الوجوه الحضارية في الصدقة النبوية

لم يعلم شخص في تاريخ البشرية كان أسرع إلى الصدقة من محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم-، فقد كان في إخراجها كالريح المرسلة، حتى إنه لم يكن يبقي لنفسه ولا لأهل بيته شيئا من شدة انشغاله بالفقراء والمساكين.

وقد عرف عنه – صلى الله عليه وسلم- أنه كان يجود بالكثير والقليل، لأن العبرة ليس بالخارج من المال، وإنما كون الصدقة منهجا في حياته، وعادة من عاداته.

وقد خط النبي صلى الله عليه وسلم منهجا حضاريا في إخراج الصدقات يتجاوز المعنى المجرد لإخراج الصدقة إلى ما هو أبعد من ذلك، ومن معالم ذلك:

المداومة على إخراج الصدقة:

فقد كانت الصدقة أحد أفعال النبي صلى الله عليه وسلم الدائمة التي لا ينقطع عنها، في أي حال من الأحوال، حتى إن لم يكن عنده شيء إلا قليلا أخرجه، أو أخرج منه، روى الإمام أحمد بسند جيد، عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- سائل فأمر له بتمرة، فلم يأخذها أو وحش بها، ثم أتى سائل آخر فأمر له بتمرة فقال سبحان الله، تمرة من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- للجارية «اذهبي إلى أم سلمة، فأعطيه الأربعين درهما التي عندها» [ أحمد 3/ 155، 260. ] .

وروى الزجاجي في «أماليه» عن أنس بن مالك أن سائلا أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فأعطاه تمرة، فقال السائل نبي من الأنبياء يتصدق بتمرة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «إنما علمت فيها مثاقيل ذر كثيرة» .

العطاء عند السؤال:

وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا سئل أعطى، مهما كان، فكان لا يرد السائل إذا سأله.

أخرج أبو داود بسنده عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه-   عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “للسائل حقٌّ ولو جاء على فَرَسٍ، ولا تردُّوا السائلَ”.

وفي صحيح سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال: ” بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر؛ إذ جاء رجل على ناقة له، فجعل يصرفها يمينا وشمالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”من كان عنده فضل ظهر؛ فليعد به على من لا ظهر له. ومن كان عنده فضل زاد؛ فليعد به على من لا زاد له”، حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا في الفضل.

الفرح بالصدقة:

كان النبي – صلى الله عليه وسلم- يفرح بالصدقة ويدخل السرور قلبه بها أكثر من فرح السائل بما أعطاه، وذلك أن السائل يفرح للعطية وسد الحاجة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يفرح بطاعة الله تعالى، وكان يفرح بفرح الله سبحانه، فما أعظم فرح الله حين يرى عباده الأغنياء يغدقون على عباده الفقراء.

كما أن للفرح بالصدقة وجها آخر، ألا وهو تعليم النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين الفرح بطاعة الله تعالى، فكثير من المسلمين يحزنون حين معصية الله تعالى، وهذا من الإيمان، لكن قل من يفرح بطاعة الله، وهذا من الخطأ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:” إذا سرتك الحسنة، وأساءتك السيئة؛ فأنت مؤمن”.

الإيثار على النفس:

فكان من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه إن جاءه سائل يسأله، والنبي صلى الله عليه وسلم في حاجة إلى ما عنده، يؤثر السائل على نفسه، فكان تارة يكون الطعام أمامه ليس عنده إلا هذا الطعام ليأكله، فيطرق السائل بابه، فيعطيه الطعام ولا يأكل.

بل ربما جاءه الرجل ليس عليه ثياب، أو ثيابه مهلهلة يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم ثيابا، فيعطيه النبي صلى الله عليه وسلم الثياب التي عليه أو التي يكون بحاجة إليها، ويؤثر السائل على نفسه.

التنوع في الصدقة:

وكان من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم- أن ينوع في صدقته للمحتاجين، فكان تارة يعطي المال للناس هبة، وتارة يعطي المال هدية.

