رسالة المسرح وَدُوْر السينما في تربية النشء والشباب العربي

 “المسرح أبو الفنون” كما يقال؛ ذلك لأن في إهابه أكثر من فن من فنون القول؛ فمادتُه الكلمةُ المكتوبة أو “السيناريو” ووسيلته العرض على خشبة المسرح، وشخصياته كشخصيات القصة والرواية غير أنها شخصيات من لحم ودم، وليست شخصيات على الورق كما الرواية والقصة. والسينما شاشة كشاشة التلفاز، أو كشاشة الجوال الذي يُعَدُّ من مفردات حياتنا- إن لم يكن أهمها- والمقياس في الحكم على السينما وأخواتها إنما هو في الاستخدام، ونوع المعروض؛ فهي أدوات تَعْرِضُ كلامًا  مكتوبًا عبر تمثيل الأدوار.. وإذا كانت الكلمة هي مادة السينما والمسرح، فإنّ الإسلام قد حدّد الموقف منها ابتداءً، فقال عزَّ مِن قائل:( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )سورة ق:18،  فالإسلام يربِّي المسلم على الرِّقابة الذّاتية؛ لأنها مفتاح الشخصية الصادقة الواثقة من نفسها، ذات الضمير الحَيّ، المُستشعرة عظمة الله عزّ وجَلّ ورقابته مصداقًا لقوله تعالى:( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ) ومعنى ذلك: “أن الله سائلٌ هذه الأعضاء عما قال صاحبها، من أنه سمع أو أبصر أو علم ، تشهد عليه جوارحه عند ذلك بالحقّ” انظر: تفسير الطبري، سورة الإسراء.

   وهذه الفنون لم يرفضها الإسلام في المطلق، كما أنه لم يقبلها على عِلَّاتها، وإنّما يتحدد رفضها  أو قبولها بناء على أساليب التناول، وطرائق التوظيف والاستخدام، فما كان منها صاحب رسالة سامية، تَبْنِي وتُعَزِّزُ القِيَم الإيجابية قُبِلَ ودُعِمَ، وما كان منها داعيًا إلى تقويض بناء المجتمع، وهدم أركانه رُفض ونُبِذ؛ ذلك لأن لهذه  الفنون أهدافًا وغايات، وليست مجرد تزجية لأوقات الفراغ، ولا وسيلة لنشر الرذيلة، ولا أدوات للتكسب على حساب ثوابت الأُمّة وثقافتها وإرثها الحضاري، بل إن عكس ذلك هو ما يجب أن يكون؛ أن تُقدّم أعمالٌ رصينة، فيها  من نُبل الغاية وشرف المقصِد ما يرفع الهِمم، ويدفع الشباب والنشء إلى الاعتزاز بأُمَّتِه؛ تاريخها وتراثها، ماضيها وحاضرها، فيتربّى وجدان النشء والشباب على طلب العُلا، فلا يرضى بالدون، ولا يبيت ويصبح وأمله في يومه وليلته انتظار مباراة تُذاع لا ناقة له فيها ولا جَمَل، أو مشاهدة مشهد هابط في فيلم أو مسلسل يُعرَض ويُقدَّم بلا فائدة منه تُرجى وتُنشَد، وإنما الهدف أن تدفعه تلك الأعمال الفنية النظيفة العالية المستوى إلى اكتشاف ذاته، وتنمية مهاراته، وتعزيز ما لديه من قُدرات. وتاريخ هذه الأمة وتراثها مليء بالكنوز، زاخر بالنماذج التي تحتاج إلى من يميط عنها اللثام، ويزيل عنها غبار النسيان أو التجاهل، ويفتح عليها نافذة جديدة من أجل إنتاج نصوص جيدة تستلهمها، وتصاغ بلغة عصرية، وإخراج مُمَيَّز تكون عين صاحبه مصوَّبة فيه على مكامن العظمة، ومواضع الإبداع، وتمثيل صادق كاشف عن العوالم النفسية الكامنة وراء ما يتقمص من شخصيات، على أن الأمر  لن يقتصر على استدعاء التاريخ وكتابته على نحو عصري فحسب بل سيتعدى ذلك ويتخطاه إلى توليد أعمال جديدة، تراعي متطلبات العصر، واهتمامات الشباب، وتضع في حسبانها أن أبناءنا لم يُخْلَقوا ليعيشوا نُسخًا مُكرّرة مِنَّا؛ فلكل عصر رجاله، ولكل زمان أدواته ووسائله.

