«الإسلام السياسي» من جديد (1 – 2)

مصطلح «الأصولية» سقط لأنه لا يمتّ للإسلام بصلة وهو يخص أوروبا في عصورها المظلمة 

هناك من روّج لمصطلح «الإسلام السياسي» من غير الإسلاميين بقصد خبيث وانساق بعض الإسلاميين خلفه بنية حسنة 

هناك شيطنة للإسلاميين حتى لو آمنوا بالحريات واحتكموا إلى صناديق الاقتراع ودخلوا البرلمانات وشاركوا في الحكومات 

الحرب على الإسلاميين غير مسبوقة تستهدف وجودهم من قبل تيار لا يعرف غير الشر

 

 

شيطنة الذين يعملون للإسلام، من الأفراد إلى الجماعات إلى الأحزاب، إلى المؤسسات، من مجموعة ظالمة من مشارق البلاد ومغاربها، بات أمراً معروفاً ومعلوماً من المعرفة العامة والخاصة، وهو أمر مقصود ومهدف، وليس مسألة عفوية، ولا طارئة عن السياق العام في هذا الشأن، تخطيطاً ومكراً، وهو مسألة قديمة حديثة، وتتجدد بين الفينة والأخرى، وتخترع لها اللافتات المناسبة، والوسائل الماكرة، والآليات التي يعرف أصحابها من أين تؤكل الكتف؛ كيداً وبطشاً، وحقداً وانتقاماً، وقل مثل ذلك، تلك الشعارات التي يدرسونها بدقة حتى تؤدي الغرض المطلوب، من خلال خطة مدروسة، ومراحل منتقاة بشكل خبيث.
حقاً إنها سنة التدافع، قال تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40}) (الحج).
ففي عصرنا الحاضر، تراهم –في وقت من الأوقات– روّجوا عن الإسلاميين العاملين للإسلام، أنهم «أصوليون»، وقاموا بحملة رهيبة مليئة بالتحريض والتشهير والتشوية، وصوّروهم للناس بأنهم وحوش قادمة لحرق الأخضر واليابس، وأنهم متخلفون رجعيون، وظلاميون بائسون، وحجريون متخشبون، ودخل الناس في حيص بيص، في تعريف «الأصولية»، وما جذر هذا الوصف؟ وهل هو مدح أم ذم؟ وهل هو نعت إيجابي أم سلبي؟ ومتى يبدأ تاريخه؟ وما خصائصه؟ وما انتكاساته؟ وهل ينطبق هذا على الإسلاميين؟ أم أنه تلفيق عليهم، ولا يمت إليهم بصلة؟
وبعد جدل طويل من الأخذ والرد، والدراسات والكتابات، والندوات والمؤتمرات، والخطب والمحاضرات، والأطروحات والفلسفات، والبرامج والحلقات والمقابلات، سقط المصطلح بكل مفرداته؛ لأنه تبين وبشكل قاطع أنه لا يمتّ للإسلام والمسلمين بأي رابط من روابط الصلة، واتضح بما لا يقبل الجدل بأنه مصطلح تاريخي يخص أوروبا في عصر من عصورها المظلمة القاسية المؤلمة، لما تولى رجال الكنيسة مقاليد الحياة بالتحالف مع الإقطاع، وبثنائية رجل السياسة مع رجل الدين، فكانت أن أظلمت الحياة، وعاش الناس في حالة من البؤس، حيث شاع فصل العلم عن الإيمان، وبرزت ظاهرة الاستغلال للدين ليأكلوا باسمه ما في أيدي الناس، وكانت هناك قصص وقصص، ومظالم مركبة، وحوادث جسام، انتهت بثورة شعارها «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس».
المهم في الأمر، أراد أصحاب الكيد أن يجعلوا الإسلاميين كهؤلاء، ويصفوهم بالأوصاف نفسها، ويعطوهم الخصائص ذاتها، وهذا من الافتراء البين، والظلم الشديد، والكذب الذي حبله قصير، وشتان شتان بين أولئك وهؤلاء.
ولأن الحرب مستمرة عند هذا الصنف من الناس، فلا بد من لون جديد يعبر عن ديمومة هذا الصراع، فإنهم لما تركوا مصطلح «الأصولية» ليأتي مصطلح «الإسلام السياسي»، ثم التهمة القديمة الجديدة، التي لا تكاد تنقطع، هي تهمة «الإرهاب»، ووصف أصحاب المشروع الإسلامي الشامل بالإرهاب، وهم أبعد الناس عن هذه الفرية، ولا يمتون لها بصلة، وهم من هذه الفرية براء، وهم لها منكرون، ولسبيلها منددون، ولطريقها منتقدون.

