قراءة في نص “حضاري” (2-2)

 

“الإسلام هو الحل الوحيد.. الحضارة الغربية تموت لأنها تفتقر للغايات” المفكر الفرنسي المسلم روجيه جارودي (**)

 

   في هذا الجزء نتناول تحليل جارودي للحالة الدينية المعاصرة بالنسبة لليهودية والمسيحية, وبيان الفساد الذي دخل إليهما تاريخيا وتجسيداته المعاصرة في نموذج غربي مادي النزعة على المستوى المعرفي, والكيان الصهيوني الذي يعبر واقعيا عن هذا النموذج والفساد في هاتين الديانتين. وذلك في ضوء البحث عن بديل ثالث تهوي إليه أفئدة الإنسانية ونظامها القيمي والأخلاقي لتمثيل الإرادة الإلهية في الواقع الإنساني. حيث يعيد اكتشاف الإسلام من جديد, ويدعو الإنسان الغربي أن يعيد قراءة الإسلام ونموذجه الإنساني المقاوم لنزغات الطغيان على قيمتي “الإنسانية” و”العدالة”.

تفسير قبلي وعنصري

          ألا يمكننا أن نخرج من هذا الطريق المسدود الذي وصلنا إليه بعد هزيمة الغرب المضاعفة وندخل من جديد المعنى وهو بحق البعد الأسمى وهذا عن طريق نفس هذه التقاليد الدينية التي استقبلها الغرب سواء كانت اليهودية أو المسيحية؟

          لقد بدأت رسالة التوراة في الاضمحلال عندما خالطها تفسير قبلي كنسي يزعم أنه شرعي لوحدة الإنسان مع الله سبحانه وتعالى كما عاشها إبراهيم وكما يقول هذا القانون الذي أرسل لموسى.فالوحدة بين الرب والقانون كانت موجهة بالفعل إلى كل الناس كما تؤكد الكتب السماوية في كل قبائل الأرض.

          ولكنا نرى في الوصية القديمة وبعد أن انقسمت “إسرائيل” ومملكة يهوذا حوالي سنة 930 قبل الميلاد، نرى بوضوح هاتين الفكرتين أولاهما “روحية” عما يسمى “الشعب المختار” يكون فيها هذا الشعب من (لبوا نداء الله أو مثل إبراهيم)، من يكونون أمة الإيمان بإسلامهم لله والفكرة الثانية التي ترجع إلى العنصر يكون فيها “الشعب المختار” هو من بقى فيه الدم والجنس الخاص بأولاد إبراهيم عليه السلام.

          أما المفهوم الأول فهو عمومي شامل للناس جميعهم أيا كان عنصرهم أو جنسهم “الذين يلبون نداء الله” وهو المفهوم الذي يأتينا من كبار الأنبياء مثل عاموس وحزقيال واسحق ويعقوب الذي سيئول بعد ذلك لسيدنا عيسى عليه السلام.  

          أما المفهوم الثاني القبلي العنصري فهو قائم على التفرقة بين الأجناس…أما العنصر الثاني الذي أدى إلى إفساد دين إبراهيم بعد هذا التفسير القبلي والعنصر للوحدة بين الخالق والمخلوق فهو نشأة الكنيسة واللاهوت. هنا أيضًا يحق لنا أن نفرق بين الاتجاه “اللاوي” والاتجاه النبوي، فالكاهن Heulte متخصص في شئون المناسك فقط وهو يعتبر همزة الوصل يبن الرب والعباد ويقوم على تطبيق دقيق للمراسم ولأحكام الكنيسة الكهنوتية التي تغطي على أية واجبات دينية أخرى، حتى أن هؤلاء الكهنة يفرضون عقوبة الموت على من لا يحترم عطلة يوم السبت. لذلك سوف يثور السيد عيسى عليه السلام ضد هذه الشكليات وذلك باسم الإيمان الداخلي العميق.

