قراءة في نص “حضاري” (1-2)

“الإسلام هو الحل الوحيد.. الحضارة الغربية تموت لأنها تفتقر للغايات” المفكر الفرنسي المسلم روجيه جارودي (**)

 

يقوم هذا النص على فكرة محورية هي: حاجة العالم إلى نموذج الإسلام لاستعادة الإنسان إلى حظيرة الإنسانية، التي أفقدته إياها الحضارة الغربية المعاصرة، بعد أن ثبت جنوحها إلى كل ما هو ضد الإنسان، وعملها المدمر للقيم الإنسانية في كافة أشكالها وأنواعها.

هيمنة الغرب = نهب العالم

ينتقد جارودي نموذج التنمية الذي قدمته “الحضارة الغربية” ويصل إلى نتيجة أن ما قدمته هذه الحضارة لم يكن نموذجاً لتنمية الإنسان، بل كان نموذجاً لنهب الإنسان (غير الغربي) والهيمنة عليه وسحقه حضارياً؛ “.. فمنذ قرون خمسة يسيطر الغرب، أي: يسيطر على كل العالم بدون أي شريك، وقد فرض الغرب نموذجه للتنمية ومنهجه الثقافي أيضًا، ويتطلب نموذجه للتنمية أن تنهب كل الثروات المادية والإنسانية التي تمتلكها كل الشعوب لفائدة الغرب وحده أي ما يعادل خمس سكان الكرة الأرضية فقط، ولذلك فالغرب ينتج أي شيء وبكميات كبيرة وفي وقت سريع سواء أكانت حاجة مفيدة أم مؤذية أو حتى مميتة كالأسلحة المدمرة التي تعد بحق سوقًا لا ينضب معينة أبدًا، ذلك يمثل في أجلى صورة هذا النموذج المخيف في التنمية وبين صفته الانتحارية”.

ويصف ما قدمه نموذج التنمية الغربي للعالم بأنه “فشــل تاريخي”، “حيث إنه في عام 1982، حسب التعداد الذي قدمته هيئة الأمم المتحدة، فهناك خمسون مليون نسمة في العالم ماتوا جوعًا أو بسبب سوء التغذية، ولا يمكننا أن نتخيل صورة أبشع من هذه الصورة التي وصلت إليها الكرة الأرضية بعد خمسة قرون من التقدم، كما يجرؤون على تسمية هذه الفترة في الغرب، وهذا الفشل التاريخي للمنهاج الخاص بالتنمية يتضح في فشل المنهاج الغربي الحضاري، فالحضارة الغربية تعتبر نفسها وقد بُنيت من تراثين اثنين: التراث اليهودي – المسيحي من ناحية، والتراث اليوناني – الروماني من ناحية أخرى، هذان التراثان قد أكسباه هذه السمة التي يطلقون عليها لقب “الإنسانية”، وهي اتجاه علمي يجعل من الإنسان كفرد مركزاً ومقياساً لكل شيء على ظهر البسيطة، وهذه الفكرة ترجع إلى الفلسفة الأفلاطونية التي تفرق بين المادة والروح، وتجعل من الجسد سجنا للروح، كما أورثتهم فلسفة أرسطو نظرة غريبة للعالم وكأنه عالم قوى تسود فيه العقلانية، وكذلك أحلام البشر بالتفوق والتحكم في الطبيعة وفي البشرية جمعاء، وهكذا يدون اللبس بين الفردية البرجوازية والشخصية المسيحية، بين عقلانية اليونانيين من جهة والوضعية من جهة أخرى، بين العلم والتقنية، بين السياسة والماكيافيلية؛ أي بين سيادة الأساليب وإغفال البحث عن الأغراض والغايات”.

الإسهام الإسلامي في نهضة الغرب

وينتقل جارودي إلى بيان الإسهام الإسلامي في نهضة الغرب الحديثة، والانتقاء الذي مارسه الغرب في هذا الإسهام، حيث إنهم نقلوا العلم التجريبي الإسلامي دون القيم والتصورات التي أنتجته، فكانت حقيقة الغرب شوهاء وهي علم بلا قيم.

