرحمة واللطف لدى رب العزة.

وفي ظل هذا الشعور والشغف بالأنس برب الكون وخالقه، أحسن الخالقين تدور نفوس البشر، فمنهم الذي يعرف أنه مهما حصل من متاع الحياة الدنيا فإن مرده في النهاية وراحته في الدنيا ليس إلا بطلب المغفرة، والسير في حما ومنعة الله، وإن جميع متع الدنيا لو حيزت له، وهو مستحيل فلن تغني عنه من الشعور بالراحة والطمأنينة في طلب معية وقرب ربه تعالى؛ وتأتي بعد ذلك بمسافة شاقة عسيرة الراحة عبر اجتماع مع محبوب، أو ماديات ورفاهية، وانهماك في عمل؛ فلا يعوض أنس الروح بخالقها ومكوكبها شيء في هذا الكون.

 

___________________________________

(1) من تفسير الطبري لقوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، (الرعد: 28) تفسير الطبري من كتابه “جامع البيان في تفسير آي القرآن”، هذبه وحققه وضبط نصه وعلق عليه الدكتور بشار عواد معروف وعصام فارس الحرستاني، مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1415هـ/ 1994م، المجلد الرابع، صـ 423.

 (2) من التفسير السابق لقوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (الرعد: 29)، جـ4 ـ صـ424.

(3) من تفسير ابن كثير للآية الكريمة: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (الأعراف: 172)، صـ 797، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 1420هـ/ 2000م.

Exit mobile version