          والسبب الثالث وراء إفساد الثقافة الدينية هو التفسير المادي لما يسمى “بالوعد” فالكنيسة القائمة على أهواء هؤلاء الكهنة وليس على النبوة، تربط بين “الوعد” وبين الأرض كما تربط بين الاختيار، في إطار ما يسمونه بالشعب المختار بين الدم والعنصر، ذلك بالرغم من هذه التقاليد الروحية العامة التي تسود الديانة اليهودية. لذلك فنحن نرى للأسف وحتى يومنا هذا في فبراير 1983م مثلاً – حيث تقوم جريدة إسرائيلية بتوجيه المديح للجنرال أريل شارون وأعماله البشعة في لبنان في مقال بعنوان : “يوشع، جد شارون” .

الإسلام الطريق للإنقاذ المعاصر

          يقوم جارودي هنا بطرح المبادئ الإسلامية, التي تمكن الإسلام من العمل من جديد مع الإنسان المعاصر, هذه المبادئ كامنة في الإسلام لم تفارقه وإن كانت فارقت أتباعه, ولعل هذا يفسر هذا الانتشار الكبير للإسلام رغم الضعف الذي تعانيه المجتمعات التي تحمل صفة “الإسلامية”.

ولهذا يرى جارودي النبوة كمجسدة للواقع القرآني الحضاري بصورة تختلف عن أدوار الأنبياء في الأمم السابقة “…   أما النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – فلم يكن مجرد نبي وإنما كان أيضًا رجل دولة ومشرعا وزوجًا وأبا وتاجرا وقاضيا وقائد حرب، وأخذت الرسالة النبوية أبعادًا جديدة لم يكن من الممكن أن تأخذها وقت سيدنا عيسى عليه السلام، فقد شملت العلاقات الاجتماعية دون أن تفقد أبعادها الروحية أبدا، وقد قيل في القرآن الكريم أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. هكذا كانت الخاصية القرآنية هي منهاج أخلاقي للعمل فالدين الإسلامي يرفض بتاتا حياة الأديرة التي يكون فيها التأمل هو السبيل الوحيد والهدف الأسمى”.

          ويلقى جارودي الضوء على مفهوم الإنسان في القرآن, وهو الذي يخالف النظرة المادية المعاصرة أو الروحية القاصرة في عصور أوروبا المظلمة “…فالإنسان في القرآن هو خليفة الله في الأرض والقائم عليها وهو مسئول تماما عن تاريخه، لذلك فهذه الرسالة لا يمكن بتاتا أن تنفذ إلا في داخل الجماعة أو الأمة فالمسلم هو أولا من يقتنع بأن الله قد خلقه ليكون مسئولا عن مصير كل الناس”.

الأمة المسلمة= أمة الإنسانية

   والمبدأ الحضاري الإسلامي الذي يطرحه جارودي هنا, هو مبدأ إنسانية الأمة, وهو مقابل لعنصرية الحضارة الغربية وقبليتها التي جسدها طغيانها وهيمنتها (الظالمة) على العالم, فالأمة الإسلامية تفتح عضويتها لجميع بني الإنسان, لكل ذي يدين, لا فرق في ذلك بين رجل أو امرأة, قوي أو ضعيف, ولا فرق بين عرق أو لون.

    “هذه الأمة الإسلامية هي من نوع جديد فهي لا ترتكز لا على جماعة من نفس الدم أو من نفس العنصر ولا ترتكز على أرض أو على سوق معينة ولا حتى على حضارة بعينها، فهي لا تقوم على أي شيء قد يورث سواء في الطبيعة أو في التاريخ، أو على شيء يقوم على عطاء معين أو على ماض معين، وإنما تقوم الأمة على الاختيار وعلى الإيمان، اختيار هو بمثابة الاستجابة للنداء والاستسلام لإرادة الله الذي يحتم على الفرد معاونة الآخرين سواء في حاجاتهم المادية أو ي حاجاتهم الروحية. كذلك فأنت لا تجد في الإسلام شيئًا يجعلك تعتبر الدين مسألة خاصة أو شخصية ففكرة إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله غير مقبولة بتاتا من المسلم، فأي عمل إنساني له أبعاده الروحية السماوية وأول واجب بالتالي على الحاكم هو أن يوائم بين أعماله والإرادة الإلهية غير ناظر لفائدة شخصية أو لمصلحة تتعلق بمجموعة معينة أو بدولة معينة وإنما تتعلق بالعالم أجمع وبالإنسانية جمعاء”.

