الحرب التجارية وتداعياتها على الاقتصاد العالمي

2020-01-04_13h16_11.jpg

في الوقت الذي ركزت فيه إدارة الرئيس الأمريكي السابق «باراك أوباما» على محاصرة الصين واحتوائها عبر الشراكات مع الدول الحليفة ودول الجوار الجغرافي للصين، فإن سياسة الرئيس الأمريكي «دونالد ترمب» اتخذت مساراً مختلفاً أكثر صدامية وأوسع اشتباكاً مع الصين، بل ومع الحلفاء الأوروبيين.

فقد باشر الرئيس «ترمب» فور وصوله إلى منصب الرئاسة عام 2016م عمله بإطلاق حزمة من القرارات الاقتصادية التي تضمنت سياسات حمائية، على رأسها الإعلان عن رفع تعريفة الصلب والألومنيوم إلى 10% و15% على التوالي، مستهدفاً كل الشركاء التجاريين، بمن فيهم حلفاؤه الأوروبيون، إلى جانب شركائه في اتفاقية «النافتا» (المكسيك، وكندا).

السياسة الحمائية التي أعلن عنها «ترمب»، وإن كان الهدف المعلن منها تخفيض العجز في الميزان التجاري مع دول العالم، خصوصاً الصين، واستعادة أمريكا لمكانتها كقوة اقتصادية عظمى؛ إلا أنها أفضت إلى اشتباك أوسع سرعان ما هدد بعزل الولايات المتحدة عالمياً.

ركزت سياسة الولايات المتحدة، سواء في عهد الرئيس الحالي «ترمب»، أو السابق «أوباما»، على التراجع الكبير في حصة الولايات المتحدة الأمريكية من التجارة العالمية، والناتج الإجمالي العالمي إذ بلغ عام 2016م نحو 25% من الناتج الإجمالي العالمي، بعد أن كان في بداية القرن الحالي نحو 35%، حصة متراجعة تعود لصعود القوى الاقتصادية الطامحة، وعلى رأسها الهند والبرازيل، فضلاً عن الحصة الكبيرة التي تمكنت دول الاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا من اقتطاعها من الاقتصاد العالي.

ورغم تعدد المنافسين للولايات المتحدة، فإن الصين مثَّلت الهاجس الأساس للولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث إن الصين ضاعفت ناتجها القومي الإجمالي خلال العقدين الماضيين من تريليون و100 مليار دولار عام 1999م إلى 14 تريليوناً عام 2019م؛ مقابل 21 تريليون دولار للولايات المتحدة عام 2019م، لتحتل الصين بذلك المركز الثاني عالمياً بعد الولايات المتحدة بحصة تقارب 15% من الناتج الإجمالي العالمي الذي تآكلت حصة الولايات المتحدة فيه.

وقد أطلق الرئيس الأمريكي السابق «باراك أوباما» للتعامل مع هذه الحقائق إستراتيجية جديدة للتوجه نحو الباسفيك، معلناً عن مشروع للشراكة الاقتصادية العابرة للمحيط الهادئ (TPP) التي اتسعت لتضم دولاً تمثل 45% من حجم التجارة العالمية، مستثنياً الصين من التجمع الاقتصادي؛ على أمل محاصرتها والحد من نموها المتسارع الذي تجاوز 11% قبيل الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008م، واستقر عند معدل 6 – 7% بعد الأزمة العالمية، مقابل معدلات نمو متواضعة في الولايات المتحدة لم تتجاوز حدود 2 – 3%.

الكلف المتوقعة

وبالعودة إلى الكلف المتوقعة للحرب التجارية وتداعياتها العالمية، فإن الكلف المباشرة تضاعفت بعد تخلي إدارة الرئيس الأمريكي «ترمب» عن سياسة سلفه «أوباما» تجاه «الباسفيك»، فانسحب من التكتلات الاقتصادية الكبرى المعلنة عنها وعلى رأسها «TPP”، واتبع سياسة أكثر صدامية مع الصين، ومع المنظومة الاقتصادية العالمية القائمة على العولمة، بدل سياسة الاحتواء والحصار التي اتبعها “أوباما” للحد من نمو الصين، وقدرتها على النفاذ إلى الأسواق العالمية.

لم تقتصر تداعيات سياسة “ترمب” على الصين، إذ استهدفت المنظومة الاقتصادية المعولمة التي أسهمت الولايات المتحدة في تأسيسها، وكان ثمرتها منظمة التجارة العالمية (WTO)؛ ما رفع كلف المواجهة الاقتصادية، وأطلق العنان لحرب تجارية ألحقت أضراراً بالمنظومة الاقتصادية الدولية ومعدلات النمو العالمي.

ورفعت إستراتيجية “ترمب” كلف المواجهة التجارية مع الصين لتصل الكلف المباشرة إلى 500 مليار دولار على الاقتصادين الصيني والأمريكي؛ قيمة سرعان ما تتضاعف عند الإشارة إلى حجم الاستثمارات الصينية في سوق السندات الأمريكية؛ إذ تعتبر الصين المستثمر الأكبر في السندات الأمريكية بـتريليون و200 مليار دولار؛ أي 17.7% من قيمة سندات الخزانة الأمريكية التي تملكها الحكومات الأجنبية في الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم أن الصين عملت على التخلص من 4% من السندات في أعقاب فوز “ترمب” بمنصب الرئاسة عام 2016م، فإنها بقيت الدولة الأولى المستثمرة في السندات الأمريكية، متفوقة على اليابان وفرنسا وبريطانيا.

