– لا بد للكلمة من أن تلبس ثوبَها الأدبيّ القشيب فتقع في قلب القارئ أو المستمع موقعَ التأثير والتغيير
– المكتبة الإسلامية الكثيرة المؤلفات العديدة المجلدات تعاني اليوم فقراً شديداً في الكتاب الأدبي
– بالكاد ترى كتاباً ذا غاية دينيّة أو خُلقيّة كُتب بحُلّة أدبية تأخذ بحسّ القارئ فتمسكه فيقرأ بشغف فلا يترك الكتاب حتى ينتهي منه
– الآداب المعادية للإسلام يتلقّفها الناس ومنهم مسلمون في ظاهرها على أنها وسيلة تسلية لكن في باطنها خططٌ مدروسة ودسائس مقصودة
ما أكثر الكُتُبَ التي تَزخرُ في طيّاتها بالحقائق العلمية والخلاصات المنطقية!، ثم لا يكون حظُّ القارئ منها إلا أن يتصفحَ فيها بضعَ صفحات ثم يعيدها إلى رفّ المكتبة كما كانت ليرقُدَ عليها غبارُ الأيام والسنين!
وما أكثر الخُطب التي تقرع المسامع وتملأ أصداؤها أركانَ المكان الذي يتجمهرُ فيه النّاس، ثم لا يكون حظُّ السامع منها إلا السماع، ثم الخروج من المكان كما دخله!
يُعزى السبب في ذلك للمصدر والأداة، أمّا المصدر فلابد أن يكونَ الكاتبُ أو المتكلم مخلصاً لرسالته التي يؤدّيها، مؤمناً بها أيّما إيمان، وأن يكون مُلمَّا بمعلوماتها باحثاً في مضامينها آخذاً بالاعتبار آراء المخالفين.
وأمّا الأداة؛ وهي الكلام المنطوق أو المكتوب، فلابد أن يكون مغموساً بالبلاغة والبيان، يشعّ منه – على ما فيه من حقائق ومعلومات – ضوءَ الأدب، فيجذب القرّاء أو المستمعين، وتتحول مادّته العلمية من مدعاة مللٍ إلى مساحة من المتعة، ويكون الصبر عليها نوعاً من المتعة.
ولابد للكلمة من أن تلبس ثوبَها الأدبيّ القشيب، فتُقبل بقوّة العاطفة التي فيها، فتقع في قلب القارئ أو المستمع موقعَ التأثير والتغيير.
وليس بخافٍ على مطّلع أن المكتبة الإسلامية الكثيرةَ المؤلفات العديدةَ المجلدات تعاني اليوم فقراً شديداً في الكتاب الأدبي، والمقصود هنا: الكتاب الذي يتناغم مع الحاجات النفسية والاجتماعية التي ينشدها الناس في حياتهم، بأسلوب أدبيّ لطيف، وبأهدافٍ إسلاميّة ظاهرة أو ضمنية، خاصةً بعد القرن الذي أدبرَ وأدبر معه أدباءٌ موهوبون من أمثال الرافعي والمنفلوطي وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي وسيد قطب وعلي أحمد باكثير وعلي الطنطاوي _رحمهم الله_ ونحوهم، وبإدبارهم كادت شعلةُ الأدب أن تنطفئ، فبالكاد ترى كتاباً ذا غاية دينيّة أو خُلقيّة، كُتب بحُلّة أدبية تأخذ بحسّ القارئ فتمسكه فيقرأ بشغف، فلا يترك الكتاب حتى ينتهي منه.
في حين أنّ الآداب المعادية للإسلام تنشر رواياتها وأشعارها شرقاً وغرباً، فيتلقّفها الناس، ومنهم مسلمون، على أنها وسيلة تسلية وإشباع فراغ عاطفي فحسب، وهي في ظاهرها كذلك، لكن في باطنها خططٌ مدروسة ودسائس مقصودة، يسعى أصحابها في أحسن الأحوال لمحاربة القيم والفضائل، هذا إنْ لم يتركوا قرّاءهم عرضةً لبراثن الريبة في عقائدهم وفِطَرهم السليمة.
وما أكثر الذين أقبَلوا على ذلك الأدب تحدُوهم إليه حاجاتُهم النفسية، فألهبَ مشاعرهم بقصص المُتعة والغرام، ثم ما إن انتهوا حتى وجدوا أنفسهم في صراع مع معتقداتهم وتعاليم دينهم من غير ضوابط تحميهم، فرُمُوا على طريق الملحدين فألحدوا..
وكم من شابٍّ أو فتاة شعروا بالحاجة إلى إرواء الفراغات النفسية في كياناتهم، فاشتروا عدداً من الروايات وانكبّوا على قراءتها مستمتعِين بأساليبها وتَلاحُقِ أحداثها، حتى إذا فرغوا منها تركت فيهم هزّة عنيفة في أصول عقيدتهم ومبادئهم من حيث لا يشعرون!
