حامد ربيع في مواجهة انهيار أمة (1-4)

من الحقائق الثابتة في تاريخ الأمم أن الأمم لا تنهار دفعة واحدة، ولا تنهار بصورة مفاجئة، وإنما تكون عبر سنن الحياة والكون والأحياء، فكما أن للصعود الحضاري سننه، فإن للتراجع والانطفاء الحضاري مؤشراته ومظاهره. وما ذكره ابن خلدون من “أن الظلم مؤذن بخراب العمران” هو استخلاص لمثل تلك السنن التي تجري على الأمم كما تجري على الإنسان والكون وما فيه. ولا تخلو أمة في طريق انحطاطها من مصلحين يقومون بدور الأنبياء، في التنبيه إلى ذهاب ريح الأمة وفشلها.

وحامد ربيع (1924-1989) مصلح بدرجة مكافح حضاري، نبه الأمة قبل نصف قرن من السقوط السحيق، وأرسل رسائله وأسفاره إلى كل من يهمه أمرها نذيرًا للمخاطر الوجودية التي تنتظرها في ضوء قراءة كاشفة لمقدمات عديدة، لم يستطع كثيرون قراءتها في وقتها، ولكن النتائج التي تعيشها أمتنا الآن حولت هذه المقدمات والتنبؤات التي تنبأ بها خلال رحلته الكفاحية إلى واقع مرٍ معاش.

ونتناول هنا هذه الرحلة الكفاحية والمحاولة الإنقاذية التي قام بها حامد ربيع من خلال سِفْره العظيم (نظرية الأمن القومي العربي)[1]. ونكتفي في هذا التناول بالأفكار الكلية، والقواعد والمبادئ والقيم التي تضمنها هذا السفر، ويمكن للقارئ العزيز الرجوع إلى التطبيقات من خلال الإنتاج الفكري الذي تركه حامد ربيع.

تساؤلات الأمن العربي

     طرح ربيع عدة تساؤلات في صورة أجراس إنذار لحماية (الوجود العربي) مطلع سبعينيات القرن الماضي، من هذه التساؤلات: تساؤل الفردية والجماعية في الحكم أي الاستبداد والديمقراطية، وتساؤل العروبة والإسلام باحثًا عن أسباب الفصام النكد، وسُبل إعادة الاتصال، وتساؤل عن علل وأمراض الأنظمة العربية في معالجة مشكلاتها الداخلية، وتساؤل الظاهرة الصهيونية وتمكنها من الجسد العربي وإصابتها القاتلة له في القلب. 

السياسة ليست صناعة للهواة

        وقعت السياسة العربية منذ تأسيس الدولة القُطرية في أيدي مجموعة من أصحاب اللباس العسكري، أو من أصحاب النفط، لم يتمرسوا على الديمقراطية والمشاركة الجماعية لمجتمعاتهم في الحكم، أو الاستفادة من الكفاءة والنظريات العلمية، ولم يؤسسوا لمعاهد أو مختبرات فكرية سياسية، وزهدوا في هذه المعاهد والمختبرات، وانفردوا برؤيتهم الفردية مهما كانت متواضعة أو هزيلة، أو صاحبة هوى. 