تتعقد حسابات الكلفة بالإشارة إلى الاستثمارات الصينية المباشرة في الولايات المتحدة، إذ اتخذت منحى تنازلياً متراجعة عن القيمة التي بلغتها عام 2016م من 46 مليار دولار إلى 29 ملياراً عام 2017م، ولتبلغ أدنى مستوى لها في عام 2018م بقيمة قدرت بـ5 مليارات دولار؛ أي ما يعادل 85% انخفاضاً عما كانت عليه في عام 2016م، في المقابل؛ فإن الاستثمارات الأمريكية المباشرة في الصين ارتفعت إلى 3.7% خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2019م، رغم تعقد المفاوضات بين البلدين خلال النصف الأول من عام 2019م، ورغم التصعيد الذي تبع فرض عقوبات على شركة “هواوي” الصينية. 

ورغم الهدف المعلن لسياسة “ترمب” بمعالجة العجز التجاري مع الصين والفجوة الهائلة التي بلغت 419 مليار دولار لصالح بكين، فإن الصين بقيت متفوقة على الولايات المتحدة؛ فالعقوبات الأمريكية وإن خفضت حجم التجارة بين البلدين من 659 مليار دولار عام 2018م إلى 271 ملياراً عام 2019م؛ إلا أنها لم تغلق الفجوة الكبيرة في الميزان التجاري الذي بقيت كفة مائلة لصالح الصين بقيمة 167 مليار دولار، فانخفضت واردات أمريكا من الصين من 519 مليار دولار عام 2018م إلى 219 ملياراً عام 2019م؛ في حين انخفضت واردات الصين من أمريكا من 120 مليار دولار عام 2018م إلى 52 ملياراً عام 2019م. 

ودفع فشل السياسة الأمريكية المتبعة مع الصين الإدارة الأمريكية إلى تصعيد كبير بالإعلان عن وجبة جديدة من الرسوم الحمائية قدرت بـ300 مليار دولار، في المقابل أعلنت الصين عن وجبة مماثلة من الضرائب على السلع الأمريكية قدرت بـ100 مليار دولار، لتباشر  الولايات المتحدة بفرض عقوبات على شركة التكنولوجيا والاتصالات الصينية (هواوي)، إلى جانب فرض قيود وشن حملة دعائية مناهضة لشركة “علي بابا” للتجارة الإلكترونية المنافسة لشركة “أمازون” الأمريكية، إجراءات سعت واشنطن من خلالها إلى الضغط على بكين لتقديم تنازلات في المفاوضات التجارية الثنائية بين البلدين؛ ضغوط انتهت إلى الإعلان عن اتفاق لم يوقّع عليه بعد بين البلدين بنهاية ديسمبر الماضي.

وبالعودة إلى التداعيات غير المباشرة للحرب التجارية على المنظومة الاقتصادية العالمية، فإنها تتضاعف بتأثير من الأضرار التي تلحقها الحرب بنظام العولمة الاقتصادي، فالأرقام والكلف تقفز بوتيرة كبيرة، وهو ما حذرت منه رئيسة صندوق النقد الدولي “كريستينا جورجيفا” بالقول: إن الحرب التجارية بين أمريكا والصين ستكلف النمو العالمي نحو 700 مليار دولار عام 2020م، كما أوضحت أنه من الممكن أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو 0.8% عام 2020م، وأضافت “جورجيفا” أن الصندوق يتوقع هذا العام نمواً اقتصادياً أبطأ في 90% من العالم، لافتة إلى أن الصندوق سيخفض تنبؤاته الرسمية للاقتصاد العالمي لعامي 2019 و2020م.

في المقابل، فإن وكالة “بلومبيرج” الاقتصادية ذهبت إلى تقديرات أعلى بالقول: إن الحرب التجارية الشاملة قد تكلف الاقتصاد العالمي نحو 1.2 تريليون دولار؛ إذ سيتراجع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 0.6% في عام 2021م، في حال اندفعت الصين وأمريكا في إجراءاتهما التجارية، مضاعفات باتت الأسواق الدولية تشهد آثارها؛ كانخفاض الطلب على الطاقة، وتراجع مكانة الدولار بعد أن تولدت شكوك كبيرة حول فاعلية المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، في الحد من تداعيات المواجهة الاقتصادية الصينية الأمريكية التي امتدت إلى المنافسة بين المؤسسات المالية، على رأسها بنك التنمية الآسيوي الذي تمتلك الصين 55% من أسهمه، ليتحول إلى منافس كبير لصندوق النقد والبنك الدوليين، معززاً من مكانة العملة الصينية اليوان؛ فالعالم بات أمام قطبين اقتصاديين متنافسين في كافة الميادين والساحات.

ختاماً، الصراع الناشب بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين يرجح أن تنعكس آثاره على التجارة الدولية، وعلى الطلب العالمي على الطاقة وأسواقها، وسيحد من نمو العديد من القطاعات الواعدة؛ كقطاع الطاقة المتجددة، والتجارة الإلكترونية، دافعاً مزيداً من الدول اللجوء إلى سياسات حمائية مماثلة تضعف من مكانة العولمة، وتهدم أركان اتفاقية منظمة التجارة العالمية (WTO)، حقائق تنبئ بميلاد نظام اقتصادي جديد يتوافر على الكثير من التحديات والفرص التي تتطلب موارد كبيرة للتكيف معها كتحولات في النظام الدولي.

Exit mobile version