      إنَّ على المبدع المسلم أن يرتاد آفاق الإبداع الواسعة، لا تحدّه حدود إلا أوامر الشرع ونواهيه، ولا تقف أمامه عقبات في سبيل نُشدان الحقَّ والخير والجمال، وعليه أن ترتفع هِمّته في نَصِّه المكتوب، أو إخراجه المطلوب، أو في تصويره الرائق، عليه أن يصل في عمله إلى أقصى غايات التجويد، ولا يقنع بالقريب المُبتَذل بُحجّة أن أذواق الناس هي من تحكم وتتحكم بل إن تشكيل تلك الأذواق إنما ينبع من بين ثنايا كلماتك ، ومن وحي إبداع إخراجك أو تمثيلك أو تصويرك أنت؛ لذا لتعلُ هِمّتك كي تعلوَ معها هِممَ جمهورك، وبمقدار تعب من يتاجر بالفن الهابط وجهده أَ ليس من الأوْلَى والأجدر أن يكون تعبك أنت وجهدك مضاعَفًا في سبيل إنتاج فن جيِّد يخلِق أجيالًا تعي وتُدرك؟! ألا يُعد ذلك هدفًا عاليًا يستحق الجهد والتعب؟! ولتَتَمَثّل قول المتنبي:

 إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ              فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ

فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ               كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ

   إنّ للمسرح والسينما أدوارًا اجتماعية، وغايات تربوية تقوم بها، وتُشَكِّل بها وجدان الجمهور، ولا تعني هذه الأدوار وتلك الغايات أن يتخلف الجانب الفني عنها فيجانبها ولا يسير في ركابها بل يتحتم على تلك الأعمال المُقدَّمَة أن تكون أعمالًا رصينة، ذات جودة فنية عالية؛ أسلوبًا وصياغة ومعالجة، وألا تكون منفصلة عن الواقع بل هي بنت ذلك الواقع، تقف على قضاياه فتتماسَّ معها؛ تحاورها وتأخذ بيدها لإيجاد حلول عملية لما قد يكتنفها من مشكلات، بل إنها -في بعض الأحيان- تستشرف بها المستقبل فتستبق الزمن في وضع حلول لمشكلات قد تقع، أو فتح آفاق جديدة نحو تطور قد يحدث أو مُختَرَع قد يتم كشف الغطاء عنه؛ وإذا كانت المخترعات العلمية قد مثّلت نقطة انطلاق لبعض الأعمال الأدبية فإنَّ عكس ذلك قد حدث؛ فاستلهم بعض المخترعين بعض الأعمال الإبداعية فقادهم ذلك إلى تقديم اختراع نفعوا به البشرية، فتحوّل الخيال على أيديهم إلى حقيقة، فأسهم بذلك المؤلفون والكُتَّاب المبدعون في تطوير مجتمعاتهم، وتشكيل العالم من حولهم، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فإذا ما عدنا أدراجنا للوراء فسنجد – إضافة إلى الإلياذة لهوميروس- أن رواية “كوخ العم توم لـ “هارييت بيتشر ستو ” 1852 م، من أكثر الأعمال تأثيرًا على حركة التحرر من العبودية، واستغلال البشر  بل إنها ساعدت أمة كاملة على تغيير قوانينها الجائرة والتحرك لرفع الظلم عن العبيد وحققت نقلة نوعية لحياة الملايين للأفضل وهكذا يكون دور الأدب!! وتُعدُّ فكرة جهاز «مزيل الرَّجَفَان الإلكتروني» الذي اخترعه العالم الأمريكي ويليام كوين هوفن عام 1930 وأعاد به تنظيم ضربات القلب عن طريق الكهرباء، مستوحاة من رواية فرانكشتاين الشهيرة للروائية البريطانية «ماري شيلي» التي كتبتها عام 1818.

