اختطاف الإسلام.. تطبيق الشريعة الإسلامية نموذجاً (4-5)

سادسًا: نماذج نجاح فاعلة.. حالات وخبرات:

من المهم أن نشير أولاً إلى أن تطبيق الشريعة الإسلامية هو أمر نسبي، وسلوك بشري، لا يمكن أن يصل إلى حد الكمال، فإن الكمال لله وحده عز وجل، ولكن المقصود هنا هو بيان بعض النماذج الفاعلة التي تمثل خبرات ناجحة في الإدراك الصحيح لمفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية، وتعتبر بمثابة خطوات ناجحة في سبيل التنزيل الأمثل للشريعة الإسلامية في العصر الحديث وفي واقعنا المعاصر، حتى وإن اقتصر الأمر أحيانًا على تقديم أفكار معمقة ينبغي الالتفات إليها لمقاومة استلاب مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية.

ومن تلك النماذج الفاعلة والخبرات الجيدة:

1- بناء مؤسسات استطاعت أن تقوم بدور كبير في استبقاء الفقه الإسلامي حاضرًا وفعالاً في وقت يراد فيه هدمه وإزاحته تمامًا عن الواقع المعيش، ولعل من أبرز تلك المؤسسات -التي جعلت أساسًا لمزاحمة المؤسسات التعليمية الإسلامية التي كانت تسود النظام التعليمي والتربوي في العالم الإسلامي، إلا أنها استطاعت أن تسهم عمليًا في تطوير الدراسات الفقهية، وتخرج علماءً أفذاذًا- مدرسة الحقوق الخديوية التي أنشئت في مصر أساسًا تحت اسم “مدرسة الإدارة والألسن” في أكتوبر (1868م) ثم ظهرت باسم “مدرسة الحقوق الخديوية” في الفترة من 1886م إلى 1925م، فهذه المدرسة ومن بعدها كلية الحقوق، ومن قبلها دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي، كانت تدرس فيها علوم حديثة، وعلوم فقه الشريعة الإسلامية، ومورست فيها دراسات القانون المقارن بتعاون وبجدل خصب ومتنام. بغير أي صراعات هدامة.. فاستخلصت “مدرسة” الفقه الإسلامي خير الفقه الغربي من حيث التنظير والتقنين، ومن حيث خيارات ما يصلح للمعاملات مما وسعته الشريعة الإسلامية، وانجذب من مدرسة الفقه الحديث من انجذب تقديرًا للمستوى الفذ الذي ظهر به فقه المسلمين.. وجرى ذلك في هذا المجال المؤسسي، ويجري بغير صراعات تنفي وتهدم، كما نلحظ في المجال السياسي([29]).

2- إجراء العديد من الدراسات المقارنة المعمقة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي: حيث اتخذ بعض العلماء وأساتذة الفقه والقانون سبيلاً مهمًا في مقاومة استلاب الشريعة الإسلامية بحجة تفوق القانون الوضعي وصلاحيته وحده للاحتكام إليه والحكم به في المنظومة التشريعية المعاصر، فما كان من هؤلاء العلماء والأكاديميين والباحثين إلا أن أجروا الكثير من الدراسات المقارنة لإثبات تفوق الشريعة الإسلامية على القانون الوضعي، أو على الأقل صلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان، فضلاً عن مقاومة “الاحتلال القانوني”، ومن هؤلاء، كل من: الشيخ مخلوف المنياوي، محمد قدري باشا، الشيخ أحمد أبو الفتح، الشيخ أحمد إبراهيم، الدكتور عبدالرزاق السنهوري، وغيرهم([30]).