      لم تعد السياسة الخارجية صنعة الهواة. لم يعرف الإنسان في تاريخه الطويل مرحلة بلغت فيها إدارة سفينة التعامل الدولي ما وصلت إليه اليوم من تعقيد. إن فهم الحقائق التي تحيط بنا -ولو في إطار محدود- في حاجة إلى حياة كاملة. ولا يجوز أن يخدعنا سماع أن أشخاصا محدودي الثقافة والتاريخ العلمي، قدرت لهم القيادة العليا في مجتمعات عظمى. إن حول القائد في تلك النظم مجموعة كاملة من الخبراء، والسياسة القومية في تلك الدول لا تصنعها إرادة فردية وإنما هي وليدة تقاليد ثابتة صاغتها مؤسسات قد لا تبدو واضحة للعيان ولكنها ذات فاعلية ثابتة. هذه الحقيقة تزداد خطورتها عندما نرتفع إلى مستوى التعامل الإيجابي بما يعنيه من محاولة التحكم في الأحداث وقيادة سفينة الصدام الدولي بما يفرضه ذلك من ضرورة بناء تصور واضح للأهداف وأساليب للممارسة، ليس فقط في حالة النجاح بل وكذلك في حالة الفش؛ حيث إن كلا من الافتراضيين يملك درجاته المختلفة. وتزداد الخطورة عندما يجد القائد نفسه وقد تعين عليه أن يتخذ قرارا سريعا في عدة لحظات وهو قادر-ذلك القرار- على أن يحدد مصير أمته ومصير نظامه لعدة أجيال. هذه الحقائق لا يريد أن يعيها المسئولون في العالم العربي فهم .. تارة يعتقدون أن خطابا مملوءا بالأكاذيب والسباب قادر على أن يغطى حقيقة الفشل… وتارة أخرى يتصورون أن ضجيجا إعلاميا حول زيارة لزعيم أجنبي تستطيع أن تؤكد النجاح المنقطع النظير.

العروبة والإسلام

       أخطر الحقائق التي تعيشها الأمة العربية في هذه اللحظة هو الانفصام بين العروبة والإسلام. لأول مرة في تاريخ الإنسانية نجد الصدام العنيف بين قومية عربية وأيديولوجية إسلامية. الحرب العراقية الإيرانية ليست مجرد خلاف حول حدود ولكنها صراع حقيقي بين مفهوم قومي للعروبة الإسلامية ومفهوم إسلامي للقومية الفارسية. الظاهرة لا تزال في بدايتها ويجب تطبيقها وهي في حاجة إلى الدراسات الجادة المحايدة المتأنية.

وإذا كانت طبيعة هذا البحث تفرض التعرض لهذه الناحية ولو بقسط معين فإن المعلومات التي نملكها لا تسمح بالغوص في مثل هذه المشكلة الشائكة. ولنتذكر بعض الدلالات. حتى بداية العصر العثماني كان الإسلام والعروبة دائرتين متطابقتين.

الإسلام هو دين العروبة والعروبة هي لغة الإسلام. سهل تلك الحقيقة أن الأمة الإسلامية كانت تضم وتحتضن كل مسلم ولم يكن هناك مسلم خارج تلك الأمة الإسلامية. من جانب آخر فإن كل أمة تقبل على الإسلام كانت تقبل أيضا على لغة العروبة وتجعلها محور تخاطبها اليومي. الإمبراطورية العثمانية جاءت لتقدم نموذجا جديدا: إسلاما دون عروبة. وعندما وقفت القومية العربية تصارع لتأكيد ذاتها فصلت بين عقيدة إسلامية ونظام إسلامي سياسي.

العالم العربي فشل فشل

     أما عن أنماط فشل العالم العربي فحدث ولا حرج، فإنه ينتقل من فشل إلى فشل، من فشل داخلي إلى فشل خارجي.

 إن تاريخ المنطقة العربية هو مجموعة من الاستفهامات التي لا يستطيع إزاءها المحلل إلا أن يقف حائرا غير قادر على تقديم إجابة مقنعة، ويكفي أن نتذكر بعض النماذج: لماذا أولًا فشل العالم العربي في التعامل مع مشاكله؟ العالم العربي يملك جميع إمكانيات القدرة على التحكم في مصيره وعلى أن يكون طرفا فاعلا وليس مجرد موضوع للتعامل ومفعول فيه. ورغم ذلك فعلى الأقل منذ القرن الرابع الهجري بل وإلى حد معين قبل ذلك اختفت الإرادة الذاتية للمنطقة وأضحى الفشل أحد ملامح تطور الوطن العربي؛ فشل أولا في تطويع ذاته إزاء موجات الغزو القادمة من المشرق والمغرب. وفشل ثانيا في تجديد قدراته، ولا يقتصر هذا الفشل على ما نعاصره في هذه اللحظة، إنه تاريخ طويل من الإخفاق، يبدأ منذ العصر العباسي الأول، بل وفي لحظات قوة الإمبراطورية الإسلامية عندما بدأت تتعامل وتستند على الأتراك في تكوينها القتالي والدفاعي. ولنتذكر قصة الخليفة المعتصم في بداية القرن الثالث الهجري عندما تصور أن إنشاء مدينة خارج بغداد تسمح له بحل جميع المشاكل التي فرضها خلق جيش من المرتزقة يحمي الدولة العقائدية.

