قراءة في مشروع إسماعيل الفاروقي (1 – 6)

– كان أكثر اتصالًا ومعرفة بحقيقة ما يحمله النموذج المعرفي الغربي من قضايا وطروحات وتناقضات وإشكالات متباينة

– مبدأ “التوحيد” في تناول الفاروقي الفريد يعيد تنظيم حياة المسلم في مسار اجتهادي معرفي يرى العالم متعددًا تحت راية التوحيد

– الدورة الثقافية للأمة تبدأ من فهم التوحيد ومسارات عمله في مجالات الحياة والقيم والتصورات والمفاهيم

– الأمة الوسط الشاهدة على غيرها من الأمم، كما وصفها الله تعالى في محكم التنزيل

 

امتلك إسماعيل الفاروقي (1921-1986م) الكثير لكي يقدمه لأمته، على مستوى التنظير والتطبيق، وأحدث ثورة ثقافية في المشهد الثقافي الإسلامي بدعوته إلى تجديد المعرفة المعاصرة، بدفع العقل المسلم ناحية التفكير الجاد فيها من ناحية منظوره الذي يعتمد على مبدئية مغايرة، وهي مبدئية التوحيد التي ترى أن العالم اثنان (خالق ومخلوق)، غير ما تراه المعرفة المعاصرة بأن العالم واحد وأنه قائم بذاته، وعوامل قيامه كامنة فيه.

جاء امتلاك الفاروقي لمشروعه الفكري الإصلاحي من خلال معرفة واسعة اكتسبها من مصادر متعددة، سواء منها ما يتعلق بالمنهج البحثي الغربي في دراسته المعمقة في مقارنة الأديان، حيث درس في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم جامعة إنديانا، ثم جامعة هارفارد، ثم جامعة ماكجل بكندا، وجامعة شيكاغو، ثم جامعة سراكيوز، وأخيرًا جامعة تمبل بفلاديفيا. وقضى سنتين في كلية اللاهوت وتعرف عن قرب على الفكر الديني المسيحي في الغرب، وألف كتابChristian Ethics  الأخلاق المسيحية، هذا بالإضافة إلى دراسته التأصيلية ودرسه للإسلام والعلوم الشرعية في الأزهر الشريف ( 1954 ــ 1958م) واستيعابه لعلوم الشريعة وفقهها، هذه العوامل مجتمعة شكلت فكره وعقله العلمي وأثرت بشكل واضح في تصوره الفكري ورؤيته الحضارية ومنهجيته وقراءته المعمقة للفكر الغربي وفلسفته وأصوله ومسلماته وجعلته أكثر اتصالًا ومعرفة بحقيقة ما يحمله النموذج المعرفي الغربي من قضايا وطروحات وتناقضات وإشكالات متباينة نعرض لبعض منها في هذه الدراسة من خلال وقوفنا على أدواته في التعامل مع النموذج الغربي.

مركزية مبدأ التوحيد

انطلق الفاروقي من مركزية مبدأ التوحيد لاستعادة بناء معرفة جديدة تعتمد على أسس ومقومات ذلك المبدأ، وتَحِدُ إطارًا للعمل التطبيقي لمعرفة تستمد مبادئها من “التوحيد” كنقطة مركز تلتف حولها المعارف والعلوم الإنسانية والكونية.

إن فكرة التوحيد التي انشغل بها ليست على طريقة علماء الكلام القدامى الذين انشغلوا بمسائل الصفات والأسماء والإثبات والنفي. بل كان الانشغال عبر البحث عن وظيفية فكرة التوحيد مركزًا ومدارًا لبناء الأمة الحضاري، واستعادة هويتها وشخصيتها الحضارية، ومن ثم قدم التوحيد باعتباره مركزًا استقطابيًا لكل عوالم الإنسان) الغيب والشهود، الاقتصاد والاجتماع، الأخلاق والسياسة، الأفكار والمادة، الأشياء والأشخاص)، إن مبدأ “التوحيد” في هذا التناول الفريد يعيد تنظيم حياة المسلم فردًا وجماعة وأمة من جديد، في مسار اجتهادي معرفي يرى العالم متعددًا في وحدة تحت راية التوحيد.

والمستقرئ لحال الأمة في مراحل تطور الحضارة الإسلامية وتراجعها، يجد الترابط العضوي بين موقف الإنسان المسلم من مركزية فكرة “التوحيد” وحال الأمة، والتي يمكن أن نشير لها في المراحل التالية:

مرحلة ظهور التوحيد الحق والإيناع الثقافي والحضاري للعالم، الذي شهدته الإنسانية، بهذا الإيناع والانتشار، وتخليص الكون من الشرك الإنساني والطغيان البشري، والخرافة والشعوذة والتنجيم.

مرحلة نشر التوحيد الحق والانتشار الحضاري الأفقي، وتحقيق مقاصد الحق في الخلق، أي تثبيت دعائم الحضارة في ظل التوحيد، وما تبعها من عمران إيجابي للإنسان ومتطلبات حياته.

مرحلة التوحيد الغائب أو الكامن.. وهو عصر تراجع المسلم عن ممارسة التوحيد، والذي شهد انحطاط وتراجع وتدهور الإنسانية- رغم كفاءتها المادية- وعودة الشرك والطغيان البشري.

