قرّة العين.. مَدْرَسَة المستقبل

Untitled-1 intocopy.JPG

حين أتكلم عن البنت «الموهوبة»، فإنني أتكلم عن مَدْرسة المستقبل الأولى، ومُعلمة الأجيال، ولا يعني هذا أنني أقلل من منزلة الابن الموهوب، فالأولاد ذكوراً وإناثاً نعمة من الله تعالى، وكل له دوره ومسؤوليته في الحياة، لكني أردت أن ألقي الضوء على أهمية هذه الموهوبة، وأشير إلى وجوب الاهتمام بتربيتها في زمننا هذا؛ حيث الحاجة الشديدة والملحة لاستعادة دورها المفقود، في وقت علت فيه صيحات التنادي بحقوق المرأة وحريتها المتمثلة في التحرر من كل شيء، ولو كان هذا الشيء هو دينها وعقيدتها وحجابها وحياءها وأخلاقها ودَورها! حتى صار التهافت على بيوت الموضة ومحلات الأزياء يشغل حيزاً كبيراً عند المرأة، وأصبح التنافس على تقليد كل جديد في الملبس والمظهر والأفكار واللهجات واللغات سمة من سمات هذا العصر، كما ازدحمت عيادات أطباء التجميل بالفتيات والشابات والنساء والعجائز طلباً لزينة الجسد الظاهرة وتغيير خلق الله! وكأن كل ذلك هو الحق السليب منها المرادف لمفهوم الحرية!

من هي الأنثى؟

إنها الكريمة المكرمة، مَن ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم وكرَّمها، وأعلى ذِكرها وجعل لها حقاً في الحياة، فحرم التخلص منها في الجاهلية بالوأد المشهور المتعارف عليه حينها، أما حديثاً فحرم أن توأد أو تؤذَى بأي وسيلة كانت، كالوأد الخفي المتمثل في الإجهاض تسخطاً واستغناء لأنها أنثى، فحياتها محترمة وروحها أمانة، بل حث على حسن استقبالها منذ أول إطلالة لها على عالم الدنيا، وأنشأ لها حقوقاً عديدة؛ كحق الرضاع والنفقة والرعاية والحياة الكريمة والتربية الحسنة.

هي الأم والأخت والزوجة والابنة والحفيدة، وهي العمة والخالة والجدة، وهي التي تلد المجتمع ذكوراً وإناثاً، وتربيه وتؤدبه، وتزكيه وتهذبه، حين تنشئه على العبودية لله رب العالمين الذي كرّمها وكرّمهم وقال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70)، كرمها حين جعل لنفسها حُرمة؛ فحررها من أغلال العادات البالية، والعصبية المنتنة، والظلم البغيض، وذكر لها حقوقها في القرآن والسُّنة؛ فاستعادت حقها المسلوب، وحريتها المفقودة، فصارت حُرة!

ومنذ أول لحظة للرسالة الربانية العادلة الرحيمة، برز دورها وعلا شأنها ليكون أول من يؤمن بالنبي صلى الله عليه سلم ويصدقه ويؤازره امرأة؛ هي زوجه خديجة رضي الله عنها، ويكون أول من يقدم روحه فداء لهذا الدين امرأة؛ هي سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر رضي الله عنها!

هي خديجة الطاهرة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: “قد آمَنَتْ بي إذ كفَرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ” (رواه أحمد)، التي بُشرت بالرضا والقبول، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “قال لي جِبريلُ عليه السَّلامُ: بشِّرْ خديجةَ ببَيتٍ في الجنَّةِ مِن قَصَبٍ لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ” (رواه الطبراني)، وهي رحيمة القلب أم المساكين زينب بنت خزيمة رضي الله عنها، وطويلة اليد بالصدقة الواثقة بما عند الله تعالى زينب بنت جحش رضي الله عنها، وهي عائشة رضي الله عنها، وعاء العلم الداعية إلى الله على علم وبصيرة.

إنها العابدة لربها، وقد زكاها بالإيمان والطاعات، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم “طلَّقَ حفصةَ تطليقةً فأتاه جبريلُ عليه الصلاةُ والسَّلامُ فقال: يا محمدُ، طلَّقتَ حفصةَ وهي صَوَّامةٌ قوَّامةٌ وهي زوجتُكَ في الجنَّة” (السلسلة الصحيحة)، وهي المبادرة لطاعة ربها دون تأخير: فعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: “يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ “وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ” شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا” (رواه البخاري) مروطهن: جمع مرط، وهو الإزار.