3- جهود تقنين الفقه الإسلامي، سواء على أيدي بعض الأفراد من العلماء والباحثين، أو عبر بعض اللجان المشكلة من بعض البرلمانات: حيث جرت محاولات جادة لتقنين الفقه الإسلامي مواكبة لحركة التقنين التي سادت العالم الإسلامي عنوة –في البداية- ثم اختيارًا، بهدف إثبات أن الشريعة الإسلامية تقبل التقنين كذلك، ويمكن اللجوء إليها والاعتراف بمرجعيتها في هذا الشأن، ومن تلك الجهود، كانت مجلة “الأحكام العدلية” التي أصدرتها الدولة العثمانية في عام 1876م، وكانت أحكامها مستمدة من الفقه الحنفي بصفة عامة، ومبوبة على نسق التقنين الغربي، والتي كان من آثارها قيام حركة فقهية نشطة، فضلًا عن إصدار تلك التقنينات التي وضعها وزير الحقانية (العدل) المصري محمد قدري باشا في مجموعاته الفقهية “مرشد الحيران”، و”الأحوال الشخصية”، و”الإنصاف في أحكام الأوقاف”، والتي جاءت هي الأخرى مستمدة من المذهب الحنفي على غرار مجلة الأحكام العدلية([31])، ثم توالت تدفقت بعد ذلك حركة التقنين، لاسيما تلك التقنينات التي أصدرها الأزهر الشريف في فترة السبعينات من القرن العشرين مأخوذة عن الفقهاء الأربعة الكبار، أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، كل على حدة.

4- تطبيقات بعض الدول الإسلامية للشريعة: قد يُفهم من هذا العنوان الفرعي أن المقصود هنا تلك الدول التي ظلت تطبق الحدود الشرعية -بمعنى العقوبات المقدرة شرعًا- ولكن هذا الفهم في غير محلة، باعتبار أن هذه الدول استخدمت في الحقيقة المفهوم المخطوف لتطبيق الشريعة الإسلامية الذي يحصر الشريعة الإسلامية في عدد من العقوبات والجزاءات ومن ثم يبتعد عن المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية، الذي يشمل كل أحكامها الكلية والجزئية، القيمية والعقابية، الأخلاقية والفقهية، ومن ثم نستبعد بالقطع تلك المحاولات باعتبارها تثبت المفهوم الاستلابي لتطبيق الشريعة ولا تنفيه.

أما النماذج المقصودة في هذا الشأن، والتي كان نجاحها جزئيًا للأسف، فمنها مثلا تجربة باكستان حين أنشأت مجلسين عتيدين في المجتمع الباكستاني يتولى أولهما –وهو مجلس الفكر الإسلامي- مسؤولية مراجعة القوانين القائمة من وجهة الشريعة الإسلامية لتحديد أوجه التناقض واقتراح الحلول، وثانيهما: معهد البحوث الإسلامي الذي يقوم بإجراء البحوث في المجالات الاقتصادية والمالية والقانونية من وجهة الشريعة الإسلامية، لتيسير تطبيق أحكامها، بالإضافة إلى إنشاء “المحكمة الشرعية الاتحادية” عام 1980م، للقيام بمهمة مراجعة القوانين القائمة لتنقيتها مما يخالف أحكام الشريعة الإسلامية، والحكم بعدم شرعية أي نص قانوني يخالف أحكام الشريعة، لتستكمل مهمة مجلس الفكر الإسلامي النظرية بإضافة الطابع العملي إليها([32])، وهي تجربة تستحق الاحتذاء بإشراكها القضاء في حماية الشريعة، إلى جانب مجلس للفكر ومعهد للبحوث يساعدان القضاء في القيام بهذه المهمة، ليتضافر الجهدين النظري والعملي في سبيل إنفاذ الشريعة الإسلامية وإقصاء القوانين المخالفة لقطعياتها.