  فشل أيضا من جانب العالم العربي في التعامل بين قياداته: صراع مستمر، تجاوزات دائمة، ضجيج مرتفع يكاد يذكرنا بأن هذه القيادات لست من مستوى رجل الدولة وإنما هي أشبه بزعماء العصابات في الأحياء التي انعدم فيها النظام والأمن. وهو فشل بدوره لا يعود إلى الأمس القريب بل إلى فصول متتابعة لفشل ذلك العالم في أن يخلق قياداته الواعية.

العرب وزرع “إسرائيل”

      ثم يأتي ربيع على التساؤل الأكثر خطورة على الوجود العربي، وهو التساؤل الخاص بالكيان الصهيوني، وكيف تم تكوينه وبأية مقومات للوجود، لم يكن يمتلك منها قطميرًا. +لقد استطاعت دولة صغيرة كـ”إسرائيل” لا إمكانيات لها من حيث القدرات الذاتية أن تتلاعب بالمنطقة خلال قرابة نصف قرن من الزمان ولا تزال قادرة على ذلك التلاعب؟ التساؤل ليس بمعنى أن “إسرائيل” استطاعت أن تفرض حروبًا متتالية، مما لا شك فيه أن هذه الحروب تفاعلت في صياغتها المتغيرات الدولية. ولكن ما هو أخطر من ذلك أن “إسرائيل” كانت قادرة على أن تمنع المنطقة من أن تستغل إمكانياتها وأن تفرض أرادتها بأي معنى من المعاني.

     “إسرائيل” وهي تبدأ بقرابة نصف مليون من السكان غالبيتهم العظمى مصابون بأمراض نفسية وعضوية، تطورت فإذا بها في فترة ثلاثين عاما تكون إمبراطورية قادرة على أن تتحكم في تطورات المنطقة، وعلى أن تخلق التفتت ليس فقط في الإرادة العربية؛ بل وفي المدركات القيادية العربية حول أساليب التعامل مع مشكلة الشرق الأوسط.

ولعل الملاحظة الأكثر غرابة أننا في جميع تعاملاتنا مع النماذج التاريخية نلاحظ كيف أن المنتصر في لحظة معينة يؤثر في خصمه، فإذا بذلك الطرف الآخر يكتسب من خبرة التعامل قدرة وصلابة معينة أساسها محاولة التشبه بالمنتصر.

الصهيونية ليست إلا قلبا لأساليب التعامل النازي، والأقلية السوداء في المجتمع الأمريكي نقلت منطق غزو الرجل الأبيض إلى أساليب الغزو والصهيونية.

 لقد أثبتت الصهيونية أنها تنطلق أساسا من مبدأين هما التمويه والخديعة من جانب، واستغلال الفرص المتاحة بأقصى فاعلية من جانب آخر.

إن كل خطوة لها حساباتها والثمن يدفع مقدما.. فماذا فعلت القيادات العربية؟!!!

 —–

* أستاذ أصول التربية المساعد بجامعة دمياط – مصر.

[1] حامد ربيع: نظرية الأمن القومي العربي والتطور المعاصر للتعامل الدولي في منطقة الشرق الأوسط، القاهرة، دار الموقف العربي، 1984.

Exit mobile version