الإسلام السياسي من جديد (2 – 2)

 

بقدر حسن التمسك بقيم التزكية وعلم السلوك تكون المقدمة الصحيحة وامتلكت ناصية النجاح فيه

علينا البحث عن جوانب القصور فنتجاوزها ونتعرف إلى نقاط الضعف فنقويها ونقتش عن موطن الخلل فنسدها

التقوقع على الذات يعطي فرصة لعدوك لعزلك ومن ثم سهولة ضربك

من مشكلات التيار الإسلامي دخوله بشرنقة المورطين الذين لا يتقنون سوى العواطف الاندفاعات غير المنضبطة

 

 

رغم كل هذه الهجمة الشرسة، والحرب الضروس، والقسوة البادية، والعدوان السافر، والظلم الجلي، والكذب الصارخ، والتلفيق المريع، والافتراء الكبير، على حركات العمل الإسلامي بمفهومه الناضج، الذي يعبر عن وعي فكرة الدعوة إلى الله تعالى، وطرائق مناصرة هذا الدين؛ عبادة لله تعالى، وابتغاء رضوانه، فإنه ما زال حضور الحركات الإسلامية العاملة في هذا الميدان ملء السمع والبصر، رغم شكوى كثير من أبنائها من الضعف والترهل، ولها ظهورها اللافت في ميادين متعددة، وشعب عمل متنوعة، في إطار ما يعرف بالقوى الناعمة، على مستوى النقابات، والجمعيات، والحراك الدعوي، ولا شك أن الحضور السياسي مفردة مهمة في مجال ما نتكلم عنه، ولها حضورها اللافت في جملة من القضايا والمسائل، ولا أريد المبالغة في هذا المضمار المؤرق، لكنها الحقيقة التي لا يجوز تجاوزها، ولا أن ننظر لها بنظر الريبة، فضلاً عن السخرية والاستهزاء، والأصل أن نتوازن في النقد، فلا إفراط ولا تفريط، ولا يحقرن الإنسان ما عنده.

وكأني أنظر إلى غد أمثل لهذه الأمة، بجهود البررة من الإسلاميين العاملين لهذا الدين، من الذين يحملون همَّ هذه الأمة، بحكمة وموعظة حسنة، وإخلاص وحماسة، وتخطيط وعمل، وجهد وجهاد، يوازنون بدقة بين لوازم التراث ومقومات المعاصرة، رائدهم الإخلاص لله تعالى، ومسارهم العمل الصالح، لا يفت عضدهم كيد كائد، ولا مكر ماكر، ومن عادتي أني لا أحب لغة “العنتريات”، وبالوقت نفسه أرتاح لقيمة الثبات، وحقيقة العمل، والشجاعة الحكيمة.

من هنا، نرى أن حصر خيارات الضيق، بما يذكره بعض الكتاب، من أن “الإسلام السياسي” ليس له سوى خيارين:

الأول: أن يذوب في السلطة، ويفيد من المساحات المتاحة له، بوزارة هنا، أو مسؤولية كبيرة أو صغيرة هناك، وفي هذا الخيار، يصبح جزءاً من النظام، مهما كان لون هذا الجزء، وهذا الخيار ثمنه معروف، ونتائجه معلومة الأثر، وعواقبه مفهومة المعالم.

الثاني: أن يختاروا برامج العمل خارج إطار السلطة، معارضة ومشاكسة، توتراً ومصادمة، وأخذاً وشداً، وهذا حتماً سيوقعهم في دائرة الفشل الصاخب، بكل تداعياته ونتائجه وآثاره المريرة، ونتائجه الوخيمة، هكذا زعموا، أو هذا الشكل هو الذي يتصوره هذا الصنف من المنظرين.

والحقيقة التي تمثل حالة التدافع بحق، هي أن نواجه هذه الهجمة، بمعادلات الأخذ بأسباب البقاء، والتقدم إلى الأمام، ونمضي في طريق الأهداف المأمولة، وترسيخ القيم المرسومة، ومن معالم ذلك:

1- العودة إلى الله تعالى، والتمسك بأهداب هذا الدين القيم، بإيمان عميق، صلاة وخشوعاً وتذللاً ودعاء وذكراً وإنابة، وتوبة وعودة صادقة إلى الله تعالى، والتزاماً وتحلياً بالفضائل، وتخلياً عن الرذائل؛ (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)، روى مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: “اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض”، فما زال يهتف بربه ماداً يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه.

وهنا لا يجوز لعامل للإسلام أن يقول لنا: نحن نتكلم عن الحرب الضروس، التي تحتاج إلى العمل المتواصل، وكيفية مواجهة التحديات، ومقابلة تحديات كبرى تحاول استئصالنا والقضاء علينا، وأنت تردنا إلى “الدروشة والمسكنة”، وهنا نقول لهم: إنه بقدر حسن تمسكك بقيم التزكية وعلم السلوك، بقدر ما تكون المقدمة الصحيحة، وقد امتلكت ناصية النجاح فيها، فهذه مفتاح الخير، والخطأ أن نكتفي به، ونقتصر عليه، ونحبس أنفسنا في دائرته، وهذا لا يقوله عاقل.