ومن تلك النماذج كذلك  تجارب معاصرة ناجحة من منظور آخر، مثل: تجربة ماليزيا حين نهضت على المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية الذي يدخل من ضمنه مقصد عمران الأرض وامتلاك القوة الاقتصادية اللازمة لقيام الدولة على أسس إسلامية حديثة، وتتبني المفهوم الحضاري الأوسع لتطبيق الشريعة الإسلامية استنادًا لأفكار مالك بن نبي على ما يبدو، وتركيا حين اختارت التنمية وتحرير الإرادة الوطنية واستقلالية القرار التركي قدر الإمكان، ومصر حين اختارت أن يشكل البرلمان (مجلس الشعب)  لجانًا علمية مكونة من رجال فقه وقانون وقضاء مخضرمين، كلفها بإعداد مشروعات لستة قوانين موافقة للشريعة الإسلامية وخالية مما يخالف نصًا شرعيًا قطعي الثبوت والدلالة، فقامت بمهمتها على الوجه الأكمل خلال الفترة من (1978-1982) وأنجزت تلك المشروعات المتميزة بالفعل، ولكن التجربة لم تكلل بإصدار هذه المشروعات لأسباب سياسية للأسف الشديد، وهي كلها نجاحات تحتاج إلى الاستكمال والتراكم والبناء.

5- طرح أفكار نظرية وعملية فعالة في كيفية التطبيق الصحيح للشريعة الإسلامية في عالمنا المعاصر: هناك العديد من الفقهاء والمفكرين الذين قدموا أفكارًا مهمة في مقاومة استلاب مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية، ومنهم الفقيه عبد الرزاق السنهوري، الذي رفض التلفيق بين الشريعة والقانون، وطالب بضرورة احترام الشريعة الإسلامية والإقرار بتفوقها على النظم القانونية الأخرى، وقدم مثالا عمليًا على ما طالب هو به، وذلك في كتابه: “مصادر الحق في الشريعة الإسلامية”، وكذلك في القوانين المدنية التي وضعها استنادًا إلى الشريعة الإسلامية في بعض الدول العربية، كالعراق والأردن.

وهناك كذلك الفهم المتقدم لمشكلة تطبيق الشريعة بوضعها ضمن إطار ناظم يتمثل في النظر الكلي إلى مشكلات المسلمين باعتبارها مشكلة حضارة أفلت وينبغي العمل على استعادتها من جديد، حيث تولى هذا الأمر المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي يكاد يكون هو أول ما طرح فكرة المشروع الحضاري الإسلامي، ودعا إليه، وأصل له، وهي فكرة شاملة تصب جميعها في صالح تحقيق المعاني المعمقة لتطبيق الشريعة الإسلامية وترسم خريطة جيدة للتعامل معها في عالمنا المعاصر، وقد قامت عليها بعض المؤسسات محاولة البناء عليها، مثل المعهد العالمي للفكر الإسلامي..

وتأتي في هذا السياق أطروحات المستشار طارق البشري، الذي رسخ المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية، ودافع عن كونها هي المرجعية والميزان الذي ظل سائدًا طوال التاريخ الإسلامي حتى جاء الاستدمار في العصر الحديث وأقصاها عنوة، وحاول تشويهها، ومن ثم طرح أفكارًا لاستردادها وعلى رأسها فكرته عن محاولة رد القوانين الوضعية إلى الشريعة الإسلامية باعتبار أن نصوص هذه القوانين يمكن التعامل معها على أساس أنها “أعراف” مثلما تعامل المسلمون مع أعراف البلاد التي فتحوها من قبل، حيث اعتدوا بها فيما لا يناقض حكمًا شرعيا قطعيًا، ثم إنه اقترح كذلك الكف عن التعويل على الدولة في هذا الشأن وعن مصادمتها بغية إجبارها على تطبيق الشريعة، منوهًا إلى أن الصحيح هو القيام بذلك عبر تخلل النظام القانوني القائم ورده إلى أصول الشريعة الإسلامية، وفق القواعد الأصولية والفقهية، وهي كلها أفكار تحمل طابع المنطق العملي الذي كان يدعو إليه مالك بن نبي المسلمين من قبل ويشكوا من افتقادهم إياه.