وتارة يشتري الشيء ويعطي البائع الثمن والسلعة جميعا، كما فعل مع جابر بن عبد الله، كما أخرج الشيخان وغيرهما واللفظ للبخاري  عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما -: قال: كنت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سفر، وكنت على جمل ثفال، إنما هو في آخر القوم، فمر بي النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال: «من هذا؟» . قلت: جابر بن عبد الله، قال: «مالك؟» قلت: إن على جمل ثفال ، قال: أمعك قضيب؟ قلت: نعم. قال: «أعطنيه» ، فأعطيته، فضربه وزجره، فكان من ذلك المكان في أول القوم، قال: «بعنيه» ، فقلت: بل هو لك يا رسول الله، قال: «بل بعنيه، قد أخذته بأربعة دنانير، ولك ظهره إلى المدينة» ، فلما دنونا من المدينة أخذت أرتحل، قال: أين تريد؟ قلت: تزوجت امرأة قد خلا منها، قال: «فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟» قلت: إن أبي توفي وترك بنات، فأردت أن أتزوج امرأة قد جربت، وخلا منها، قال: «فذلك» ، قال: فلما قدمنا المدينة، قال: «يا بلال، اقضه، وزده» ، فأعطاه أربعة دنانير، وزاده قيراطا ، قال جابر: لا تفارقني زيادة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن القيراط يفارق قراب جابر بن عبد الله.

وهي فكرة حضارية في إعفاف الفقراء، فقد نشتري منهم الشيء ونعطيهم الثمن والسلعة معا، فلا يتكلوا على المسألة، ولكن نحثهم على العمل والإنتاج، وفي ذات الوقت نكرمهم أحيانا بالثمن والسلعة.

القرض والرد بالزيادة:

وكان من وجوه الصدقة الحضارية عند النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقترض م الرجل المال فيرده إليه بالزيادة، ولا يقال إن هذا من الربا المحرم، لأن المقترض لم يشترط رد الزيادة، ولكنه من الربا الحلال، الذي يكون من باب الفضل عند الرد، وليس من باب الاشتراط عند العقد.

شراء الشيء أكثر من ثمنه:

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في الصدقة أنه كان يشتري الشيء ويسأل عن ثمنه، فيعطي البائع أكثر من الثمن.

وهي وجه من وجوه الصدقة الحضارية، ويستحب فعلها مع الباعة الجوالة، أو الباعة الذين نشعر من حالهم أنهم فقراء، فالزيادة في الثمن لا تضر صاحبها كثيرا، لكنه يؤجر بها عند الله إن أعطى فوق الثمن زيادة منه، وأن يقصد بذلك اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

قبول الهدية والمكافأة عليها بأكثر:

وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبل الهدية من غيره، ولكنه كان يكافئ من أعطاه الهدية بهدية أعظم منها..

وقد ورد عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويُثيبَ عليها. رواه البخاري وغيره.

وعن أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” تهادوا فإن الهدية تُذهبُ السخيمة”. وعن ابن عمر – رضي الله عنهما- قال النبي صلى الله عليه وسلم:” تهادوا تحابوا”.

ومن ذلك ما ورد عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من رطب واجر زغب فأعطاني ملء كفه حليا أو ذهبا فقال تحلي بهذه يا بنية”.

وكان من هديه أن يدعو من أهداه لقبول هديته بالقبول دون تسخط، فقد اخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن هريرة – رضي الله عنه – «أنَّ أعربياً أهدى إلى رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم- بَكْرَة، فعوّضه منها سِتَّ بكراتٍ فَتَسَخَّطَ، فبلغ ذلك رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم- فحمِدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: إنَّ فلاناً أهدى إليَّ بَكْرة، فعوَّضتُه منها سِتَّ بَكَرات، ويظلّ ساخِطاً، لقد هَمَمْتُ أن لا أقبل هديَّةً إلا من قُرَشِيٍّ، أو أنصاريٍّ، أو ثَقَفيٍّ، أو دَوْسِيّ» .

وهذا مما ينشر الأمن والطمأنينة في المجتمع، وينشر المحبة بين الناس.

الدعوة إلى الصدقة:

وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتوقف حاله عند إخراج الصدقة، بل يحث الناس عليها، فيتأثر به غيره، ويعين البخلاء على التداوي من ذلك الداء العضال، ويتقفى أثره في الصدقة من أحبه.

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة يحث فيها على الصدقة، من ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن حارثة بن وهب – رضي الله عنه -: قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: «تصدقوا، فيوشك الرجل يمشي بصدقته، فيقول الذي أعطيها: لو جئتنا بها بالأمس قبلتها، فأما الآن، فلا حاجة لي فيها، فلا يجد من يقبلها منه»

ومنه – أيضا- ما أخرجه الشيخان عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: «ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب، ثم لا يجد أحدا يأخذها منه، ويرى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة، يلذن به من قلة الرجال وكثرة النساء».

وعند البيهقي عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: «بادروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها”.

فما أحوجنا اليوم إلى الوجوه الحضارية في الصدقة..

من الهبة والهدية… شراء السلعة وردها مع الثمن.. شراء السلعة بثمن أكبر.. قبول الهدية وردها بأعظم منها….رد القرض بالزيادة دون اشتراط.

Exit mobile version