العرب من هيمنة القبيلة إلى ترسيخ مفهوم الأمة

– العرب تعاملوا بحذر مع غيرهم بسبب خصوصياتهم وما امتلكوه من مقومات خاصة اللغة حتى لا تفقد معالمها

– الإسلام جاء فأخرج العرب من بوتقة القبيلة إلى الأفق الإنساني الواسع فجعلهم نواة الرسالة العالمية

– الله تعالى أراد تحويلهم من الخضوع والتهور إلى مجتمع قادر على تغيير مجريات التاريخ

– من مهام الأمة المساهمة في إصلاح ما اعترى البشرية من خلل وانحراف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 

الفكرة المترسخة في الضمير الجمعي هي المحرك الأول والموجه الأساس لأي مجموعة مهما كانت طبيعتها، ومهما كانت العوائق التي يمكنها أن تقف في وجه فكرة آمنت بها هذه الجماعة، ولذا فإن الفكرة الجامعة تتبلور في ضمائر أصحابها انطلاقاً من معارفهم وتطلعاتهم التي تحددها ظروفهم والواقع الذي يعيشونه، كما يمكنها أن تستمد وجودها من الجذور التاريخية لأصحابها، وما يمتلكه هذا التاريخ من رصيد حضاري وإنساني.

كان أصحاب الحضارات الراقية عبر الزمان أكثر تطلعاً وطموحاً، وكانت المجتمعات الصغيرة، أو التي لا تمتلك رصيداً حضارياً كبيراً، أو لم تحافظ عليه في ذاكرتها؛ أقل أفقاً وأضعف تطلعاً.

ومن هنا يمكن أن نفهم طبيعة الحياة في البيئة العربية قبل الإسلام، حيث كانت غاية آمالها أن تسود بعض قبائلها على البعض الآخر، أو أن يشيع ذكرها بين القبائل، وحتى عند تعاملها مع الحضارات المجاورة، لم تظهر لنا حياتهم أدنى محاولة للاقتراب من هذه المجتمعات أو التطلع لتلبس معالم حضاراتها أو التأثر بها، فقد كانت فكرة القبيلة مهيمنة على المجتمع ومسيطرة على عناصره، كما كانت الخصوصيات العربية وما تمتلكه من مقومات -خاصة اللغوية منها- من الأمور التي جعلتها تتعامل بحذر مع غيرها من الأمم؛ خشية أن تتأثر هذه الخصوصية أو تفقد معالمها، يقول الطاهر بن عاشور مبيناً لطريقة العرب في التعليم: «وكان العرب في الجاهلية يلقنون أبناءهم وبناتهم ما هم في احتياج إليه من المعارف يعدونهم بها إلى الكمال المعروف عندهم.

وكان أول ذلك التدريب على الفصاحة، وإن كانت جبلة فيهم، ولكنهم يذودون عن أبنائهم الخطأ ويعصمونهم من اللكنة والخطل، وقد شعروا بأن الاختلاط هو أصل فساد اللغات، وفراراً من هذا الفساد تواطؤوا على مبدأين كانا بمنزلة تعليم اللغة.

أولهما: ترك الاختلاط بمصاهرة غيرهم من الأمم.

وثانيهما: ترك المقام بمدائن مجاوريهم، من العجم كالروم والفرس على كثرة رحلاتهم إليهم في قضاء مآربهم»(1).

هذا التعامل الحذر جعل العرب يكتفون بنمط حياتهم الذي لا يخرج عن دائرة القبيلة وقيمها ومتطلبات العيش فيها.

وظل الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام، وجاءت تعاليمه ذات الصبغة العالمية التي عمدت إلى إخراج المتلقي الأول للرسالة من بوتقة القبيلة إلى الأفق الإنساني الواسع، فجعلته نواة الرسالة العالمية، مستخدمة منهج الإيمان بالفكرة، وتحريك هذا الإيمان حتى يصل إلى مستوى الفاعلية.

منهج متكامل

إنّ فكرة الدعوة الإنسانية لم تكن لتشكل غرابة في مجتمع تعوّد على الهيمنة، وعلى فرض سلطانه بما يمتلكه من إمكانات حضارية ورصيد وتاريخي، ولكن بالنسبة لمجتمع قبلي متقوقع على نفسه محدود أفقه، فالأمر مختلف ويحتاج إلى منهج متكامل لتحقيقه، وهو ما عمد القرآن الكريم إلى إرسائه من خلال جملة من الآليات، أهمها:

1– ترسيخ فكرة المجموعة والعمل على تجاوز النظرة الفردية:

عمل الذكر الحكيم على ترسيخ فكرة المجموعة، وترسيخ فكرة أنّ الوجود المشترك بين أعضائها قائم على أساس اتحاد العقيدة ووحدة أحكامها، وهو ما يفسر العدول عن استعمال مصطلح القبيلة، وكل مصطلح يوحي بوجود رابط يجمع بين أعضائها غير رابط الدين، كما يفسر استعمال مصطلح الأمة الدال على الجماعة، وعلى الطريقة التي تحكم هذه الجماعة.