هذا هو الأدب اللاإسلامي، الذي تنشط فيه أقلام كثيرة تصل الليل بالنهار من أجل تمرير أفكارٍ هدّامة ودسائس مشوِّهة.
أين هذا الأدب بظاهره البرّاق وكُنْهِه الخبيث من الأدب الإسلامي اليوم؟! ذاك الأدب اللاإسلامي في انتشار، يجذب إليه من قريب ومن بعيد، والأدب الإسلامي في تقلّص يضيق شيئاً فشيئاً، حتى ترى أنّه لا مجال للمقاربة والمقارنة.
ولعل أبرز الأسباب في ذلك يعود:
للفجوة العميقة الحاصلة بين الجيل ولُغته، والحديث في ذلك ينكأ الجروح المؤلمة على الغربة التي تعاني منها اللغة العربية، لكني أكتفي بالقول: إنّ خير ما يردمّ هذه الفجوة هو الرجوع إلى كتاب الله تعالى رجوع العاشق المتدبّر لكل حرفٍ من حروفه.
للتصوّر الخاطئ بأن إسباغ المددِ الأدبي على حقائق الدين وأحكام الشريعة يُنقص من هَيْبة الديّن ذاته، لذا لابدّ من تجنّب الأسلوب الأدبي العاطفي أثناء الحديث أو الكتابة في علوم الدّين، ونتيجة لذلك إنك لتلحظ أنّ ما يبدأ الغرّ المبتدئ في نظم الشعر يبدأ بالغزل وإثارة الغرائز، ولعله يصف الخمرة والكأس..، وما ذاك إلا لأنه يظن جهلاً أنّ السبيل إلى الشعر هي أن يتخلى الشاعر عن دينه ومبادئه..! ويغيب عنه أن حسان بن ثابت وكعب بن مالك والخنساء وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم كانوا شعراء حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، طُوّعت لهم الكلمة فسكبوا عليها عطراً أدبيّا قلّ نظيره، انظر هذه القطعة من الشعر لعبد الله بن رواحة يصف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إِنّي تَفَرَّستُ فيكَ الخَيرَ أَعرِفُهُ وَاللَهُ يَعلَمُ أَن ما خانَني البَصَرُ
أَنتَ النَبِيُّ وَمَن يُحرَم شَفاعَتَهُ يَومَ الحِسابِ فَقَد أَزرى بِهِ القَدَرُ
فَثَبَّتَ اللَهُ ما آتاكَ مِن حَسَنٍ تَثبيتَ موسى وَنصراً كَالَّذي نُصِروا
للخطأ الذي يقع فيه جلّ الناشطين والدعاة في الوسط الإسلامي من أنّ الكتابة في الأدب حتى ولو كانت بأهداف إسلامية هي من قبيل نافلة العمل الإسلامي، وأنها سبيلا للترفيه فحسب، ويغيب عنهم أنّ هذه (النافلة) هي الجاذبية العاطفية لطبقة الشباب، وأنها تحدٍّ لا يُجدي إهماله.
عدم التشجيع -والتخذيل أحياناً- لجُلّ الذين ينوون الكتابة في الأدب الإسلامي، سواء كان تشجيعاً معنويّاً أم ماديّاً، فتكبر أحلام المبتدئ بالكتابة ثم رويداً رويداً تذبل، لأنّ أحداً لم يساعد في إنمائها، بل وقد تجد من يعيب عليه ذلك بحجة أنّه طالب علم وليس طالب أدب..! أو بحجة أنه صغير، وأسوق لك هذه القصة الموجزة التي رواها الطنطاوي في كتابه (فكر ومباحث) قائلًا: وها هو ذا العلامة المرحوم الشيخ سليم البخاري مات وما له مصنفٌ رسالة فما فوقها، على جلالة قدره، وكثرة علمه، وقوة قلمه، وشدة بيانه؛ وسبب ذلك أنه صنف لأول عهده بالطلب رسالة صغيرة في المنطق، كتبها بلغة سهلةٍ عذبة، تنفي عن هذا العلم تعقيد العبارة، وصعوبة الفهم، وعرضها على شيخه، فسخر منه وأنّبه، وقال له:
أيها المغرور! ابلغ من قدرك أن تصنف، وأنت.. وأنت! ثم أخذ الرسالة فسجرَ بها المدفأة، فكانت هي أول مصنفات العلامة البخاري وآخرها!
إنّ المكتبة الإسلامية اليوم – وفي زحام التآليف الرامية إلى تدمير الأجيال وتغريرها بالعقائد الفاسدة والأخلاق المنحرفة – بحاجة ماسّة إلى كُتّاب جُدد، يأخذون بقلوب الناس كما يأخذون بألبابهم بكلامهم المكسوِّ بالبيان والبلاغة، فيكون أدبُهم حالةً من حالات الدعوة، ونوعاً من أنواع الجهاد.