وقد ألهمت رواية “العالم يتحرر” للروائي الإنجليزي “هربرت جورج ويلز” عالم الفيزياء المجرى الأمريكي “ليو زيلارد” فأسهم في اختراع أول مفاعل نووي، وتطوير القنبلة النووية إبان الحرب العالمية الثانية، حيث كانت تتحدث الرواية عن قنابل تُلقى من الطائرات وعند اصطدامها بالأرض فإنها تُحدِث أثرا بالغًا فيها.

    وقد أثارت فكرة  رواية الروائي البريطاني جورج أورويل “1984” عن التنبؤات المستقبلية “والمراقبة المستمرة”  خيال الكثيرين من مطوري التكنولوجيا في العصر الحديث؛ فانتشرت كاميرات التصوير والتسجيلات الصوتية وتحليل البيانات على نطاق واسع، بل إن الروائي الفرنسي رائد أدب الخيال العلمي “جول فيرن” قدَّم في عام  1886رواية “روبور الفاتح” والتي تُعرَف أيضًا باسم” مقص الغيوم” قدّمَ فيها صورة مَرْكَبَة طائرة تشبه الهليكوبتر، وقد ألهمت تلك المركبة المهندس الروسي إيجور إيفانوفيتش سيكورسكي  فقام بتصميم أول طائرة متعددة المحركات وأجنحة ثابتة للطائرات.  

       وقد تنبأت رواية الخيال العلمي: )”النظر إلى الماضي 1887 لـ2000″ للكاتب المحامي الأمريكي “إدوارد بيلامي” التي نُشرت عام 1888م( ببطاقات الائتمان التي نستخدمها اليوم، وقد حملت في القصة نفس الاسم “بطاقات الائتمان”. ويزداد الأمر وضوحًا إذا عرفنا أن الطاقة الشمسية قد تنبأ بها الكاتب والمخترع الأمريكي «هوجو جيرنزباك»  كما تنبّأ أيضًا  بكثير من الاختراعات الحديثة؛ كجهاز التلفاز والأقمشة المصنوعة من ألياف اصطناعية وكذلك رحلات الفضاء، وهكذا نجد أن للأعمال الأدبية دورًا كبيرًا في خدمة المجتمعات بل والإنسانية جمعاء، فلماذا لا يكون لدينا كُتّاب مبدعون على هذه الشاكلة؟ ولماذا لا يصبح لشاشة السينما، وخشبة المسرح دور فاعل في تكوين جيل راشد؟! ولماذا تعمل مؤسسات التعليم في بلادنا العربية في جزر منعزلة عن تلك الفنون؟!

 بل، لماذا يصبح البطل على شاشات السينما نموذجًا رديئًا، لا يراعي قيم المجتمع، ولا يضع في حسبانه حُرمة البيوت؟! لماذا نصدِّر للنشء تلك الصورة الشائهة التي يظهر فيها البطل رمزًا للانتقام؟ وعنوانًا للتعدّي على الخصوصيات؟ ومثالًا في كسر القانون من غير عقاب، بل تتبعه صفقات الجمهور استحسانًا لا استهجانًا؟!! لماذا لا يكون البطل بطلًا حقيقيًا يحمل رسالة مجتمعه، ويبني مع غيره صروح المجد لأُمّة تشتاق لأمجاد لها غبرت؟! ولمكامن عِزّة فيها طُمست؟!

     إنّ جريرة الجناية على الذوق العام إنما تقع على كاهل أولئك القائمين على تلك الفنون الرّاقية، والتي ما ارتقت إلا بأهل الرقي، ولا انحدرت إلا تحت معاول هؤلاء الداعين إلى كل ردئ رغبة في شهرة زائفة، أو طلبًا لمال زائل.. فهل تُرانا قادرين على تقديم مسرح راقٍ، وعرض نماذج مشرقة على شاشات السينما في عالمنا العربي؟! سؤال يحتاج لجواب.

Exit mobile version