هيا نسعد جميعاً

من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض ولكن الغِنَى غنى النفس» (رواه البخاري ومسلم)، والمتأمل في هذا الحديث يجد أن حقيقة الغنى أن يرضى الإنسان بما أعطاه الله فيعيش سعيداً هانئ النفس مطمئن القلب، يقول القرطبي: «إذا استغنت النفس كفَّت عن المطامع فعزّت وعظمت، وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله مَن يكون فقير النفس لحرصه».

وانطلاقاً من هذه القاعدة العظيمة، واستكمالاً للمقال بالعدد السابق «كأس العالم للسعادة»، نسرد سريعاً ما جاء في كثير من مقالات الصحة النفسية عن طرق الوصول إلى السعادة في العصر الحديث وكيف جاء الإسلام بها من قبل.

1- عدم المقارنة:

من الحديث النبوي المذكور، فإن ما يعين على ذلك أن الإنسان يجتنب المقارنات، فلا يقارن نفسه بالآخرين على سبيل تنقص نعمة الله، ولكنه إن كان ناظراً ولا بد فلينظر إلى من هو دونه في الأمور الدنيوية، ولذلك جاء القرآن بقوله تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا) (طه: 131).

وفي الحديث: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» (متفق عليه، واللفظ لمسلم)، وفي رواية البخاري: «إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّل عليه في المال والخَلْق فلينظر إلى من هو أسفل منه».

انتشر اليوم مقارنة الناس أنفسهم بحسب ما يتداول في الإنترنت من صور ومقاطع يعرض فيها الطعام والملابس والجمال واقتناء الماركات العالمية، وكثرة الترحال والسفر والسياحة، فيقع مَن لا يملك في الإحساس بالألم والحسرة والشعور بالنقص، ويقع من يملك في المفاخرة والتعرض للغيرة والحسد.

 

2- التبسم:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئاً، ولو أنْ تَلْقَى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ» (رواه مسلم)، وقال: «تبسُّمُكَ في وجهِ أخيكَ صدقةٌ» (صحيح ابن حبان)؛ فالابتسامة إحدى وسائل غرس الألفة والمحبة بين الناس، ومما ثبت في استحباب البشاشة وطلاقة الوجه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّكُم لا تَسعونَ النَّاسَ بأموالِكم، ولكن يسَعُهُم مِنكُم بَسطُ الوجهِ وحُسنُ الخلُقِ» (أخرجه البيهقي، وحسنه الألباني)؛ فهو عمل يسير وأثره كبير؛ فحين يبتسم الإنسان للآخرين فهم أيضاً يبتسمون له فيحصل الراحة لكل منهم، يقول الله عز وجل: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ) (آل عمران: 159)، وقد كان صلى الله عليه وسلم دائم البشر سهل الخلق لين الجانب.

3- الرياضة البدنية:

نُشرت كثير من المقالات عن أثر الرياضة والحركة لمعالجة الاكتئاب، حتى إنه يقال: إنها أكثر تأثيراً من مضادات الاكتئاب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ..» (رواه مسلم)، «والقوة في هذا الحديث هي قوة الإيمان والعلم والطاعة، وقوة الرأي والنفس والإرادة، ويضاف إليها قوة البدن إذا كانت معينة لصاحبها على العمل الصالح» (الإسلام سؤال وجواب). 

عرف عن المتخصصين قولهم: إن السعداء من الناس عادة ما يكون لهم أسرة وأصحاب وعلاقات طيبة، قال تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) (النساء: 36)، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أربعٌ مِن السَّعادةِ: المرأةُ الصَّالحةُ والمسكَنُ الواسعُ والجارُ الصَّالحُ والمركَبُ الهنيءُ، وأربعٌ مِن الشَّقاوةِ: الجارُ السَّوءُ والمرأةُ السَّوءُ والمسكَنُ الضَّيِّقُ والمركَبُ السَّوءُ» (صحيح ابن حبان)، فالمقصود هنا سعادة الدنيا براحة الأبدان وصلاح الحال، وذكر فيها الزوج والجار من باب العلاقات.4- الأسرة والصحبة:

5- شكر المعروف:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يشْكُرِ الناسَ لم يشْكُرِ اللهَ» (رواه الترمذي)، وقال: «ومَنْ أتى إليكُمْ معروفاً فَكَافِئُوهُ، فإنْ لمْ تَجِدُوا، فَادْعُوا لهُ حتى تعلمُوا أنْ قد كَافَأْتُمُوهُ» (السلسلة الصحيحة)، أدرك ابن القيم عظمة السعادة النفسية التي يشعر بها العبد الشاكر لربه المعترف بفضله، حيث ربط بين الشكر والرضا فقال: «منزلة الشكر من أعلى المنازل، وهي فوق منزلة الرضا وزيادة، فالرضا مندرج في الشكر» (مدارج السالكين)، وقال الله تعالى: (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (لقمان: 12)، قال ابن كثير: «إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين»، وقال الطبري: «من يشكر الله على نعمة عنده، فإنما يشكر لنفسه؛ لأن الله يجزل له على شكره إياه الثواب وينقذه به من الهلكة»، ومن يتأمل نِعَم الله عليه الظاهرة والباطنة التي لا تعد ولا تحصى، حينما يتذكر ذلك يشعر بفضل الله عليه ويسعد به.

6- العمل التطوعي:

يسمي بعض الباحثين قضاء حوائج الناس والصدقات بالمال والجهد «سعادة المساعِد»، والإسلام يشجع ذلك أيما تشجيع، يقول الله عز وجل: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) (التوبة: 103)، وقال: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ: 39)، قال ابن كثير: «أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبذل وفي الآخرة بالجزاء والثواب»، وقال الله تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 274)، فالإنفاق سبب من أسباب السعادة وعدم الحزن.

يقول الباحثون: إن إنفاق المال على الآخرين قد يكون أشد فاعلية لتحقيق السعادة من إنفاق المال على نفسه، وإن التبرع لأغراض الخير يجعلك تشعر أنك أفضل حالاً لأنك في مجموعة.

7- المال ليس أولوية:

يؤكد الباحثون أن وضع المال في أولوية قائمة الاهتمامات قد يؤدي إلى الاكتئاب والتوتر وحصر الطموحات فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسُرُّكُمْ، فوالله ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ» (رواه البخاري)، فما أجمل وألطف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسُرُّكُمْ».

وما ذكرنا هو مختصر مما يراه الآخرون وسائل للسعادة، لكن المسلم وسائله ربانية وغزيرة؛ منها السكينة الربانية المسكوبة على القلوب؛ (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) (الفتح: 18)، ومنها الأمان الرباني للموحدين، ومنها ذكر الله الذي يطمئن القلوب المؤمنة؛ (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)، ومن ذلك الصلاة، ولقول رسول الله: «أرحنا بها يا بلال»، ومنها اتباع الهدى الرباني؛ (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) (طه: 123)، ومنها العمل الصالح مع الإيمان الذي يضمن الحياة الطيبة في الدنيا؛ (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).

وأخيراً وليس آخراً فرح القلوب المؤمنة بالقرآن والإسلام؛ (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس: 58)، عن ابن عباس أنه قال: «فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام»، وعلق ابن القيم في على هذا الكلام كتاب الروح: «فهذا فرحُ القَلبِ، وهو مِن الإيمانِ، ويثابُ عليه العبدُ، فإنَّ فَرَحَه به يدلُّ على رِضاه به، بل هو فَوقَ الرِّضا؛ لأنَّه يكونُ على قَدْرِ محبَّتِه، فإنَّ الفَرحَ إنَّما يكونُ بالظَّفَر بالمحبوبِ، وعلى قَدْرِ محبَّتِه يفرحُ بحُصولِه له، فالفرَحُ باللهِ وأسمائِه وصِفاتِه، ورَسولِه وسُنَّتِه وكلامِه، محضُ الإيمانِ وصَفوتُه ولُبُّه، وله عبوديَّةٌ عجيبةٌ، وأثَرُ القَلبِ لا يعبِّرُ عنه، فابتهاجُ القَلبِ وسُرورُه وفَرَحُه باللهِ وأسمائِه وصِفاتِه، وكلامِه ورَسولِه ولقائِه؛ أفضَلُ ما يُعطاه، بل هو أجَلُّ عطاياه، والفَرَحُ في الآخرةِ باللهِ ولقائِه بحَسَبِ الفَرَحِ به ومحبَّتِه في الدُّنيا، فالفَرَحُ بالوصولِ إلى المحبوبِ يكونُ على حسَبِ قُوَّةِ المحبَّةِ وضَعفِها، فهذا شأنُ فَرَحِ القَلبِ..».

Exit mobile version