قرّة العين.. رَجُل المستقبل

2020-01-08_08h54_19.jpg

أبناؤنا هم قرة الأعين لنا في الدنيا والآخرة، وهم عباد الرحمن وعُمَّار المساجد، ورجال المستقبل من العلماء والدعاة، والمعلمين والمفكرين، والمهندسين والأطباء، والقادة والوزراء، والعمال والفلاحين، بهم قوام المجتمعات، وأساس بنيانها ولبناتها، وبسواعدهم تقوى وتشتد، هم من فتحوا الأمصار ونشروا الدين، وخطوا الطرقات، وشيدوا البلاد وساسوا العباد بالحق والميزان.

هم مِنّة الله على عباده، قال تعالى: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ) (النحل: 72)، فهم فلذات أكبادنا وبقية أعمارنا، قال عنهم الأحنف بن قيس: إنهم «ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، وبهم نصول عند كل جليلة».

إنهم أبناؤنا أمل الأمة ومستقبل أجيالها القادمة، إنهم عبدالله بن عباس ترجمان القرآن، حبر الأمة وفقيه عصره وإمام التفسير، وعلي بن أبي طالب الذي افتدى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، وهو الذي أسلم صبياً وسبق كبار شيوخ مكة وزعمائها، وأسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قاد جيش المسلمين إلى الشام وكان فيه كبار المهاجرين والأنصار، وهو لم يتجاوز بعد العشرين من عمره، إنهم سعد بن أبي وقاص الذي أسلم وهو ابن سبع عشرة سنة وكان مستجاب الدعوة، وزيد بن ثابت الذي استأمنه النبي صلى الله عليه وسلم على أسرار الدولة حين أمره أن يتعلم لغة يهود ليقرأ له الرسائل وهو ابن إحدى عشرة سنة، وهو الذي قال له الخليفة أبو بكر رضي الله عنه: إِنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه.

هم أبو هريرة رضي الله عنه الذي حفظ الله به السُّنَّة فكان ذا قلب حافظ وعقل واع، وغيره ممن جاء بعده كالبخاري ومسلم والأئمة الأربعة وغيرهم من مُحَدِّثي وفقهاء الأمة الذين بذلوا أعمارهم في سبيل إحياء الإسلام وتعليمه ونشره والحفاظ عليه، إنهم عمار بن ياسر القابض على دينه في زمن الفتنة، فلم يثنه مقتل أبيه وأمه أمام عينيه عن الثبات على الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم.

إنهم محمد بن القاسم فاتح بلاد السند (باكستان الآن)، بطل الفتوحات الإسلامية في شبه القارة الهندية، وكان وقتها في السابعة عشرة من العمر، ومحمد الفاتح الذي بويع بالخلافة وهو في الثانية والعشرين من عمره، وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش» (رواه البخاري).

إنه ابني وابنك، مَن يحمل اسم أبيه، ويخلفه من بعده، ويكون امتداداً لحياته وعمله بعد موته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم). 

رجل المستقبل

ألا تحب أن يكون ابنك رجلاً بكل ما تحمله الكلمة من معاني الرجولة العالية، وقد مدح الله من المؤمنين رجالاً فقال عنهم: (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور: 37)، إن هؤلاء هم الرجال حقاً، فلو تعرضت لهم الدنيا كاشفة عن كل زينتها ومحاسنها وشهواتها وملذاتها ما ألهتهم عن ربهم طرفة عين، وما أنستهم الغاية التي لها خلقوا ومن أجلها يعملون، قال السعدي: «بل جعلوا طاعة الله وعبادته غاية مرادهم، ونهاية مقصدهم، فما حال بينهم وبينها رفضوه»، وقال ابن كثير: «يقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم».

إن الخطوة الأولى لإعداد رجل المستقبل هذا أن يُربَّى قلبه على الإيمان بالله والحب له، ومراقبته وطاعته، الإيمان الذي يجعله يرى الله تعالى في كل أعماله، ذلك الإيمان الذي يملأ قلبه بالتعلق بالآخرة وتسخير ساعات الدنيا المحدودة في مرضاة ربه، فيكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فلا يضعف أمام شهوة نفس فيها معصية تفنى بعد لحظة، أو قَصَّة شعر ولبسة ثوب فيها تشبُّه لا يليق به كمسلم، أو آلة لهو وجلسة سمر فيها معصية لله عز وجل، أو ضياع وقته الذي هو عمره في القيل والقال ومواقع التواصل الاجتماعي بغير حق.

