فقه الشائعات

تظهر عظمة الإسلام في الحفاظ على المجتمعات من خلال وضع دستور يحفظ حرمة المسلم على أخيه المسلم، وهو أقل الواجب في حقه، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عرض المسلم حراماً على أخيه، فيحرم عليه أن يفتري على أحد من المسلمين الكذب، فقال صلى الله عليه وسلم: “كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه”، بل إن الافتراء على غير المسلم حرام أيضاً، لأنه نوع من الإثم والاعتداء.

وقد عرف هذا في عرف اليوم باسم “الشائعات”، وذلك لانتشار الافتراء على الآخرين، وشيوعه بين الناس، وقد استغلت وسائل التواصل الاجتماعي والوسائل المعاصرة اليوم لنشر تلك الأكاذيب المحرمة، التي تهدد كيان المجتمع المسلم، وتفتت أواصر الأخوة.

وقد تحدث الفقهاء عن “الشائعات” بأسماء مختلفة، من ذلك “الكذب”، و”الإفك”، و”البهتان”، و”القذف”، و”الافتراء”.. وغيرها من المصطلحات الشرعية التي يقصد بها بالمفهوم المعاصر “الشائعات”.

ويعد حفظ العرض من أهم مقاصد الشريعة، حتى إن بعض الفقهاء جعلوا مقاصد الشريعة الكبرى ستة، هي الخمسة المشتهرة “حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال”، وزادوا عليها “حفظ العرض”، فصورة المجتمع المسلم هو أن يعيش الناس في سلامة على أبدانهم وأموالهم وأعراضهم، ويأمن المسلم على نفسه من أذى إخوانه.

تعريف الشائعات

والمقصود بالشائعات افتراء الكذب على الآخرين، فهو نوع من الكذب، وأقرب المصطلحات إليه “الإفك”، ويستعمل الفقهاء الإفك في باب القذف بمعنى الكذب، وعرف الألوسي وغيره الإفك أنه: أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وكثيراً ما يفسر بالكذب مطلقاً، وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى يفاجئك، والإفك صرف الحقائق إلى غير محلها، فهو الكذب الذي يصرف الناس عن وجه الحق بالافتراء.

حكم الشائعات

الشائعات حرام في دين الله تعالى، يحاسب صاحبها عند الله تعالى في الآخرة، كما أنه يحاسب عليها في الدنيا، وذلك يدخل في باب التعزير، فمن حق المسلم الذي افتري عليه كذباً وزوراً وبهتاناً رفع دعوى للقضاء، بأنه قد اعتدي على عرضه وسمعته وشرفه، ومن حق القاضي إن ثبتت الدعوى أن يعزر صاحب الشائعات بما يراه رادعاً له عن ذلك؛ حفاظاً على المجتمع.

على أن الشائعات إن تعلقت بالاتهام في الأعراض بارتكاب الفاحشة، ففيها حد القذف.

الشائعات بالاتهام بالزنا

وهي هنا بمعنى القذف، وهي حرام بإجماع فقهاء المسلمين، بل هي من أعظم الكبائر عند الله تعالى، ودليل حرمتها الكتاب والسُّنة والإجماع، فمن الكتاب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور)، وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النور: 23).

وأما دليل التحريم من السُّنة؛ فما أخرجه البخاري من قول النبي صلى الله عليه وسلم: “اجتنبوا السبع الموبقات”، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: “.. وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات”.

وقد يكون القذف مباحاً، وذلك في حال أن يرى الرجل زوجته تزني بيقين، وليس ثم ولد يلحقه نسبه، فله أن يقذفها، وله أن يستر عليها، أما إن كان يحلقه من الزنا ولد، ولم يكن وطأ زوجته في طهرها الذي زنت فيه، ثم اعتزلها حتى ولدت، وأمكنه نفي الولد عنه، وجب عليه قذفها ونفي ولده، كما نص الفقهاء.

