اقرأ!

2020-07-15_12h37_57.jpgحين أتفكر في الآيات الأولى من سورة «العلق»، أستشعر مكانة القراءة والعلم، وفضل مَن يقرأ ويتعلم، فلم تنزل أول آية من القرآن تدعو إلى الصلاة أو الحج، أو الصوم والصدقة، كما أنها لم تكن أمراً من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يطيل مكثه في غار حراء ويكثر من عبادته لله تعالى.

أليس في هذا تشريف للقراءة ودعوة إليها وإرشاد لنا ودلالة على أهميتها كسبيل للمعرفة وأداة رئيسة من أدوات العلم، وأن ثمة علاقة وثيقة تربط بين القراءة وبين القلم إذا اجتمعا؟! كما أن في هذا أيضاً تعليماً لنا، وإشارة إلى أن العبادة تحتاج لعِلمٍ يبيِّنها، وأن القراءة وسيلة من وسائل هذا البيان إذا كانت باسم الله تعالى وعلى منهجه سبحانه، وأن مما يعين عليها الإخلاص والتوكل على الله والاستعانة به والاستفادة من القلم في حفظ ما يُقرَأ.

تزكية النفس

إن القراءة وسيلة مهمة من وسائل تزكية النفس، أليست قراءة القرآن والعلم الشرعي النافع من أعظم الأسباب لتزكية النفوس وسلامة القلوب؟ فالقراءة لا غنى عنها لمعرفة أي علم.

وقد تكون قراءة العلوم بأي لغة، لكن أشرف اللغات على الإطلاق اللغة العربية التي اختارها الله تعالى لكتابه الكريم، لذا فإننا إذا أردنا تعلم القرآن الكريم لننعم بتلاوته في خلواتنا وتصح عيوننا بالنظر في صفحات المصحف الشريف، ونفوز بالأجر المترتب على تلاوته؛ فلا بد لنا من تعلم القراءة الصحيحة له، ومعرفة اللغة العربية التي أنزل بها حتى نتدبر آيات القرآن الكريم ونفهم ما نقرأ، ومن هنا نجد أن كثيراً ممن يسلمون يسارعون في تعلم اللغة العربية ويحاولون معرفتها قراءة وكتابة.

ومما يزكي النفس قراءة قصص الأنبياء، وسِيَر الصحابة والتابعين، والقراءة في كتب تاريخ الإسلام وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وما كتب العلماء في كتب التزكية والرقائق، وكل ذلك من القراءات المزكية التي نُؤْجَر عليها إذا ما خلصت النية فيها، أمَّا تعلُّم علوم الشريعة كالفقه والحديث وتدارسها مع الشيوخ والعلماء فلا غنى فيه عن القراءة؛ حتى نتعلم ونتزكى بالعلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن يُرِدِ اللهُ به خيراً يُفقِّهْهُ في الدِّينِ» (رواه مسلم).

القراءة بين الحاضر والماضي

كانت القراءة في وقت ما جزءاً مهماً من حياة الناس لا غنى عنه، وكان حبها يكبر معهم حين يكبرون، وأتذكر كيف كان البعض يدخر بعض القروش من مصروفه الزهيد ويُؤْثر بها كتاباً يشتريه أو قصة يرغب فيها، ويفضل ذلك على قطعة الحلوى التي يحبها! وكانت أمنية المرء أن تكون عنده مكتبة يجد فيها الكتاب تحت عينيه وبين يديه.

أما في عصرنا هذا، فقد سارت القراءة مساراً مختلفاً في وقت عمَّ فيه التعليم، وحصل الكثيرون على الشهادات الجامعية، وصرنا في عصر الإنترنت والثورة الرقمية العارمة التي وصلت معظم البيوت، فتعددت معها أشكال القراءة وتنوعت ألوانها، وأدت إلى هجر الكتاب الورقي النفيس بعد أن كان البعض ينام وهو يحتضنه، وكاد أن يُنسى شكله مع التخلص من المكتبات المنزلية التي كانت تضم ما لذَّ وطاب مما هو زاد العقول والنفوس والقلوب والأرواح، التي كان مجرد رؤيتها يذكّر بالقراءة، فتحولت المكتبات الحائطية الورقية إلى مكتبات إلكترونية مرئية عبر صفحات النت، تحوي ما نريده وما لا نريده، الطيب والخبيث، الصحيح والسقيم.

وبذلك صارت معلوماتنا «إنترنتية» تحتاج إلى تنقيح وترجيح، وأصبحت قراءاتنا «تليفونية» تحتاج إلى تنقية ومصداقية! ومع هذا فلا أحد ينكر فضل الخدمات الرائعة التي تقدم للناس عبر الإنترنت، فهناك مواقع بها آلاف الكتب الشرعية والعلمية النافعة في كل التخصصات، وهي نفسها لم تصل إلينا إلا من خلال أناس يحبون القراءة ويشجعون عليها، بل ويقرؤون، وإلا ما وصلت إلينا، وهذه ثمرة من ثمرات القراءة.