السابقة إلى الإيمان

ومن النساء من أسلمت قبل أن يسلم أبوها، كرملة بنت أبي سفيان (أم حبيبة) رضي الله عنها، ومنهن من أسلمت قبل أن يسلم أخوها كفاطمة بنت الخطاب التي كانت سبباً في إسلام أخيها عمر بن الخطاب، ومن النساء من جعلت مهرها أعظم مهرٍ بعيداً عن صلصلة الدراهم وبريق الدنانير، وهي الرميصاء أم سليم بنت ملحان الأنصارية حين خطبها أبو طلحة قبل أن يسلم، فقالت: أما إني فيك لراغبة، وما مثلك يرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، فإن تُسلِم فذاك مهري لا أسأل غيره؛ فأسلم أبو طلحة وتزوجها.

وقد قص لنا القرآن الكريم قصة بلقيس ملكة سبأ التي أسلمت وكانت سبباً في هداية قومها، (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏) (النمل: 44)، وقص لنا قصة امرأة فرعون وقصة مريم، قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {11} وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ‏) (التحريم)، كل ذلك مما يؤكد حفاوة هذا الدين واهتمامه بهذا العنصر البشري المهم (المرأة)، لا سيما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت المرأة حاضرة حركة الحياة تشهد الجمعة والجماعات والعيدين، وتشارك في حركة المجتمع وبنائه وتثبيت لبناته.

قرة العين أُمُّ المستقبل

وصى النبي صلى الله عليه وسلم بالبنت خيراً، فقال: «من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا» وضم أصابعه. (رواه مسلم)، وقال: «مَن كان له ثلاثُ بناتٍ يؤويهِنَّ ويَكفيهِنَّ ويَرحَمهُنَّ فقد وجبَتْ له الجنةُ البتةَ»، فقال رجلٌ من بعضِ القومِ: وثِنتَينِ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «وثِنتَينِ» (صححه الألباني، السلسلة الصحيحة)؛ ولذلك قال الحسن: «البنات حسنات والبنون نِعَم، والحسنات مجزي عليها، والنعم محاسب عليها».

إن الله تعالى ألقى في قلب الوالدين حب أبنائهما وبناتهما، هذا الحب الذي يتحول إلى عمل يتمثل في كَدِّ الأب في عمله لتوفير الحياة الهانئة لأولاده، وتعب الأم في تربيتهم وسهرها وشفقتها ورحمتها بهم، فهل هذه هي الحقوق المطلوبة منا تجاه أولادنا قرة عيوننا؟

إن البعض يظن أن واجبه تجاه ابنته فقط هو توفير الغذاء والكساء والدواء، وأن تُلبَّى لها كافة طلباتها المادية، وتكون كالأميرة في بيت أبيها، ويغفل الكثيرون عن حمايتها من نار جهنم كما أمر الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6)، وذلك بتربيتها على حب الله والإيمان به وتعليمها ما ترتقي به درجات الجنة، أن نقيها من أمراض القلوب والمعاصي وأضرارها، ونحصنها من الشيطان الرجيم ووساوسه، ومن صحبة السوء، مع ظهور موجة الإلحاد الضالة والتشكيك في الدين وانتشار الفتاوى المضلة المغرضة.

إنه يُتأكَّد علينا حمايتها والقيام بتربيتها التربية الصحيحة في وقت أسنِدت فيه التربية لوسائل الإعلام والشارع والألعاب الإلكترونية، وشبكات التواصل المتعددة، فشاركتنا فيها رغماً عنا واقتحمت علينا بيوتنا وأسَرنا بل وغرفاتنا وأسِرّتَنا.

إن من حق هذه الموهوبة على والديها المحافظة على فطرتها التي وُلدت عليها، وغرس العقيدة الصحيحة فيها منذ ولادتها حتى تكون قرة عين لوالديها في الدنيا والآخرة، أن تُربَّى على الحياء من الله سبحانه أن يراها على معصية، ومراقبته في ذلك، أن نعدَّها لتكون زوجة وأمّا صالحة ولبنة قوية من لبنات المجتمع، أن نغرس فيها أن الله تعالى إنما ينظر إلى قلوبنا لا إلى أجسامنا حتى يرجح عندها ميزان الاهتمام بقلبها وجوهرها وباطنها، ولا يطغى عليها الاهتمام بالمظاهر الخادعة والتزين الكاذب فترفض أمر ربها لها بالحجاب، أن نربيها بالحب والرحمة على أن يكون الله ورسوله أحب إليها مما سواهما.

فإن أنت فعلت ذلك فقد أحببت ابنتك وأكرمتها ولم تهنها، وحينها أبشر بقوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ وُلِدَتْ له ابنةٌ فلم يئِدْها ولم يُهنْها ولم يُؤثرْ ولَده عليها يعني الذكَرَ أدخلَه اللهُ بها الجنة» (رواه أحمد).

Exit mobile version