مرحلة بعث التوحيد الحق وبحث مشكلات الحضارة لاستعادة الإيناع الثقافي والحضاري للأمة. وهي المرحلة التي تحياها الأمة وهي مرحلة الإصلاح المعرفي الذي يعد الفاروقي أحد أبرز روادها في الأمة في العصر الحديث.

إن موقف الأمة من التوحيد فهمًا وتنزيلًا إذن هو مؤشر لنهوض الأمة أو تراجعها، وعلى هذا فإن الدورة الثقافية للأمة تبدأ من فهم التوحيد ومسارات عمله في مجالات الحياة والقيم والتصورات والمفاهيم المشكِلة لتلك المضامين، ثم تجسيد فكرة التوحيد أي الانتقال من حيز الصورية إلى حيز الواقعية، ثم الانتشار والتطبيق لتلك الفكرة وتمثلاتها عبر النظم والقوانين والبرامج؛ أي تحويل فكرة التوحيد إلى واقع الأمة نظمًا وعملًا ووجدانًا.

مسوغات المشروع وأولياته

لكل مشروع فكري مسوغاته ومبرراته، ترتبط في غالبها بالسياق الاجتماعي والحضاري الذي يتأثر به صاحب المشروع، ويمكن في ذلك أن نرصد المسوغات التالية التي دفعت الفاروقي إلى بناء رؤيته الإصلاحية على ما صارت إليه، والتي نحددها في ثلاث أوليات:

الأولى: هذا التناقض بين حال الأمة الإسلامية وما يجب أن تكون عليه، تقديرًا لدورها الرسالي “الوسط” “الشاهدة” “الخيرية”. فمن المفارقات الغريبة أن هذه الأمة تجمع بين كونها الأمة الأكبر عددًا من حيث عدد المنتمين إليها، والأكثر من حيث العدة المادية، لكونها أغنى الأمم في الأراضي والموارد، وفي الثروة الفكرية من مدخلي حيازتها أعظم تراث، وتفردها بعقيدة متمشية مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، مما يجعلها هي الأقدر بين نظيراتها على الحياة.

بيد أن تلك الأمة تمثل من الجانب المقابل واحدًا من أضعف مقومات النظام العالمي الراهن، وتقبع في مكانة متدنية على هرم ذلك النظام. وصورتها من هذه الزاوية هي صورة أمة ممزقة، بين تشكيلة متباينة من الدول القومية المنقسمة على نفسها، والمتخاصمة مع الأمم الأخرى المجاورة لها، العاجزة عن إنتاج ما تستهلكه وما تحتاج إليه، وغير القادرة على الدفاع عن نفسها في مواجهة خصومها وأعدائها.

وبتعبير آخر، فإن الأمة الوسط الشاهدة على غيرها من الأمم، كما وصفها الله تعالى في محكم التنزيل بقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143]، غدت على عكس ما كلفها الله تعالى، بأن أصبحت أمة يتكالب عليها كل من هب ودب من الأمم تكالب الأكلة على القصعة. وباتت أمة متواضعة الإسهام في العصور الحديثة، وإن كانت ذات ماضٍ عتيد قدمت فيه إسهامات مهمة في المعركة التي تخوضها الإنسانية على هذه الأرض ضد المرض والفقر والجهل والرذيلة والبغضاء والعقوق.

الثانية: تعثر الجهود الإصلاحية في الأمة نتيجة لعدم الاعتبار لنية التغيير {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}، {بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}، سواء تمثلت هذه الجهود في الحركات الإسلامية أو الجهود الحكومية عقب التحرر.

الثالثة: الإسلام كما كان سر النهضة والوجود والبقاء في الماضي، فهو أيضًا سر النهضة والإصلاح في الحاضر، وهذا الإسلام يقي المسلم من آفات ثلاث: 1. ادعاء القدرة على غزو الطبيعة. 2. الإصابة بالغرور إذا نجح في ذلك. 3. الإصابة باليأس والإحباط إذا فشل.

وفي ضوء ذلك رأى أن من أولويات ذلك المشروع هو: تعريف الشباب المسلم برؤية الإسلام للوجود ليكون ذلك سلاحًا له في الإصلاح الحقيقي للنفس، وتمكينهم من القدرة على تحديث معطيات الرؤى الفكري للإصلاحيين الأوائل، وتسليط الضوء على العلاقة الوثقى بين الإسلام ومجالات الحياة والفكر والنشاط الإنساني. وضرورة تأسيس البرامج الإصلاحية على أساس التوحيد الذي هو جوهر الإسلام ونواته.

أقسام القراءة

نتناول في هذه القراءة أهم مقولات مبدأ “التوحيد” كمرجعية معرفية واعتقادية لهذا المشروع، واقتصرنا فيها على خمس مقولات(1): الأولى: التوحيد جوهر الخبرة الدينية، الثانية: التوحيد لباب الإسلام، الثالثة: التوحيد مبدأ المعرفة، الرابعة: التوحيد مبدأ الغيب، الخامسة: التوحيد مبدأ النظام الاجتماعي. وتناولنا لهذه المقولات لأنها تمثل عماد الجانب العملي والتطبيقي لأفكار المشروع الإصلاحي لدى الشهيد إسماعيل الفاروقي رحمه الله.

 

_________________________________________

 (1) انظر حول هذه المقولات:

إسماعيل الفاروقي: التوحيد.. مضامينه على الفكر والحياة، ترجمة: السيد عمر، عمان، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2016م.

 

* أستاذ أصول التربية المساعد – جامعة دمياط- مصر.

Exit mobile version