الشائعات دون الاتهام بالزنا

وهي تقع في باب التعازير، وليس فيها حد، وللحاكم أو من ينيبه من القضاة الحكم على مروجي الشائعات بما يردعهم حفظاً للمجتمع من الانفساخ والتفكك ونشر العداوة بين المسلمين.

وسائل تحريم الشائعات

عالج الإسلام الشائعات من جهتين؛ جهة الوجود، وجهة العدم.

أولاً: جهة الوجود:

وذلك بما يلي:

1- القول الحسن: فقد أمر الله تعالى عباده أن يقولوا القول الحسن فيما بينهم، كما قال تعالى: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: 83)، بل وجه المسلم إلى أن يتخير أحسن الكلام لأخيه، كما قال سبحانه: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) (الإسراء: 53).

2- الولاية بين المسلمين: كما أوجب الإسلام على المسلم أن يوالي الله ورسوله والمؤمنين، وأن من تمام هذه الولاية الحب في الله تعالى، كما قال سبحانه: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (التوبة: 71).

3- أداء حقوق الأخوة من إفشاء السلام وسلامة الصدر، وحسن الخلق والتعامل، وعيادة المرضى، والزيارة في الله وغيرها من حقوق الأخوة، وفي الحديث: “حق المسلم على المسلم ست”، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: «إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه”.

4- الستر عليه، وهو من أعظم الأمور التي يحافظ بها المسلم على أخيه، ففي الوقت الذي يسعى بعض الناس للافتراء والكذب على إخوانهم، هناك من الصالحين من رأى شيئاً من أخيه ستر عليه، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال: “من ستر أخاه المسلم في الدنيا؛ ستره الله يوم القيامة”.

5- الدعاء بظهر الغيب، بحيث يحفظ المسلم حرمة أخيه في غيبته، بل يدعو له بالخير بظهر الغيب، فإنها دعوة مستجابة.

ثانياً: جانب العدم:

ومن جانب العدم، حرم الإسلام على المسلم كل ما يؤذي أخاه المسلم، كما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلم، ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه”.

وهذا حديث جامع في دفع الأذى عن المسلم، اشتمل على ترك الأذى الحسي والمعنوي، من ترك التحاسد والبغضاء والشحناء والخصام، وعدم البيع على بيع الآخر، وترك الظلم وعدم الخذلان والاحتقار، وحرمة الدم والمال والعرض.

الواجب تجاه الإشاعات

1- حرمة بث الشائعات وتداولها، بل الرد على من أشاعها ومنعه من نقلها إلى غيره، وفي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم، وأنا سليم الصدر”.

2- التثبت من الشائعات، وعدم تصديقها، لقوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6).

3- الدفاع عن المغتاب الذي تقع عليه الشائعات، كما ورد في سنن الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم: “من رد عن عرض أخيه؛ رد الله عن وجهه النار يوم القيامة”.

4- مقاطعة من ينشر الشائعات، فقد قاطع النبي صلى الله عليه وسلم الذين تخلفوا في غزوة تبوك، وأمر المسلمين بمقاطعتهم، وقد ورد في الحديث: “لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام”، قال العلماء: تجوز المقاطعة، ولكنها تكون مثل الملح في الطعام.

5- جواز سن قوانين تردع الشائعات وتحفظ غيبة الناس وأعراضهم، مما يقع تحت التعازير الشرعية.

إن ذيوع الشائعات في مجتمع على بعض الأشخاص لا يعني نقصان هؤلاء الذين تقع عليهم الشائعات، بقدر ما يدل على نقص الذين ينشرون الشائعات، فأولئك نفوسهم مريضة، وقلوبهم سقيمة، وهو كالمر والعلقم، قربهم داء والابتعاد منهم دواء، والأولى أن يجتنبهم الناس؛ حتى يسلموا من أذاهم، ويعينهم على سلامة نفوسهم من أذى الغير، بل من أذى أنفسهم.

 

________________________

(*) أستاذ مشارك في الفقه والأصول.

Exit mobile version