لذا جاء الخطاب الشرعي بمختلف مستوياته ومضامينه خطاباً عاماً يشمل الجميع كأصل، كما جاء حاثاً على الوحدة بين الجميع وعلى التفكير في ظل هذه المجموعة بما يجلب الصلاح لها ويدرأ عنها الفساد، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92)، وقال سبحانه: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ (آل عمران: 103).

ولترسيخ هذه الفكرة، وحتى تتحول من دائرة القول إلى الفعل؛ جاء الكثير من التشريعات ذات طابع جماعي وإن كانت أحكامها على التعيين؛ فشرعت صلاة الجماعة ليتحقق فيها وحدة المكان والزمان، وكذا صلاة الجمعة، وشرع الوقوف بعرفة ليشكل مظهراً أكبر من مظاهر وحدة الأمة واتحادها.

كما يمثل رسالة قوية للإنسانية تؤديها الصورة الموحدة مكاناً وزماناً وحتى زياً، بما يجعل منها جسداً متناسقاً منسجماً خضوعاً وتذللاً أمام الله سبحانه، وعزة وقوة في أعين عباده.

إنّ فكرة الوحدة التي جاء الإسلام داعياً لها وحاثاً على التلبس بها من خلال مختلف أحكامه العبادية في المقام الأول والمعاملاتية في المقام الثاني، لم تقتصر على مجرد الوجود المشترك بين أعضاء المجموعة من خلال الشعائر والمعاملات، بل تعدت ذلك لترسخ شعوراً وجهداً مشتركين بين أعضاء الأمة (الجسد الواحد) يصل إلى مستوى الاشتراك في الشعور، فشرعت أحكام تعزز العملية التضامنية والتكافلية بما يجعل الجميع مسؤولاً عن حماية الجميع، فاشترك المسلمون بالامتناع عن الأكل في مشاعر الجوع في وقت واحد وإن تعددت الأماكن؛ حتى يتعزز لديهم حس الرأفة بالفقير والعاجز الذي يعجز عن توفير حاجاته الاستهلاكية، وهم يمارسون عبادة من أرقى عبادات الإذعان والتزكية، وشرعت الزكاة لتساهم بطريقة عملية في سد احتياجاته وإخراجه من دائرة الفقر بما يضمن استقرار الأمة وتحقيق قوتها وفاعليتها.

2- ترسيخ قيمة الأمة وتفوقها:

إنّ الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أنّ الله سبحانه قد اصطفى العرب بالرسالة الخاتمة، وأنه أوكل لهم مهمة تبليغها وتوصيلها للناس كافة، ولا شك أنّ مهمة بهذه المكانة والحساسية في المقام ذاته تتطلب مؤهلاً قادراً على تحمل هذه المسؤولية، وأن مجرد تسلم مسؤولية بهذا الحجم يشعر بالاعتزاز والفخر النابع عن استشعار الثقة التي وضعها فيه صاحب الرسالة.

فإن أضفنا للأمر آليات تحفيزية أعملها المشرع، أدركنا سر حماسة المجموعة، وسرعة تحولها.

لقد أراد سبحانه من مجتمع الرسالة ليس مجرد الإيمان والتصديق بما بعث لهم ولا الاكتفاء بتطبيقه، ولكن قصد تحويلهم من مجتمع خاضع متهور قد تحركه أدنى المثيرات، إلى مجتمع قادر على تغيير مجريات التاريخ والتحكم في دواليبه.

ولم يكن ليتم ذلك لولا تيقن هذه المجموعة أنها قادرة على فعل ذلك، قدرة نبعت من إيمانها بوجود خالق مسير آمر كلفها بمهمة، وسيمكنها إن التزمت تعاليمه، كما نبعت من إشعارها بقيمتها في ذاتها.

والنصوص في ذلك كثيرة، فقد وصف سبحانه الأمة بالخيرية؛ ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ وربط هذه الخيرية بالمهمة المطلوب منها تنفيذها فقال: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ (آل عمران: 110)، فأوكل لهم مهمة الإصلاح ومهمة التغيير.

والقضية لم تقف عند حدود تغيير الذات بأن تلتزم المعروف وتنتهي عن المنكر، بل تجاوزته ليصبح من مهام الأمة المساهمة في إصلاح ما اعترى البشرية من خلل وانحراف بواسطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولا شك أن من أوكلت له هذه المهمة عليه أن يكون قوياً قادراً يتحلى بصفات خلقية تسمو به وتؤهله لذلك، وهو ما التزمته الأمة واستقته من مختلف التشريعات التي افترضها سبحانه في التعامل مع الذات ومع الآخر، فكان العدل والإنصاف أول وأهم أساس قامت عليه، حتى وإن لم يلتزم الآخر مبادئها؛ امتثالاً لقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: 8).

وكان الحب المحرك الذي يدفعها لتقويم الذات والحرص على هداية الآخر، حب امتن به سبحانه فكان من أهم النعم التي اختصت بها: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال: 63).

ولا شك أن أمة منطلقها الإيمان، وقوامها العدل، ومحركها الحب؛ قادرة على تغيير مجريات التاريخ، ومؤهلة لأن تكون شاهدة عليه أيضاً.

 

 

____________________________________

(1) أليس الصبح بقريب، ص 24.

 

(*) جامعة أحمد بن بلة – الجزائر.

Exit mobile version