2- قيمة العمل: بالحكمة والموعظة الحسنة، فلا خيار أمام العاملين، إلا أن يصمدوا ويثبتوا، ويكثروا من العمل الكيفي المدروس، فالديمومة سر البقاء، والانقطاع من أكبر المخاطر التي تواجه العمل الإسلامي، مع الأخذ بما نطيق، ولا نحمل أنفسنا ما لا قِبَل لنا به، ونحقق قانون الواقعية، ولا نتعلق بالرغبات، والسياسات الشهوية، كل ذلك من وسائل النجاح، ولا نغالب نواميس الكون.

بل نعمل بمقتضيات السنن الربانية، ومن ذلك أننا نأخذ بعالم السبب –في كل شيء– بأحدث ما توصل له العقل البشري، من نتائج العلم والمعرفة، وحسن الإنتاج، ومن المعلوم أن خصوم “الإسلام السياسي” يرون أنهم يسيرون بلا هدي، ولا رشد، ولا خطة، ولا مشاريع، ولا برامج واضحة، ولا مناهج عملية، ولا رؤى منقذة، فلا يلامسون الواقع، ولا يفقهون أدوات العمل فيه، حسب قوانين المعاصرة، ومفاهيم التطور الصحيح، والأمر –عند هؤلاء الإسلاميين– لا يعدو مجرد شعارات تردد، ورايات ترفع، وشارات براقة، وهتافات جذابة، وأناشيد منعشة، وخطب حماسية، لا تسمن ولا تغني من جوع، وهذا التبخيس هو من الظلم الذي أشرنا له، وهو ذاته برنامج الحرب المهووسة على الإسلاميين، وهو عينه حرف العربة عن مسار الحقيقة.

ولكن هذا لا يمنعنا من أن نفيد من هذا النقد الشديد، كما أننا لا نكابر فننكر كلامهم جملة وتفصيلاً، بل علينا أن نبحث عن جوانب القصور فنتجاوزها، ونتعرف إلى نقاط الضعف فنقويها، ونقتش عن موطن الخلل فنسدها، ونرصد منافذ الخلل فنردمها، وهكذا.

روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أي العمل أحب إلى الله قال: “أدومه وإن قل”، وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة: “إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه”، وروى أحمد عن أنس بلفظ: “إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق”.

3- المراجعات المستمرة، والتقويم الدائم، والإفادة من التجارب، والوقوف عند الإيجابيات لتنميتها وتطويرها، والوقوف على السلبيات والهنات والثغرات، لتقليلها وتقليصها وتجاوزها، ومن ذلك سماع النقد، من الأخ والصديق، بل حتى من العدو، فرب ثغرة دلك عليها عدوك، فلا تكابر، ولا تبتئس، ولا تعاند، والحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها.

4- الاستفادة من كل مساحة متاحة للعمل والمشاركة، ونرسم إستراتيجيات دقيقة، نقرر من خلالها قواعد الحكمة، ومفاعيل السياسة الراجحة، من مثل متى نتصدر، ومتى نكون في الصف الثاني أو الثالث، نقدم مَنْ، نؤخر مَنْ، نتعاون مع مَنْ، نفترق مع مَنْ، بعيداً عن العاطفة المجردة، أو الانسياق وراء رائحة نصر هنا، أو بارقة أمل هناك، ومن ذلك نعمل قانون عالم الآثار والنتائج.

5- عقد التحالفات مع المخلصين: من القريبين حسب دوائر محددة، بناء على دراسات معمقة، وفهوم دقيقة.

6- بناء شراكات مفيدة، في كل مفاصل الحياة، مع النظيفين في المدى الوطني الواسع، والحذر كل الحذر من التقوقع على الذات، مهما كانت المبررات؛ لأن هذا يعطي فرصة لعدوك، لفرزك وعزلك، ومن ثم سهولة ضربك.

7- التواصل مع الجماهير، في سبيل خدمتها، فالجماهير ملت الشعارات، وتريد من يخدمها، ويقدم لها ما ينفعها في حياتها، وحتى لو سلمنا بنخبوية الحركات الإسلامية، لكن عليها في الشأن العام.

8- والكلمة المفتاحية في كثير من حراكاتنا، مصدرها “صناعة علاقات مميزة” تحميك من كل سوء ومكروه، وتعطيك الفرصة الكافية لنجاح مشروعك، فالمفاصلة لا تعني قطع علاقتك مع من يخالفك أو يكون على منهجك الاجتهادي.

9- من مشكلات التيار الإسلامي أنه يدخل –أحياناً- في شرنقة “طبقة المورطين” الذين لا يتقنون سوى العواطف، ولا يجيدون سوى الاندفاعات غير المنضبطة، فالحذر كل الحذر من الوقوع في ردود أفعال غير محسوبة النتائج، فالصبر، وطول النفس، ومنع عوامل الاستفزاز من أن تكون سبيلاً في الانسياق وراء خيارات غير محمودة، كل ذلك، مع الثبات، والتمسك بالثوابت.

10- والخلاصة: هذه الهجمة الشرسة سيتم تجاوزها، إذا أخذنا بأسباب النصر، وعوامل النجاح، وفي مقدمة منها، علاقتنا مع الله، بطاعته والالتزام بمنهجه.

Exit mobile version