ويشير جارودي إلى “.. أن ما نطلق عليه اسم “عنصر النهضة” في الغرب لم يبدأ بالفعل في إيطاليا بعد صحوة العصور القديمة اليونانية الرومانية التي تختلف عن النموذج اليهودي المسيحي، ولكنه قام بالفعل قبل ذلك بثلاثة قرون عندما فتح العرب الجامعة الإسلامية في قرطبة بإسبانيا، ونشروا الترجمات العديدة للكتاب العرب كما شجعهم على ذلك القسيس ريموند من توليدو.

وهكذا، فبدلاً من أن يترجم هذا كصراع بين النزعة اليونانية الرومانية وبين النزعة اليهودية المسيحية، صراع بين العلم والإيمان، بين الدولة والمسيحية بين الفرد والمجتمع، فإن هذا التراث العربي الإسلامي ككل، كان على العكس يسمح بتعايش جميل بين السماوية والروحانية الخاصة بعقيدة إبراهيم التي يؤمن بها اليهود والمسيحيون والمسلمون على حد سواء كما كان يسمح بالعلم التجريبي: وخصوصًا بإقامة أمة لا تشغلها فقط الصراعات بين الأفراد أو الصراعات بين الدول.

ولكن للأسف الشديد، فإن هذا التراث الثالث لم ينقل للغرب إلا بطريقة مشوهة، فقد التهمت أوروبا أحد أشكال الحضارة الإسلامية ألا وهو العلم التجريبي الذي يختلف عن العقلانية اليونانية والمدرسة السكولاستيكية (حيث تسود فلسفة أرسطو) التي تسمى بالمدرسة المسيحية، حيث اهتمت بعلوم اللاهوت في أواخر القرون الوسطى، وهكذا يكفي أن يترجم أو يقتبس روجيه بيكون بعض فصول من كتاب “الأبصار” لابن هيثم حتى يطلق عليه لقب مؤسس الأسلوب التجريبي في العلوم، ولكن الغرب اكتفى بهذه الظاهرة فقط، وفقد هكذا نصف هذه الفلسفة العقلانية الإسلامية وفرق هكذا بين العلم والحكمة، بين التحكم في الأساليب والتفكير في الأغراض والغايات”.

نقد أسس بناء النموذج الغربي

إن الغرب الذي انتقى من المنهج الإسلامي جانبه التجريبي، ولم يستطع فك شفرات القيم المرتبطة به، أو تجاهلها عن عمد وقصد لأعراض مادية، كان أهم أسباب الفشل التي مُني بها العقل الغربي في قيادته للعالم، حيث تعامى عن الغرض الإنساني القيمي لهذا المسار التجريبي في النموذج الإسلامي.

وينتقد جارودي هذا الانتقال المشوه للعلم التجريبي الإسلامي إلى الغرب بقوله: “.. مع أن الذي يميز العلم الإسلامي ككل هو أنه لا يفرق أبداً بين الاستخدامين اللذين يقوم عليهما العقل الإنساني ألا وهما: البحث عن الأسباب والبحث عن الأغراض من ناحية، والتأمل والاستنباط اللذان يسمحان للمرء أن يرتفع من الأحداث إلى القوانين والنواميس ومن ناحية أخرى أن يرتفع من غايات بسيطة إلى غايات أسمى حتى يلمس ما يشعر المرء بضآلته أمام اللانهاية لهذه الإجراءات.