ولعل من الأفكار المهمة كذلك مطالبة الدكتور عبدالمجيد النجار بالتأطير العقدي والصياغة المقاصدية للأحكام الشرعية([33])، باعتبار أن ذلك يسهم في تحقيق المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية بالربط بين عناصرها الأساسية الثلاث، بل وقد يخدم القانون نفسه بربطه بالأخلاق والعقيدة التي تدفع المواطن إلى التطبيق الطوعي للتشريع، وكذلك مشروع الدكتور طه عبدالرحمن الأخلاقي الذي يبرز دور الأخلاق في الإسلام، وفي المنظومة التشريعية الإسلامية كذلك، وهو أمر تعرض له كذلك الدكتور أحمد الريسوني حين طالب باستعادة المفهوم الشامل للتشريع الإسلامي، الذي يتجاوز المعنى الضيق للتشريع الوضعي، ليشتمل على الجوانب العقدية والأخلاقية، والمقاصدية، فضلاً عن بقية التقسيمات الخمسة للحكم الشرعي إلى جانب الواجب والحرام وهي المندوب والمكروه والمباح([34]).

ومن ضمن هذه الأفكار كذلك ما طرحه المفكر خالد محمد خالد –وأشير إليه سابقًا في هذا البحث- من ضرورة إعادة الاعتبار لنصوص الشريعة الإسلامية المقاومة للاستبداد عند “تطبيق الشريعة الإسلامية”، وتقديم النصوص التي تحول دون انحراف نظام الحكم وجعله الشريعة الإسلامية مجرد قفاز يخفي به جرائمه ويسبغ عليها الشرعية.

وهذه كلها نماذج لأفكار تخترق حصار الغرب -والدولة الحديثة التابعة له- لمفهوم الشريعة الإسلامية وسبل تطبيقها في العصر الحديث، ويمكن أن نضيف إليها كذلك أطروحات كل من علال الفاسي وعلي شريعتي وفريد الأنصاري وغيرها من الأفكار التي تصب جميعها في تحرير الإسلام بصفة عامة من الاختطاف والاستلاب.

 

 

________________________________________________

([29]) انظر: مقدمة طارق البشري لكتاب: محمد إبراهيم طاجن، أثر مدرسة الحقوق الخديوية في تطوير الدراسات الفقهية (1886-1925م)، الكويت- لبنان، مركز نهوض للدراسات والنشر، ط1، 2020م، ص24، 31 (بتصرف).

([30]) انظر للمزيد من التفاصيل حول هذه الدراسات: محمد إبراهيم طاجن، أثر مدرسة الحقوق الخديوية في تطوير الدراسات الفقهية، المرجع السابق، ص365-388.

([31]) يراجع كل من: س. س. أنر، مجلة الأحكام العدلية، ترجمة: رضوان السيد، مجلة الاجتهاد، بيروت: دار الاجتهاد، ع3، ربيع 1989م، ص203، 217. ومحمد أحمد سراج في تعليقه على كتاب: في تاريخ التشريع الإسلامي، ن.ج. كولسون، مراجعة: حسن محمود عبد اللطيف الشافعي، الكويت، دار العروبة، القاهرة، دار الفصحى، 1402ه/1982م، ص303 -304 (هامش رقم 2)، ومحمد كمال الدين إمام، نظرية الفقه في الإسلام (مدخل منهجي)، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1418هـ/1998م، ص308، 305.

([32]) انظر: محمد أحمد سراج، “الفقه الإسلامي والتغير القانوني في البلاد الإسلامية في القرن العشرين”، مرجع سابق، ص272-284.

([33]) انظر بحثه المعمق: المقتضيات المنهجية لتطبيق الشريعة في الواقع الإسلامي الراهن، لبنان: مجلة المسلم المعاصر، السنة السابعة والعشرون، العدد 105، سبتمبر 2002م، منشور بموقع المجلة: https://almuslimalmuaser.org/.

([34]) انظر كتابه: الكليات الأساسية في الشريعة الإسلامية، الرباط: إصدارات اللجنة العلمية بحركة التوحيد والإصلاح، ط2007، ص15-19.

 

(*) باحث مصري مهتم بدراسة الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها في الدساتير والقوانين المعاصرة، حاصل على الدكتوراه في القانون العام والشريعة الإسلامية.

والمقال من بحث محكم منشور في مركز “رؤيا للبحوث والدراسات.

Exit mobile version