إنه الإيمان الذي يعطي الولد طاقة إيجابية كبيرة تدفعه لعمل الخير وإصلاح النفس وإعمار الأرض ونفع مجتمعه والارتقاء به، الإيمان الذي يحفظه من قسوة القلب وسوء الخلق وظلم الغير، الإيمان الذي يجعله رجلاً ثابتاً على عهده مع الله لا يبدل ولا يغير مهما كثرت الابتلاءات والفتن من حوله، كما قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23)، قال السعدي: «بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون، ولا يتغيرون؛ فهؤلاء الرجال على الحقيقة، ومن عداهم فصورهم صور رجال».

إعداد الرجال

إن إعداد رجل المستقبل يتطلب منك أيها الأب أن تربيه منذ نشأته على ملة إبراهيم الحنيفية السمحة، وعلى صبر أيوب العابد في السراء والضراء، وعلى عفة يوسف وهو في عنفوان الشباب، وقوة موسى وأمانته، وبر إسماعيل وطاعته، وحكمة سليمان وتواضعه، ورحمة عيسى ورقته، وسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأخلاقه التي كانت القرآن الكريم، وأن يرى القدوة فيك في كل هذا.

إن حبك الحقيقي لولدك لا يتمثل فقط في إشباع بطنه بلذيذ المطاعم ولا بتزيين جسده بجميل الملابس، بل هو حب يمتد بك وبه إلى الكرامة في دار الخلود حين تحمي هذا الجسد من عذاب الله، ولا تأخذك الشفقة المزيفة أن تتركه على معصية الله وأنت تعلم عاقبة العصيان، فما ذاك بحب! وقد أمرك الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6)، فالعجب كل العجب ممن يزعم حب ولده فيحميه من لسعة الجوع وعوز الفقر ونار الدنيا، ولا يهتم لنار الآخرة أن تكون مستقره والعياذ بالله. 

واجبات مطلوبة على المستوى الفردي والجماعي:

إن على كل منا أن يعمل جاهداً لحفظ ولده من كل ما يخدش عقيدة التوحيد في قلبه، وأن يقيه تيارات الشك وفتنة الإلحاد؛ أن يجلس معه ويحاوره في مختلف المجالات، أن نشاوره ونستأنس برأيه ونعلمه الصراحة والجرأة في إبدائه بأدب راق، وأن نشجعه على الصحبة الصالحة التي لا غنى له عنها، يقول الإمام ابن القيم: «من أهملَ تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سُدى، فقد أساءَ إليه غاية الإساءة، وأكثرُ الأولاد إنما جاءهم الفساد من قبل الآباء وإهمالهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسُننه، فأضاعوهم صغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً، كما عاتب بعضهم ولدهُ على العقوق فقال: يا أبت إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني صغيراً فأضعتك شيخاً».

أما على المستوى العام، فإنه يتوجب على المجتمعات أن تولي الأولاد فتياناً وشباباً اهتماماً خاصاً ويربوهم على أنهم رجال المستقبل، فيكون الاهتمام بهم من كافة النواحي الصحية والنفسية والتربوية والتعليمية والإيمانية، والحرص على رعاية الموهوبين منهم رعاية خاصة، وقد مر عمرو بن العاص رضي الله عنه على حلقة من قريش فقال: «ما لكم قد طرحتم هذه الأغيلمة؟ (نحيتم جانباً هؤلاء الصغار) لا تفعلوا! أوسعوا لهم في المجلس، وأسمعوهم الحديث، وأفهموهم إياه؛ فإنهم صغار قوم أوشك أن يكونوا كبار قوم، وقد كنتم صغار قوم فأنتم اليوم كبار قوم» (السُّنة النبوية رؤية تربوية، د. سعيد إسماعيل علي)، وكان ابن شهاب يقول للفتيان: «لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضِل دعا الفتيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم» (جامع بيان العلم وفضله، ابن عبدالبر).

Exit mobile version