مصطلح دخيل
كتبتُ ذات يوم مقالة عن الموقف من مصطلح «الإسلام السياسي»، وخرجت بالنتيجة بأن هذا المصطلح دخيل –رغم إيماني بقاعدة «لا مشاحة في الاصطلاح»- ويهدف صانعوه إلى معان خطرة، وهناك من روج له من غير الإسلاميين، بقصد خبيث، وانساق بعض الإسلاميين خلفه بنيّة حسنة، بتبني هذا المصطلح على أنه مولود شرعي، وتوصيف صحيح، والمراد منه سليم، وظنوا أنه مصطلح مفيد وله أغراض نبيلة.. هكذا يظنون، وأختلف معهم.
وإننا إذ نحسن الظن بإخواننا هؤلاء، وإنهم إنما يريدون الخير من وراء هذا التبني، إلا أنه خطأ واضح، إذ لم يدركوا مراميه، ولم يقفوا على حقيقة مقاصده، ولم ينظروا بعمق إلى أهدافه، وشأنه شأن مصطلح «الأصولية»، والتاريخ يعيد نفسه.
فإذا كان الجدل قديماً حول قيمة المصطلح ودلالاته، التي عمادها أن الإسلام دين شامل وليس فيه هذه التجزئة التي يفصلها غير المسلمين على مقاسات هواهم، فالإسلام هو الإسلام، نظام يشمل شؤون الحياة جميعاً لا يستثني مفردة منه على الإطلاق، فليس هناك إسلام عربي وآخر أعجمي، ولا يوجد إسلام صوفي ومقابله إسلام غير صوفي، وإسلام اجتماعي ويناظره إسلام غير اجتماعي، وهكذا، فلا فصل بين شأن من الشؤون، إلا إذا كان في عالم التخصص، وترتيب الأولويات، أما الفصل الفكري، فلا يمت إلى الإسلام بصلة.

شبكة شر!
اليوم يثار هذا المصطلح بطريقة مختلفة، إذ يعمد قوم من الساسة، وقيادات ذات سلطة وصولجان، وكتَّاب وإعلاميون، إلى «شيطنة» أصحاب «الإسلام السياسي!»، ويعدون العدة لحربهم، والعدوان الواسع عليهم، واتهامهم بتهم خطرة، ويشحذون لهم سكاكين الذبح من الوريد إلى الوريد، بل قال قائلهم: لا استقرار للمنطقة ما دام «الإسلام السياسي» موجوداً، وأصحابه على قيد الحياة، ويتحرك أصحابه، ويتنفسون الصعداء، فهم إرهابيون، ومن أصحاب الأجندات الهدامة! سبحان الله! حتى لو آمنوا بالحريات، والتعددية السياسية، واحتكموا إلى صناديق الاقتراع، ودخلوا البرلمانات، وشاركوا في حكومات، واشتغلوا بلغة الإقرار بالعمل بالدستور، وبمفردات المشاركة والمعارضة؟! نعم، وعنزة ولو طارت، ولو خرجت من جلدك ما أعرفك.
وهنا ظهر مقصدهم من توصيف الإسلاميين ومشروعهم، بأنه إسلام سياسي، ولم يريدوا من إطلاقهم للمصطلح الخير والسلامة، وهذا ما كان يحذر منه، إذ لم يكونوا يريدون للإسلاميين الثناء ليلجوا دائرة العمل السياسي بوصفهم معتدلين، كلا! بل جعلوا من المصطلح شبكة شر المراد منها اصطيادهم، وإدخالهم في فخ مقصدهم، ألا وهو أنهم جسم غريب في الدنيا، وأصحاب مخططات هدّامة، وهم عين الهلكة، وعنوان الويل، وأنهم خطر على كراسي الرؤساء، وعروش الملوك، وخطر على السياسة، وكذا على الاقتصاد، وكل حركة من حركات الحياة، مهددة بهم وبما أتوا به، فهم أخطر من الكيماوي والسلاح النووي، ويطبلون ويزمرون ويكبرون ويصغرون ويحذرون وينذرون، ويثيرون العالم عليهم، ويخوّفون الصغير والكبير منهم، ويهيجون الدنيا من أجل مقاومتهم، لأجل القضاء عليهم، بذرائع تافهة، وحجج واهية.
وسبب هذه الهجمة الشرسة على هذا النمط من الإسلاميين، هو في الحقيقة لأنهم روح الأمل الذي يحمل على عاتقه همّ الأمة، وحق الشعوب، في حياة حرة كريمة، وإرادة الخير لهم، بنفس وطني خالص، وبمرجعية إسلامية ضابطة، وهنا يتحسس الطغاة هذا الخطر من هؤلاء.

حرب غير مسبوقة
أقول لمن يوصفون بأنهم أصحاب «الإسلام السياسي»: الحرب شرسة ضروس، ولو قلت: غير مسبوقة، لم أبعد عن الصواب، تستهدف وجودكم، وتعمل على القضاء عليكم من قبل تيار لا يعرف غير الشر، ولا يفهم سواه، فاصبروا وصابروا ورابطوا، وتمسكوا بمنهجكم الوسطي، ولا تخرجوا عن دائرة الاعتدال، مهما ضغطوا عليكم، وحاولوا استفزازكم، وتمسكوا بقيم الحوار بالتي هي أحسن، وتمسكوا بمنهجكم الراشد الشامل، والنصر قادم لا محالة، بعز عزيز وذل ذليل.
شكى خباب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (رواه البخاري).

Exit mobile version