“ولهذا يمكن للإسلام أن يمنح الحل بهذه لصورة الجديدة، إلا وهي صورة الجماعة التي لا تقوم إلا على الاحترام العالم للقيم الروحية. فالإسلام هو تتويج لتراث إبراهيم عليه السلام الذي نادي الإنسان سواء ع طريق اليهودية أو المسيحية بالبحث عن هدفه الأسمى وهو يستطيع الآن أن يعطينا من جديد الأمل في هذه المجتمعات الغربية التي فككها النظام التكنوقراطي للحضارة الذي أدى لا إلى سعادة الإنسان وإنما إلى هدمه وفنائه. وهكذا يمكن للإسلام أن يحمي الإنسان من هذا النظام الخاطئ في التنمية العمياء التي تؤدي إلى نهايته الحتمية”.

الإسلام يحكم العالم بالتوحيد

          نفي الإسلام أن تتدخل علاقات القربى – على أهميتها- في طريق الحقيقة, فالحقيقة إن تنازعها حتى الآباء والأبناء والزوجات والإخوة والعشيرة أو المصلحة الاقتصادية, فإن الحقيقة تنتصر وترجح كل هؤلاء, وهذا ما يشير إليه جارودي في هذا الجزء من “النص الحضاري” بقوله “… أما المبدأ الثاني الذي أعطاه لنا القرآن وهو شيء هام جدًا بالنسبة لحياتنا ولقائنا فهو المضاد لهاتين النزعتين الفردية والقومية وهما الوباءان اللذان سيؤديان إلى موت وانتحار الكوكب الأرضي بأكمله. فعندما أسس سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – أول دولة إسلامية في سنة 622م فقد رفض أي تعاون يقوم على الصلة القبلية أو على صلة الدم أو على أية طبيعة أخرى، وقد اعتبر أن المجتمع سيكون مجتمعا إنسانيًا حقا وغير حيواني أي أنه لن يقوم على المصالح وعلى الرغبات، وقد أقام الإسلام نوعا من السلام مع الأمة اليهودية، وبعد ذلك بستة أعوام مع مسيحي نجران بالجزيرة العربية وانتشر هذا الصلح وضم الهنود والبوذيين في عصر الخلفاء الأول… وهكذا خلق سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – نموذجًا للأمة الإسلامية التي  لا يمكن أبدًا أن تكن أمة قومية وإنما دولية… وهكذا لا تقوم الدولة إلا بتنفيذ أحكام الله”.

        أما الفردية فهي تختلف اختلافًا كليا في النظرة الشاملة المسلمة للعالم… فالعالم لا يحكمه إلا التوحيد أي لا ينظر للشيء إلا كجزء من كل، وليس وجهة نظر مصلحة دولة معينة أو فئة معينة ولكن للمصلحة العامة للكوكب الأرضي كله.

التوحيد في مقابل الاستبداد

        ينهى الإسلام نهيا قاطعا عن الاستبداد بكافة أشكاله, الفردية والاجتماعية, فالاستبداد مناف للتوحيد, فالأول تتجه أحكامه لمصلحة فرد أو طائفة أو جماعة بعينها, بينما الثاني (التوحيد) تتجه أحكامه للإنسانية كلها, “إن أحكام الإسلام لا تنطلق من وجهة نظر فرد يعتبر نفسه المركز الرئيسي لكل شيء ولكن من وجهة نظر الله سبحانه وتعالى ومن منطلق هذه الروحية التي تجعل من الأنا الفردية بعدًا روحيًا وأساسيًا هو المشاركة في كل شيء في الشعلة التي هي بمثابة شرارة منها كما كتب أحد الصوفيين المسلمين”.