أشكال القراءة

وتبعاً لما استجد في حياتنا، فقد صار للقراءة أشكال عديدة، منها ما هو مثمر، ومنها ما ضره أكثر من نفعه، ومنها ما يضر ولا ينفع، وتتعدد أشكال القراءة من حيث مادتها وكيفيتها، ومنزلتها وأهميتها، فأشرف القراءة على الإطلاق قراءة كتاب الله عز وجل، وقراءة تفسيره لفهمه وتدبره، كما أن من العلم ما هو واجب عيني على كل مكلف، من وسائل تحصيله ودراسته ومراجعته القراءة! وهذه إن جاز لنا تسميتها فهي قراءة واجبة.

إن الكتاب هو الأصل في القراءة، سواء كان الكتاب ورقياً أم إلكترونياً، وعلى القارئ أن يكون واعياً، فيتخير لقراءته المواقع الموثوقة، وعلى منهج أهل السُّنة والجماعة، حتى لا يضيّع وقته ويتشوّه ذهنه، ومن نظر في طريقة قراءة البعض في هذه الأيام فسيجد أن القراءة في مأزق! وسيرى أشكالاً غريبة منها لا تثمر، كالقراءة السطحية التي تكون بلا هدف ولا تركيز، خلال شاشات المحمول، فتعمل فيها العين كالماسح الإلكتروني دون تركيز أو تدقيق، وهذه لا تفيد كثيراً.

ومثلها القراءة السحبية التي تسحب القارئ دون أن يشعر، فيتنقل من موضوع لآخر فضولاً منه من غير ترتيب أو هدف أو غاية، وهذه أيضاً تضيّع الوقت أكثر مما تفيد القارئ، أما القراءة الهوائية فيتلقى فيها القارئ كل ما يصله عبر الهواء، كرسائل «واتساب» و»فيسبوك»، وكثير منها لا دليل على صحته، فتكون ثمرة قراءته مُرة المذاق أو لا طعم لها، وربما كانت بلغة عامية ركيكة أو بلهجة محلية تشوّه جمال العربية الفصحى.

ومما يزيد الأمر سوءاً تلك القراءة المسمومة في المواقع المشبوهة، أو المناوئة للإسلام التي تشوّه العقيدة، وتشكك في الدين، وتدعو إلى الإلحاد، أو تسبّ الصحابة وتقدح في عدالتهم، أو تزيّف التاريخ، فثمرة هذه القراءة سامة ومهلكة وقاتلة! 

ومن القراءة المطلوبة القراءة الوظيفية التي تؤدي إلى إتقان التخصص الوظيفي وتطور المستوى العلمي فيه، لكنها قد يحصل الإسراف فيها على حساب غيرها من القراءات الأخرى المطلوبة، ومنها القراءة البحثية التي يقوم بها الباحثون فينقبون في بطون الكتب للبحث وعمل البحوث العلمية ليقدموا إلينا ثمرة جهودهم العلمية في مختلف التخصصات، وعلى العكس من هذا وذاك؛ فهناك قراءة المصلحة الشخصية للاختبار والحصول على الشهادة ومن بعدها لا كتب ولا قراءة!

ومن أهم أنواع القراءة التي كادت تُفقَد القراءة التربوية لتنشئة الأطفال على القيم الجميلة والأخلاق العالية والعقيدة الصحيحة، ومن أحب صورها لهم قصة ما قبل النوم التي أصبحت الآن شبه منعدمة.

اقرأ.. نعم.. اقرأ.. وليقرأ كل منا كل يوم ولو قليلاً، من الكتاب الورقي أو الكتاب الإلكتروني.

اقرأ.. وجدّد النية على المداومة على القراءة وتقرب بها إلى الله تعالى حتى تكون عبادة.

اقرأ.. فلا يستوي مَن يقرأ مع من لا يقرأ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله..» (رواه مسلم).

اقرأ.. وتعرف على الكتب الطيبة، واعقد بينك وبينها معاهدة صلح وصداقة ووفاء، تبدؤها بحسن الاختيار، وترويض النفس على القراءة ولو صفحة واحدة تزيد يوماً بعد يوم.

اقرأ.. حتى تغذي عقلك، وتزكي بما تقرأ نفسك، وتدرك به مطلبك، وتزد به علمك.

اقرأ.. فالقراءة مفتاح العلوم، وقد خلف لنا العلماء ثروة علمية هائلة ظلوا بها بيننا أحياء بعد موتهم.

اقرأ.. فلولا تعليم الله لنا وهدايتنا للقراءة ما كان كتاب، ولا انتشر علم ولا تعلم متعلم، وما كانت مدرسة وما أقيمت جامعة، وما درست العلوم.

اقرأ.. فبدون القراءة لن توجد حضارة، ولن تجد معلماً ولا تلميذاً، ولا طبيباً ولا دواء، ولا مهندساً ولا بناء، فكل ذلك يحتاج إلى العلم، ومفتاح العلم القراءة.   

اقرأ.. وشجّع غيرك على القراءة وشارك في التعريف بالكتب المفيدة.

Exit mobile version