هذا القصور الذي أصاب العقل الغربي جعل الإنسان الغربي يتساءل دائمًا عن “الكيف”؛ أي عن الأسلوب، ويغفل السؤال عن الأسباب، هكذا يتساءل: كيف نصنع الأسلحة الذرية؟ كيف نذهب إلى القمر؟ ولا يتساءل: لماذا نصنع قنبلة ذرية؟ لماذا نذهب إلى القمر؟

هل هذه فعلاً أشياء أساسية بالنسبة للإنسان يجعلها تأتي في المقام الأول؟ ألا يمكننا بنفس هذه الإمكانيات المالية والعلمية والإنسانية أن نصل إلى أهداف أخرى؟ وكأننا هكذا وبهذا العقل الذي تنقصه أنبل وظيفة تلك التي قد تجعلنا نتساءل عن معنى لحياتنا وتاريخنا ولكل أعمالنا، وكأن فكرة “التقدم” معناها أن كل ما هو ممكن علمياً وفنياً يجب أن يكون.

وفي هذه الأساليب التي قد نعتبرها مقدسة، فإن أعظم نتاج للعلم والفن في الغرب ليس في خدمة الإنسان وفي سبيل تفتحه وتحرره أو لأي أغراض إنسانية، ولكنه فقط في خدمة التنمية كتنمية ولخدمة السيطرة كسيطرة والعنف كعنف، فهو إذن في خدمة هدم الطبيعة والإنسان وليس لخلق مستقبل أفضل له.

موت الحضارة الغربية

الحضارات التي تموت تلك التي لم تتفاعل مع الإنسان، في كليته وشموله وفردانيته عن باقي المخلوقات، لقد ذكر القرآن حضارات عاتية قوية بأنها هكلت مع الريح، ليست لأنها ضعيفة من حيث البنية المادية، ولكنها ذات أسس معنوية هاوية بإغفالهم قيم القيادة “الإنسانية”، وقيم القوة “العدل”، لذا فإن الحضارة الغربية التي قامت على أسس معنوية هاوية فقدت فيهما “الإنسانية” و”العدل” جديرة هي الأخرى أن تلحق بهذه الحضارات العاتية الطاغية.

ويعلن جارودي أن الحضارة الغربية ماتت لفقد هاتين القيمتين؛ “.. وهكذا فإن حضارتنا الغربية حالياً في سبيل الموت لا لأنها تفتقد الأساليب ولكن لأنها تفتقد الغايات، هذا هو إذن الوجه الخطير لأزمة الحضارة الغربية، أزمة المعنى، إن علماءنا الوضعيين وفنانينا الذين فقدوا الوجهة الصحيحة وكتابنا المتشائمين، يجسدون هذه الأزمة بدلاً من أن يساعدونا في التغلب عليها، وكأن الحضارة ليست تفكيرًا في الأغراض وفي معنى الحياة والموت، وهكذا نرى وحتى وسط الكبار منهم من يدفن الأمل ويحاول أن يدفع الشباب بأنه ليس هناك لحياتهم أو لموتهم أي معنى إطلاقًا.

بل أكثر من هذا، فإن هناك عالماً فرنسياً وصلت به فلسفته الوضعية إلى حد أن استنتج لكل مقاييس الحياة بعض النماذج والصور التي تشير إلى بعض التطور البيولوجي للحياة، وحاول أن يقنعنا أن وجودنا كله لا يقوم إلا على ما هو ضروري وما هو أيضًا عفوي دون أن يكون لهذا الوجود أي معنى إنساني، وأكبر فلاسفتنا ذهب إلى حد تعريف الحياة وكأنه عاطفة أو انفعال لا جدوى لهما يمثل فيها الناس الآخرون “جهنم”، كما يتغنى أديب آخر عن “اللامعقول” ويقدم لنا صورة مظلمة يكون فيها الإله (الذي حكمت عليه الآلهة بالعذاب الأبدي) وقد أصبح سعيدًا!”.

 

__________

الهامشان:

(*) أستاذ أصول التربية المساعد – جامعة دمياط.

(**) هذا النص الحضاري هو عبارة عن رسالة فكرية ألقاها روجيه جارودي في المؤتمر التاسع لمجمع البحوث الإسلامية بمناسبة العيد الألفي للأزهر الشريف، بالقاهرة عام 1983م.

 

Exit mobile version