الاجتهادأساس في الإسلام

      الإسلام هادي لحركة الحياة, وهو ما يجعل من أحكامه مبادئ هادية لتلك الحياة على تطورها وتنوعها, وهو ما عرف بمبدأ “الاجتهاد” والذي تفرع عنه العناية بالعلوم الفقهية والعقلية كذلك, من أجل فهم أفضل لهذه المبادئ من ناحية ولواقع من ناحية أخرى.

       وهنا يذكر جارودي ” أنه إذا كان من واجب المسلم أن يطبق أحكام الرسالة في مشاكله اليومية، فإن واجب الاجتهاد وواجب التفسير هو واجبه الأول وهو لا يستطيع أن يقوم بهذا إلا في إطار الآيات ككل وليس في إطار آية واحدة منطلقًا مما يسمى “سواء السبيل” الذي عرفه القرآن في مجموعة. هكذا فنحن مسوقون إلى هذا المبدأ الأساسي في القرآن ألا وهو مبدأ الاجتهاد. فالقرآن كأي كتاب إلهي ليس فقط سبيلا أو اتجاهًا يسوقنا إلى الله عز وجل وإنما يعبر عن تدخل وقتي وتاريخي لله وتدخل للأبدية في الزمن وللمطلق في النسبي فقد أرسل الله لكل جماعة رسالة باللغة التي تفهمهما تلك الجماعة.

          وقد كان الحال كذلك بالنسبة لنبي الإسلام فقد أوصل لنا رسالة تتحدث إلى البشرية جمعاء في كل زمان. ولكن كل أية وكل سورة نزلت في مكة أو في المدينة هي الإجابة الإلهية لسؤال معين، ولسنا هنا نقلل من قيمة هذه الرسالة عندما نقول أنها خاصة بمن معين وبحضارة معينة وبشعب معين. وكذلك فإن لغة القرآن ليست فقط لغة رمزية ولكنها أيضًا لغة تاريخية لا يمكننا أن نستخلص من أي جزء منفرد من القرآن دستورًا سياسيًا أو اقتصاديًا مثلما فعل بوسويه في كتابه “السياسة كما تراه الكتابات السماوية” أو كما كتب الماوردي في “الأحكام السلطانية” فهذا  يؤدي إلا إلى تبرير أيديولوجي للهيكل الموجود مثل الملكية المطلقة، وبالحق الإلهي كما كان الحال بالنسبة للملك لويس الرابع عشر في وقت بوسويه أو بالنسبة للحكم العباسي في عهد الماوردي.

تحولات حضارية في ظل الإسلام

 تتفاعل المبادئ الحضارية الإسلامية, مع أشواق الإنسان, ولكنها تؤثر على نظرته لمكونات الحياة وعناصر في التفضيلات والترتيبات الهرمية للقيم, وجوهر هذه المبادئ يحمل في داخله المعنى لكل هذه المكونات, ويذكر جارودي حول هذه الإضاءة, قوله “…فبدلاً من أن نحول عالم الأشياء والمخلوقات إلى أحداث وقوانين، فالإسلام يذكرنا بضرورة البحث عن هدف ومعنى أولا، فهذا الإنسان الغربي الذي يكرر السؤال عن الكيف ويتناسى السؤال عن السبب سنحاول أن نذكره أن التكتيك للتكتيك والعلم للعلم لا يؤدي إلا إلى العدم وأن الحياة من أجل لا شيء هي الانتحار البطيء للكوكب كله، وأن هذا كله يأتي من نسيان تبعية الأساليب للأغراض ونسيان الأبعاد الروحية للحياة. هكذا يمكننا بالإسلام أن نبين ضرورة المعنى والسمو ونذكر الخالق العظيم”.

__________

الهامشان:

(*) أستاذ أصول التربية المساعد – جامعة دمياط.

(**) هذا النص الحضاري هو عبارة عن رسالة فكرية ألقاها روجيه جارودي في المؤتمر التاسع لمجمع البحوث الإسلامية بمناسبة العيد الألفي للأزهر الشريف، بالقاهرة عام 1983م.

 

Exit mobile version